الأحد ١٠ أيار (مايو) ٢٠٠٩
بقلم عادل الأسطة

سلطة اللغة ولغة السلطة

تأملات في تجربة محمود درويش

(1) سلطة الحزب: رأي الشاعر

هل كان للغة درويش، حتى العام 1970 عام تركه الأرض المحتلة وخروجه إلى العالم العربي، سلطة على قرائه ونقاده أم أنه هو نفسه كان يخضع للغة أخرى، لأنه كان منضوياً تحت لواء حزب، هو الحزب الشيوعي، وفيه يفني الفرد ذاته لخدمة أغراض الحزب وأهدافه وتوجهاته، مختاراً أولاً وخاضعاً منفذاً من ثم، لأنه حين اختار ولم يجبر على الاختيار، لا بد من الانصياع للأوامر التي تُتخذ من الدوائر العليا في الحزب، وما على الفرد الذي يتبع خلية إلا الانصياع لما يأتي من أعلى؟

انتمى درويش إلى الحزب الشيوعي وغدا واحداً من شعرائه الناطقين باسمه، وإذا كان المفكر والسياسي يستخدمان لغة مباشرة للتعبير عن أفكار الحزب وطروحاته، فإن الشاعر – ودرويش حزبياً شاعر – يعبر عن الأفكار ذاتها وطروحات الحزب ذاتها شعراً. إنه يستخدم لغة تتفق ولغة المفكر والسياسي، ولكن الصياغة فيها تختلف، إذ تميل إلى الخيال والرمز والاستعارة غالباً، أو أن هذه تشكل جزءاً منها.

وإذا ما طابق المرء بين الطروحات السياسية للحزب الشيوعي الذي انتمى إليه درويش وما طرحه درويش في أشعاره التي صاغها في حينه، فإنه واجد لا شك تطابقاً كبيراً. وهذا التطابق يعني خضوع لغة الشاعر للغة الحزب والتطابق معها، مع هامش اختلاف يكمن في الأسلوب واستخدام الاستعارات والمجاز والكنايات التي يتطلبها الشعر من حيث هو جنس أدبي له مواصفاته الخاصة.

وإذا ما عاد المرء إلى النقد الذي مارسه مفكرون وسياسيون حزبيون، وهم يقرأون أشعار درويش، فإنه لا شك واجد عين الرضا ماثلة طالما صاغ الشاعر شعرا أفكار الحزب أيضاً بالمذهب الأدبي الذي يتبناه الحزب. ولمّا كان الحزب الشيوعي يتبني الواقعية الاشتراكية مذهباً أدبياً، فإن التزام درويش بها، كما يفهمها نقاد الحزب، سيعلي من أشعاره ويثمنها أولئك النقاد، وستكون لقصائده سلطة على قرائه الذين يتفقون مع الحزب والذين يختلفون معه، فأنصار الحزب والمؤمنون بأفكاره سوف يرددون أشعار الشعر ويحفظونها، وسيكون لها سلطة عليهم باعتبارها إحدى مرجعيات الحزب الذي يدينون له بالولاء، وأما الذين يختلفون معه فسيجدون أنفسهم يعارضون نصوص الشاعر، ويدحضونها ويردون عليها. وسواء اتفقوا معها أو اختلفوا فستمارس نصوصه أيضاً عليهم قدراً من السلطة، لا من باب الولاء لها، بل من باب معارضتها. فأنت بالقدر الذي تخضع فيه لأفكار تؤمن بها وللغتها، فإنك أيضاً تجد نفسك أحياناً تعيش تحت سلطة ترفضها أو خطاب ترفضه لمجرد أنك توليه اهتمامك، فالطاعة خضوع لسلطة ما، والرفض أيضاً ضرب من الخضوع وإن كان سلبياً.

في تفحص تجربة درويش حتى العام 1970، وملاحظة إن كان للغته، ممثلة في قصائده، سلطة ما على الآخر المتعدد – أعني قراء قصيدته عرباً وغير عرب، مؤيدين ومعارضين، يلحظ المرء شيئاً من هذا. هنا لن أعتمد على ما تقوله نصوص الشاعر، لأن هذا لن يظهر مدى سلطتها على الآخر، وإنما سأعتمد على ما قال درويش في بعض المقابلات التي أجريت معه، والكتب النثرية التي أصدرها، وأتى فيها على تجربته الشعرية، حتى العام 1970.

في كتابه (ذاكرة للنسيان) الذي أنجزه بعد خروج المقاومة من بيروت في العام 1982 يأتي درويش على تجربته بعد الخروج من الأرض المحتلة في العام 1970، وعلى علاقته مع مستمعي شعره من جمهور الشعر في العالم العربي، هؤلاء الذين كانوا باستمرار يطالبونه بقراءة قصيدته (سجل أنا عربي) ولقد كان يستغرب كيف يطالبه هؤلاء العرب بقراءة قصيدة كتبها في مكان آخر، ليقول للحاكم العسكري الصهيوني إنه عربي، إذ لو كان في العالم العربي لما قال ما قال، فهو عربي في بلاد العرب. كان لهذه القصيدة سلطة على الجماهير العربية في العالم العربي، ولكن سلطتها الأقوى كانت على الجماهير العربية في فلسطين بعد احتلالها في العام 1948 – أي فيما عرف بدولة إسرائيل التي انتهجت سياسة التمييز العنصري، فميزت بين مواطن يهودي الديانة، ومواطن مسيحي أو مسلم. في (ذاكرة للنسيان) يسترجع درويش هذا كله فيكتب:

(سجّل! إيقاع قديم أعرفه. سجل – أنا، أعرف هذا الصوت البالغ من العمر خمساً وعشرين سنة. يا للزمن الحي، يا للزمن الميت، يا للزمن الخارج من الزمن الميت. سجل: أنا عربي، قلت ذلك لموظف قد يقود ابنه إحدى هذه الطائرات. قلتها باللغة العبرية لأستثيره. وحين قلتها باللغة العربية مسّ الجمهور العربي في الناصرة تيار كهربائي سرّي أفلت المكبوت من قمقمه. لم أفهم سر هذا الاكتشاف، كأنني نزعت الصاعق عن ساحة ملغومة ببارود الهوية، حتى صارت هذه الصرخة هي هويتي الشعرية التي لا تكتفي بأن تشير إليّ، بل تطاردني.

لم أدرك أنني كنت في حاجة لأن أقولها هنا في بيروت: سجل، أنا عربي. هل يقول العربي للعرب إنه عربي؟ يا للزمن الميت، يا للزمن الحيّ!) [ ذاكرة، ص140 ].

وربما يجدر هنا التشديد على عبارة: (وحين قلتها باللغة العربية مس الجمهور العربي في الناصرة تيار كهربائي سري أفلت المكبوت من قمقمه: ذلك أنها العبارة التي تفصح لنا عن سلطة اللغة وقوتها وخضوع الآخرين لها. ولم يكن تأثيرها وسلطتها على الجماهير المعنية بالأمر، الجماهير التي نطق الشاعر باسمها، بل تعداها الأمر ليلامس الجمهور العربي في الوطن العربي، فمطالبة هذه الجماهير الشاعر بأن يقرأ على مسامعها هذه القصيدة مؤشر على مدى تأثيرها عليها وسلطة اللغة عليها أيضاً.

وغير بعيد عن قصة هذه القصيدة يمكن الحديث عن مدى تأثير شعر المقاومة على القراء العرب بعد هزيمة 1967، واستقبال هؤلاء له استقبالاً لافتاً، ما جعله عاملاً من عوامل مقاومة الهزيمة وتأثيرها السلبي، ودافعاً للعزيمة، ودافعاً الكثيرين من الشباب إلى الانضمام إلى حركة المقاومة للثأر من الهزيمة، وقد اندفع هؤلاء مرددين قصائد الشاعر ورفاقه.

لكن درويش الذي خضع لسلطة الحزب ولغته بشكل عام، كانت شاعريته أحياناً تجعله يتمرد على ما اختط له ووافق، ابتداء، عليه، فبقدر ما خضع للغة الحزب وشعاراته وخطابه، خضع أيضاً لسلطان اللغة نفسها ولخياله الجموح الذي عبر عنه من خلال اللغة. وكما ذكرت فإن لغة الشعر لا تخلو من صور واستعارات وتشبيهات. إنها لغة انزياح، وهذا ما لا يرضي السياسي والمفكر، بخاصة إذا بالغ الشاعر في استخدامه، إذ سيغدو الشعر ولغته عامل انفصال عن الجماهير لا عامل اتصال معها، والحزب يدعو إلى جماهيرية الأدب، وعلى الأديب الشيوعي أن يكتب أدباً جماهيرياً. ومن يتابع (أوراق الزيتون) (1964) و (عاشق من فلسطين) (1966) فسيلحظ اختلافاً بيناً واضحاً بينهما، سيعزز في ديوان (آخر الليل) (1968)، وهذا ما لم يرضِ رفاق الشاعر في الحزب، إذ رأوا فيه خروجاً عما يريدون، ومن هنا فإنهم في نقودهم لأشعار الشاعر الأخيرة – أي عاشق وآخر الليل – لفتوا نظر الشاعر إلى هذا. وسيقر درويش في مقابلات لاحقة أجريت معه وأتى فيها على تلك الفترة بهذا.

يقول درويش، في حوار أجراه معه عباس بيضون في العام 1995، عما سبق:

وفي تجربتي الطويلة مررت بتعدد بدايات. عندما أصدرت ديواني الأول (أوراق الزيتون) وجد قبولاً. لكن عندما كتبت (عاشق من فلسطين) طالبني النقد الماركسي الرسمي بالعودة إلى ماضي (وأي ماض كان لي؟ وليس سوى كتاب واحد).

( مشارف، ص110 ). ( عدد 3، تشرين الأول 1995 ).

التمعن في نماذج شعرية من تلك الفترة:

هل كانت أشعار درويش تبرز ثقته باللغة وسلطتها؟ ربما يجدر العودة إلى أشعاره التي كتبها في حينه، فقد كان فيها يُنظّر للشعر وسلطته، وغير خفي على قارئ للشعر متخصص فيه أن مادة الشعر الأولى هي اللغة. لنمعن النظر في الأبيات التالية من مجموعة " أوراق الزيتون "(1964).

حملت صوتك في قلبي وأوردتي
كل الرواية في دمي مفاصلها
أطعمت للريح أبياتي وزخرفها
آمنت بالحرف .. إما ميتا عدما
فإن سقطت .. وكفي رافع علمي
فما عليك إذا فارقت معركتي
تفصل الحق كبريتاً على شفتي
إن لم تكن كسيوف النار قافيتي
أو ناصباً لعدوي حبل مشنقة
سـيكتب الناس فوق القبر .. لم يمت

( مجلد 1، ص54)

يؤمن الشاعر بالحرف، وهو يرى فيه حرفاً ميتاً وحرفاً قاتلاً، والأمر في النهاية يتعلق بمستخدمه. قد يكون للحرف قيمة، وقد لا يكون. قد يكون له سلطة وقد لا يكون، والذي يمنحه السلطة أو يسلبها منه هو الشاعر. ينصب الحرف للعدو حبل مشنقة، وحتى إذا لم ينجز ذلك ودفع الشاعر الثمن ومات، فإنه لن يموت لأنه خلد من خلال حرفه / لغته.

في قصيدة ثانية عنوانها (لوركا) يكون الشاعر زلزالاً وإعصار مياه ورياحاً إن زأر يهمس الشارع للشارع: قد مرت خطاه فتطاير يا حجر.

ربما يجدر هنا تذكر قصيدة درويش التي كتبها إثر هزيمة 1967 وأهداها للشاعرة فدوى طوقان، وهي قصيدة (يوميات جرح فلسطيني). في هذه يقول:

" نحن يا أختاه من عشرين عام

نحن لا نكتب أشعارا

ولكنّا نقاتل " ( مجلد 1، ص342).

هنا لا ينطق درويش باسمه الشخصي، وإنما باسم رفاقه شعراء الأرض المحتلة وكتابها، هؤلاء الذين كانوا يقاومون من خلال الكلمة، لأنهم – مثل أدباء الواقعية الاشتراكية بشكل عام - يؤمنون بجدوى الكتابة وأهميتها وسلطتها. وربما ما كان يدعم هذا في حينه أن سلطات الاحتلال الإسرائيلي أقدمت على سجن الشاعر ورفاقه غير مرة، لاقتناعها بأن لغتهم تحرك الجماهير وتؤلبها ضد السلطات الحاكمة. وحين يزور درويش حيفا في العام 2007 ويرى السجن الذي أودع فيه يوم كان يقيم في المدينة يكتب:

(أعبر من شارع واسع إلى جدار سجني

القديم وأقول: سلاماً يا معلمي الأول في

فقه الحرية. كنت على حق: فلم يكن الشعر

بريئاً ". ( أثر الفراشة، ص282).

وسيكتب أيضاً مقطعاً مهما جداً:

" هل قال أحدهم: إن سيد الكلمات هو

سيد المكان؟ ليس هذا زهوا ولا لهوا.

إنه أسلوب الشاعر في الدفاع عن جدوى الكلمات، وعن

ثبات المكان في لغة متحركة) ( السابق، نفسه ).

(2) مرحلة بيروت 1971-1982

بعد خروج الشاعر من الأرض المحتلة أثيرت أسئلة حول مستقبله لعل أبرزها السؤال التالي: خروج الشاعر من الأرض المحتلة قتل له أم بعث له؟

وسيجعل السؤال السابق الشاعر يفكر: هل كانت قيمته الشعرية تنبع من القضية التي عبر عنها في أشعاره أم من خلال كونه شاعراً بالدرجة الأولى؟ بكلمات أخرى: هل تنبع قيمة درويش شاعراً من خلال وجوده في الأرض المحتلة أم من خلال لغته وخياله؟

لن يعود درويش يعبر في أشعاره التي سيكتبها في المنفى عن طروحات الحزب التي آمن بها، ولكن هذا لا يعني أنه تخلى كلياً عن ماضيه، فثمة ما هو مشترك بين ما آمن به وما آمن به الحزب أيضاً. ثمة تقاطعات في قضايا عديدة، ولعل الذي سيختلف، إلى جانب اختلاف في الرؤية السياسية، هو اسلوب الشاعر في الكتابة. إن المعطيات الثقافية التي ستوفرها له القاهرة وبيروت وعواصم أخرى، والقضايا الشعرية التي يثيرها شعراء هذه المدن وغيرها، مختلفة عن تلك التي عاشها في حيفا، وسيحاول الشاعر أن يثبت أنه شاعر وأن أهميته وقيمته الشعرية لا تنبع من المكان الذي أقام فيه ومن الموضوع الذي خاض فيه. ولسوف تختلف لغته وقناعاته باللغة وبالشعر أيضاً.

إذا ما توقفنا أمام مقطع شعري ظهر في ديوانه الأول الصادر بعد خروجه من الأرض المحتلة، وهو ديوان " أحبك أو لا أحبك "(1971) فإننا سنلحظ شيئاً مما سبق.

يقول المقطع:

يوم كانت كلماتي
تربة ..
كنت صديقاً للسنابل
يوم كانت كلماتي
غضبا
كنت صديقاً للسلاسل
يوم كانت كلماتي
حجراً ..
كنت صديقاً للزلازل
يوم كانت كلماتي
ثورة..
كنت صديق للزلازل
يوم كانت كلماتي
حنظلاً
كنت صديق المتفائل
حين صارت كلماتي
عسلاً ..
غطى الذباب شفتيّ !

( أحبك أو لا أحبك، ص17 وما بعدها ).

ثمة تغير في لغة الشاعر يقر هو، ويعترف، به. ثمة مرحلة جديدة اختلفت فيها لغته عن لغته السابقة. كانت كلماته تربة وغضباً وحجراً وثورة وحنظلاً، وكان، حين كانت كما سبق، صديقاً للسنابل والسلاسل والزلازل وللمتفائل، أما حين غدت عسلاً فقد غطى الذباب شفتيه. ولما سبق دلالة لا تخفى، فحين كان ملتزماً وواضحاً وشاعر قضية كان له أصدقاء، أما حين غدا يهتم بالجمال فقد غطى الذباب شفتيه. لقد انحاز لجمال اللغة أكثر من انحيازه للفكرة، ولذا لم يستقبل كما كان يستقبل. وستظل بذرة هذه القصيدة تنمو وتنمو داخل الشاعر، وسيظل يعبر عنها بعبارات مختلفة. هو لا يريد أن يكرر نفسه، وهو يريد أن يرتقي بالقارئ، ولكن الأخير لا يتقبل جديد الشاعر بسهولة، ما يعني أن سلطة الشاعر ستتأثر سلباً. هل تختلف قصيدة " اغتيال " من كتاب " أثر الفراشة "(2008) في فكرتها عن فكرة القصيدة السابقة؟ لا أظن ذلك، فما اختلف هو إعادة الصياغة. يطالبه النقاد بأن يكتب على غرار ما كتبه " يريدون القصيدة ذاتها "، وهو يرفض هذا، ولن يرضخ لهم، وإنما سيذهب إلى قصيدته الجديدة.

في ديوان " أحبك أو لا أحبك " مقطع لافت ورد في قصيدة " سرحان يشرب القهوة " يلامس موضوع سلطة اللغة وعدم سلطتها. يأتي أنا المتكلم في النص على واقع العالم العربي، فيرى أنه بائس، لأنه يحقق الانتصارات اللفظية فقط. يحارب العرب بالكلام، كأنهم ظاهرة لغوية، أما حروبهم على أرض الواقع فتنتهي بالهزائم. ولم تكن هزيمة 1967 قد نسيت، فما زالت آثارها واضحة. ينتصر العرب بالبلاغة، ولكنهم ليسوا سوى صدى، فالآخرون الذين لا يتكلمون يقتلون أطفالنا ويصكون أسلحة من أساطير. الصدى نحن، وإن انتصرنا لفظاً.

يقول المقطع:

وتكتب ض.ظ.ق.ص.ع وتهرب منها، لأن
هدير المحيطات فيها ولا شيء فيها. ضجيج الفراغ
حروف تميزنا عن سوانا – طلعنا عليهم طلوع المنون –
فكانوا هباء وكانوا صدى. صدى نحن. هم يحرثون طفولتنا
ويصكون أسلحة من أساطير. نقصفهم بالحروف السمينة
ض.ظ.ص.ق.ع. ثم نقول انتصرنا. ( أحبك، ص158).

هنا لا سلطة للغة ولا تأثير، لأن صاحبها يهدد ولا يفعل. ثمة ضجيج، ولكنه ضجيج الفراغ.

وسيلازم سؤال جدوى اللغة الشاعر في هذه المرحلة، وسيظل يلازمه حتى الخروج من بيروت، وحتى بداية الانتفاضة الأولى. في ديوان " أعراس "(1977) مثلاً، قصيدة عنوانها: " وتحمل عبء الفراشة "، يرد فيها المقطع التالي:

" ستقول طالبة: وما نفع القصيدة؟ شاعر يستخرج
الأزهار والبارود من حرفين. والعمال مسحوقون
تحت الزهر والبارود في حرفين. ما نفع القصيدة
في الظهيرة والظلال؟ تقول شيئاً ما وتخطئ: سوف
يقترب النخيل من اجتهادي، ثم يكسرك النخيل ".( أعراس، ص123 ).

ثمة سؤال، على لسان طالبة، عن نفع القصيدة/ اللغة. هل تنقذ هذه عاملاً مسحوقاً تحت البارود في حرب؟ إن سؤال الطالبة هو سؤال الشاعر نفسه في تلك المرحلة التي كان فيها شاعر ثورة يرى الفدائيين يقاتلون ويستشهدون، وهو لا يفعل سوى كتابة القصائد: يمدح الفدائي ويرثي الشهيد، وقد كثر هؤلاء لدرجة أن نشيد الشاعر، لكثرة جراح الفدائي، يأتي دائماً أسود، وهذا ما ورد في قصيدة " نشيد إلى الأخضر " – أي الفدائي: " ونشيدي لك يأتي دائماً أسود من كثرة موتي قرب نيران جراحك ". كأنما لم يكن للغة / لغة الشاعر في هذه المرحلة من سلطة. إنها لا تفعل قدر ما تنفعل، وإن كان الشاعر ما زال يؤمن بدوره القيادي، فيحذر الفقراء من لغة الصدى والأنبياء.

ولئن كانت لغة درويش، في هذه الفترة، تنفعل أكثر مما تفعل فإنه لا يستطيع أن يغض الطرف عن تأثير لغة الصدى والأنبياء على الفقراء، ولهذا يحذرهم منها، فهو لا يرضى عنها، ويرى تأثيرها على الفقراء ذا مردود سلبي. إنها لغة مضللة. ما المقصود بلغة الصدى والأنبياء؟ لغة الصدى تختلف عن لغة الأصل/ لغة الصوت، ومن المؤكد أن المقصود بدال الأنبياء هنا شيء آخر غير المدلول الديني. قد يكون الأنبياء هؤلاء فلاسفة معاصرين أو سياسيين معاصرين أو رجال دين بفسرون لغة الأنبياء الأوائل تفسيراً جديداً. [ حول ذلك انظر دراستي: قراءة في سطر شعري لمحمود درويش في ضوء المناهج النقدية الحديثة ). وسأعود لتفسير هذا الدال بعد صفحات.

في لحظة ما، في العام 1979، يختلف درويش مع أدوات تحقيق أحلامه – والتعبير له – أي مع قيادة م.ت.ف، وتحديداً مع ياسر عرفات، ويجد نفسه يترك بيروت ويرحل إلى باريس، وهناك يكتب قصائد عديدة نشرها في مجلة الوطن العربي، وقد عبر فيها عن اختلافه شاعراً مع الرموز السياسية. وسيستعير المتنبي قناعاً ليكتب من خلال تجربته مع كافور عن تجربته هو. رحل المتنبي إلى مصر لخلاف مع سيف الدولة، ورحل درويش من بيروت لخلاف مع ياسر عرفات، وستغدو القصيدة الجديدة وطن الشاعر.

في هذه القصيدة مقطع لافت يبرز سلطة اللغة، ويرى أنها أقوى من سلطة القصر. القصيدة تهدم القصر، وليس العكس. يكتب درويش على لسان المتنبي:

" والقرمطي أنا

أبيع القصر أغنية

وأهدمه بأغنية

ولا أباع " ( حصار لمدائح البحر، ص46 ).

وفي فترة لاحقة، في منتصف الثمانينيات من ق20، سيسأل عن رأيه في المتنبي، وسيقول كلاماً مهما عن سلطة الشعر/ اللغة:

" أنا معجب بشخصية المتنبي إعجاباً شديداً، فالمتنبي لم يفهم جيداً، عندما اتهم بأنه شاعر بلاط. لم يكن في ذلك العصر ولا في كل العصور العربية السابقة، لم يكن المديح عيباً إطلاقاً. وبرأيي أن المتنبي لم يمدح أحداً، ولم يمدح سلطة الدولة، بل كان المتنبي يؤسس سلطته الشعرية. كان يستخدم القوة الشعرية من أجل تأسيس سلطة للشعر، وبالتالي كان سيف الدولة هو المتنبي. هو كان يرى نفسه، لم يكن يرى سيف الدولة، واستعمل كافور استعمالاً عابراً من أجل توسيع نفوذ سلطته الشعرية، فالمتنبي ليس شاعر بلاط إطلاقاً، هو سلطة الكلام، وكل شاعر يطمح إلى تأسيس سلطته الجمالية واللغوية، وإلا فلماذا يكتب؟ ".

أيهما خضع للآخر درويش أم ياسر عرفات؟ يروي أن سيف الدولة أرسل إلى المتنبي، بعد رحيله عنه، أن يعود إليه، ولكن الشاعر الذي عزت عليه نفسه رفض ولم يعد، ويروي أن عرفات صالح درويش، فعاد الأخير إلى بيروت، وأصدر مجلة " الكرمل "، علماً أن درويش قال في " رحلة المتنبي إلى مصر ":

" يا مصر، لن آتيك ثانية

ومن يترك حلب

يَنْسَ الطريق إلى حلب ". ( حصار، ص44 )

نسى المتنبي الطريق إلى حلب، ولكن درويش لم ينسَ الطريق إلى بيروت، ولعل السبب في ذلك أنه لم ينظر إلى الأمور من منظور ذاتي شخصي، فهناك قضية وطنية دفع سني عمره دفاعاً عنها. وليست المسألة مسألة كرامة شخصية.

في القصيد الثانية التي كتبها درويش في باريس " أنا الآخر " كان ثمة تركيز على اللغة، فالقصيدة تفتتح بلازمة هي: يفتح اللفظة، وستتكرر هذه كذا مرة في القصيدة التي تعد حلزونية الشكل، ونظراً لإدراك درويش أهمية اللغة وسلطتها، فإننا نجده يكتب السطر الدال التالي: " كان في البدء الكلام "، وهو سطر يتكرر مضمونه، بعد ذلك، مراراً. في قصيدة " نزل على بحر " من ديوان " هي أغنية .. هي أغنية "(1985) ثمة سطر دال هو:

" من يذكر البدو القدامي حينما استولوا على الدنيا .. بكلمة ؟"(ص18) وبعد عشر سنوات – أي حين يصدر درويش ديوانه: لماذا تركت الحصان وحيداً؟ (1995)، سيكتب في قصيدته: " قال المسافر للمسافر: لن نعود كما ..."

" وفي الصحراء، قال الغيب لي:
أكتب!
فقلت: على السراب كتابة أخرى
فقال: اكتب ليخضر السرابُ "(ص112)

الكتابة ذات جدوى، فهي تحيل السراب إلى خضار، ويؤمن الشاعر بهذا ويكتب:

" فكتبت: من يكتب حكايته يرث

أرض الكلام، ويملك المعنى تماما!ّ "(ص112)

وإذا كان الشاعر صاحب سلطة، ويستطيع أن يحقق شيئاً ما أمام القائد السياسي الذي يحبه ويحترمه، فيرضخ له الأخير لأنه يقدر الشاعرية في الشاعر، فهل يتمكن الشاعر من خلال لغته أن يغير الواقع؟ هل يستطيع أن يحقق أحلام الفقراء والمظلومين؟ هل يستطيع أن يصد عدوان عدو مدجج بأحدث الأسلحة؟

في قصيدة " بيروت "(1980) يرد سطر شعري دال يعزز ما ذهبنا إليه حين قلنا إن مرحلة ما بعد 1970 مرحلة اهتزت فيها ثقة درويش بالكلمة، خلافاً للمرحلة التي سبقتها.

والسطر الشعري هو:

" لم أجد جدوى من الكلمات إلا رغبة الكلمات في تغيير صاحبها ". وأين هذا من قوله في " يوميات جرح فلسطيني "(1969):

" نحن لا نكتب أشعاراً، ولكنا نقاتل ".

هنا سنتوقف أمام قصيدة " مديح الظل العالي " وحرب العام 1982، وما أورده الشاعر عن سلطة اللغة إبان الحرب في كتابه " ذاكرة للنسيان ".

يرد في " مديح الظل العالي " المقطع التالي:
" لغة تفتش عن بنيها، عن أراضيها وراويها
تموت ككل من فيها، وترمي في المعاجم
هي آخر النخل الهزيل وساعة الصحراء،
آخر ما يدل على البقايا ( حصار، 128).

يطلب الفلسطينيون من أشقائهم العرب، بالعربية الفصيحة، النجدة أمام الوحش الصهيوني، فلا يجيب هؤلاء، ويشعر الفلسطيني بتخلي العرب عنه، وبأنه وحيد يواجه وحشية هذا العالم. وهكذا لا يكون أي صدى للغة، فكما أبناؤها لا يسمعون، لأنهم، من وجهة نظر الشاعر، أموات أو متخاذلون أو عاجزون أو غير معنيين بما يجري لأشقائهم، كذلك اللغة: تموت ككل من فيها، وترمى في المعاجم. اللغة، دون حامل لها، حروف وكلمات معجمية لا فاعلية لها، ومن يمنحها الحياة هو الذي يتكلم بها: الإنسان الحي، أما وقد مات العرب، فقد ماتت أيضاً لغتهم وغدت لغة معجمية، مثل لغات سالفة اندثر أصحابها فظلت لغات في المعاجم والكتب لا يمنحها أحد الحياة.

في كتاب " ذاكرة للنسيان "، وهو كتاب نثري، ما يوضح السطر الشعري الذي توقفنا أمامه من قبل، وهو: " وتحذر الفقراء من لغة الصدى والأنبياء "، وإذا ما لجأنا إلى تفسير شعر درويش بنثره، توقفنا أمام المقطع التالي من الكتاب المذكور لتفسير ما يعنيه بلغة الصدى والأنبياء:

" السلاح العربي الرسمي يتصدى، علانية، للخطوة والفكرة الفلسطينيتين ويحملهما المسؤولية عن بؤس الأمة وعبوديتها: لولا فلسطين، البعيدة المنال، الوهمية، المتخيلة، المبكرة إلى موعدها البعيد، المتقدمة على الوحدة العربية، لولاها لكنا أكثر حرية وأوفر رخاء ورفاهية! هكذا يذيع الخطاب الرسمي شائعات الضجر "(ص84)

طبعاً يأتي درويش في هذا الكتاب على ما كان عليه إبان اشتداد المعارك وقصف الطائرات الإسرائيلية بيروت بشدة، وسيأتي على دور المثقف الذي ما من شيء بيده يملكه للدفاع عن الذات أمام الآخر إلا اللغة، وماذا تجدي اللغة هنا؟ ماذا تجدي الكلمات؟

إذا كنا توقفنا في قصيدة " بيروت " أمام السطر: " لم أجد جدوى من الكلمات إلا رغبة الكلمات في تغيير صاحبها " ولم تكن، يومها، بيروت محاصرة، فإننا سنجد القول ذاته، بصياغة قريبة في " ذاكرة للنسيان ". ماذا تجدي الكلمات أمام عدو يستخدم الأسلحة كلها لقتل الفلسطيني واللبناني؟ هل ستصد قصيدة واحدة هذا الهجوم الجوي والبري والبحري. وسيسخر درويش من الأدباء الذين ذهبوا يومها إلى أن حصار بيروت هو اختبار حقيقي للمثقف، ليثبت دوره في الحرب والمعارك.

" هل تكتبان؟ سألنا "ن"

" ي " يكتب يومياً .. وقرأ لنا إحدى لقطات الكاميرا " الداخلية " الحسّاسة التي لا يتخلي عنها.

وأنت؟ سألاني ..

قلت: إني أختزن حتى الاختناق، وأثير سخرية الزملاء القائلين: ما جدوى القصيدة .. ما جدواها بعدما تنتهي الحرب. ولكنني أصرخ في لحظة لا يصل فيها الصراخ. ويبدو لي أن على اللغة ألا تزج بنفسها في معركة أصوات غير متكافئة ".(ص48)

ويتابع الكتابة عن الشيء ذاته:

" وفي فندق الكومودور، معقل الصحفيين الأجانب، يستجوبني كاتب صحفي أميركي: ماذا تكتب أيها الشاعر في الحرب؟

* أكتب صمتي
* هل تعني أن الكلام للمدافع.
* نعم. صوتها أعلي من أي صوت.
* ماذا تفعل إذن؟
* أدعو إلى الصمود.
* وهل ستنتصرون في هذه الحرب؟
* لا. المهم أن نبقى .. بقاؤنا انتصار.
* وماذا بعد ذلك؟
* سيبدأ زمن جديد
* ومتى تعود إلى كتابة الشعر؟
* حين تسكت المدافع قليلاً .. حين أفجر صمتي المليء بجميع هذه الأصوات. حين أجد لغتي الملائمة.
* أليس لك من دور.
* لا. لا دور لي في الشعر الآن. دوري خارج القصيدة. دوري أن أكون هنا، مع المواطنين، ومع المقاتلين " ( ص51، ص52).

وثمة في هذا الكتاب فكرة تعيدنا إلى ما ورد في قصيدة سرحان. كأن هذه الفكرة تقبع عميقاً في لا وعي درويش: الحروف السمينة التي نقذف بها الأعداء، حين يحرثون طفولتنا بأسلحة من أساطير. يرد في الكتاب.

" وفي هذه اللحظة المحددة، حيث تحرث الطائرات أجسادنا، يطالب المثقفون المتحلقون حول جسد غائب بقصيدة تعادل قوة الغارة أو تقلب موازين القوى على الأقل .. "(ص53).

(3) عابرون في كلام عابر: سلطة اللغة:

قد تكون قصيدة " عابرون في كلام عابر " أكثر قصيدة كتبها درويش أثارت جدلاً واسعاً وترجمت إلى غير لغة، بل إنها ترجمت إلى العبرية، يوم كتبها، ما لا يقل عن سبع ترجمات اختلفت عن بعضها، ما دفع دارسة ألمانية هي الدكتورة ( أنجليكا نويفرت ) لأن تدرس هذه الترجمات والقصيدة أيضاً مع طلابها العرب، وكنت واحداً منهم، لتنجز، في النهاية، دراسة عنوانها " حواجز لغوية بين جيران: قصيدة جديدة لمحمود درويش " وتنشرها في العام 1988، في مجلة ( Orient ) الألمانية.

وكما تركت هذه القصيدة تأثيرها على الاستشراق الأوروبي، إذ أنجزت عنها أيضاً دراسة بالفرنسية أنجزتها الكاتبة اليهودية غير الصهيونية ( سيمون بيتون )، فقد تناولها بعض أساتذة الأدب في الجامعات الإسرائيلية، وأبرزهم ( شموئيل موريه ) الذي أخذ يتصل بطلابه العرب، ليخبروه عما فهموه من قول درويش: " اخرجوا من برنا وبحرنا ".

ولم يقف حدود تأثير هذه القصيدة على الشعراء والكتاب ودارسي الأدب، فقد لوح بها رئيس الوزراء الإسرائيلي، في حينه ( اسحق شامير ) من على منصة الكنيست، مخاطباً أعضاءها، قائلاً: انظروا ماذا يكتب الشاعر الفلسطيني الذي يصفه اليسار بأنه شاعر معتدل.

ولقد تجادل كتاب أسرائيلييون كبار مع الشاعر حول قصيدته، من على صفحات الصحف والمجلات، إذ رأى فيها بعضهم ما يذكر اليهود بالمحارق، ولهخذا أثارت رعبهم، وكان الشاعر شارك في هذا الجدل، فكتب غير مقالة يفصح فيها عن رأيه، لعل أبرزها " هستيريا القصيدة " التي أدرجها في كتاب عنوانه " عابرون في كلام عابر "(تاريخ الصدور)، وأدرج فيه القصيدة نفسها التي لم يدرجها في أي من دواوينه التي أصدرها بعد نشر القصيدة، بل إنه لم يدرجها في أعماله الكاملة، لأنه رأى فيها قصيدة مناسبة. ولما رأى مبالغة الإسرائيليين في تأويل القصيدة وتبيان خطرها كتب: " فككوا المستوطنات أفكك القصيدة ".

إن كان درويش أشار إلى أن قصيدة " سجل أنا عربي ". قد لامست الجماهير العربية يوم كتبها، وكان لها تأثير سحري، فإنني أرى أن هذه القصيدة قد فعلت أكثر مما فعلت الأولى – أي تركت " عابرون " أثراً أكبر من " سجل -، ذلك أنها أثارت العدو، وأن تثير قصيدة الإسرائيليين لأول مرة، فهذا يعني أن ثمة سلطة للغة، كان الإسرائيليون يولونها اهتمامهم، لكن لم يصل الأمر إلى أن تقرأ من على منبر الكينست وتترجم ترجمات عديدة، ويتصل أساتذة الأدب في الجامعة العبرية بطلابهم العرب ليعرفوا مدلولات دوالها ، وقصد الشاعر بها.

ليس الأمر مقتصراً على الإسرائيليين فقط، فـ ( أنجليكا نويفرت ) المستشرقة الألمانية التي درست في الجامعة العبرية، لفترة من الوقت وتزوجت من يهودي ألماني درس في الجامعة العبرية أيضاً منذ العام 1966، عزت الخلاف بين العرب والإسرائيليين إلى اللغة فكتبت: " حواجز لغوية بين جيران "، وتفهمت ردود أفعال الإسرائيليين وعزت إشكالات القصيدة والرعب الذي أثارته كلماتها إلى درويش المسؤول عن استخدام مفردات تذكر اليهود بالمحرقة.

(4) أسطر شعرية تؤرق ياسر عرفات:

في الثمانينيات من ق20 اختلفت م.ت.ف مع النظام الأردني، ما أدى إلى إشكالات بين الطرفين. ولما كان درويش في صف م.ت.ف ولم يرق له الموقف الرسمي الأردني، فقد كتب مقالة تمحورت حول خطاب ألقاه الملك الأردني الراحل الملك حسين. ويبدو أن المقالة لم ترق للنظام، وهكذا منعت أعمال درويش، في حينه، من التوزيع والانتشار في الأردن. لم يحمل درويش السلاح ليهدد النظام ولينقلب عليه، ولم يعلن حرباً أهلية بين الشعبين. كل ما فعله أنه كتب مقالة حول خطاب – أي أنه أعلن موقفاً سياسياً إزاء موقف سياسي آخر، فكان أن منعت أشعاره. هل يمكن القول إن هذا يدخل ضمن عبارة سلطة اللغة التي أثرت على السلطة فمارست هذه، بدورها، سلطتها ومنعت أعمال الشاعر. وهل يمكن القول إن ثمة جدلاً واضحاً بين سلطة اللغة وسلطة الحاكم، حيث أن تأثير الأولى تؤدي إلى تأثير الثانية؟

ليس النظام الأردني وحده من مارس هذا، فقد لاحظنا أن دولة إسرائيل، برئيس وزرائها وبعض كتابها، تأثروا بقصيدة، ما جعلهم يحملون على الشاعر. وذهب الأمر إلى ما هو أبعد من ذلك، فقد تظاهر بعض اليهود في باريس، يوم نشر الشاعر القصيدة، حيث كان يقيم هناك، مطالبين بطرده من فرنسا.

ويمكن الذهاب إلى ما هو أبعد ذلك. لم يكن درويش راضياً عن اتفاقات (أوسلو)، وقد عبر عن ذلك بأكثر من طريقة: الانسحاب من اللجنة التنفيذية التي كان عضواً فيها، والتعبير عن عدم رضاه، من توقيع عرفات على (أوسلو)، شعرا. وهو ما يبدو واضحاً في قصيدة " خلاف، غير لغوي، مع امرئ القيس ".

قبل كتابة القصيدة كان درويش كتب قصيدة " أحد عشر كوكبا على آخر المشهد الأندلسي "، واستلهم فيها تجربة خروج المسلمين من الأندلس، ورأى بعض قارئيها ودارسيها أنها قصيدة تعبر أيضاً عن الراهن، وأن ملك الاحتضار فيها هو ياسر عرفات. ما أدى إلى استياء الأخير، حين أعلمه بعض المقربين منه، ممن قرأوا القصيدة، أنه المقصود بقول درويش:

" لم تقاتل لأنك تخشى الشهادة، لكن عرشك نعشك

فاحمل النعش كي تحفظ العرش يا ملك الانتظار

إن هذا السلام سيتركنا حفنة من غبار "

( أحد عشر كوكبا، ص18)

وسيعمل درويش على استبدال كلمة بأخرى، وسيحذف كلمة السلام ليضع مكانها كلمة الرحيل، وذلك حين يعيد طباعة الديوان ثانية. هل كان درويش قبل هذا شاعر سلطة؟

يمكن القول إنه كان شاعر ثورة، فالمنظمة لم تغدُ سلطة إلا بعد اتفاق (أوسلو) في العام 1994، ودرويش الذي تماهي مع الثورة، كان أحياناً يختلف مع قيادتها. وفي حالات التماثل كان ينطق باسمها، فيم كان يبدي رأيه المغاير حين يختلف معها.

حين كانت الثورة ثورة وكان درويش يتفق معها كان يكتب شعرا ما تحلم به، بل إنه صاغ بيان الاستقلال في العام 1988، وكان واحداً ممن يصوغون خطابات ياسر عرفات. ولكن حين كانت " أحلامه تختلف مع أدوات تحقيقها "، والعبارة له، لم يتوان عن التعبير عن رأيه، ولو من خلال قناع. وهنا نتوقف أمام أشعاره التي كتبها في العام 1994 وما بعد.

أفصح درويش، غير مرة، عن عدم رضاه من اتفاقات (أوسلو)، وإن ظل غير بعيد عن أصحاب القرار في م.ت.ف، بل إنه عاد إلى رام الله ليكون قريباً منهم، ولكنه، شعرا، عبر عن عدم رضاه. سيكتب درويش في هذه الأثناء قصيدة عنوانها " خلاف، غير لغوي، مع امرئ القيس "، وما امرؤ القيس إلا قناع يعبر من خلاله عمن نشد مساعدة من غريب حتى يحصل على ملك أبيه – أي حتى يسترجع ما فقده. هنا سيخاطب أنا المتكلم في القصيدة امرأ القيس قائلاً:

" لم يكن دمنا يتكلم في الميكروفونات في
ذلك اليوم، يوم اتكأنا على لغة
بعثرت قلبها عندما غيرت دربها. لم
يقل أحد لامرئ القيس: ماذا صنعت
بنا وبنفسك؟ فاذهب على درب
قيصر، خلف دخان يطل من
الوقت أسود. واذهب على درب
قيصر، وحدك، وحدك، وحدك
واترك لنا، ههنا، لغتك ! " ( لماذا تركت الحصان وحيداً، ص158)

هل أدرك الشاعر أنه غير قادر على ممارسة سلطته اللغوية والشعرية على القيادة السياسية / امرئ القيس المعاصر، فالظرف العالمي كان مختلاً لغير صالح الدم الفلسطيني؟

في " لماذا تركت الحصان وحيداً ؟" الذي عده بعض الدارسين سيرة شعرية لمحمود درويش، حيث عبر في قصائده عن مراحل مختلفة من حياته: الطفولة والهجرة والعودة والسجن ما بين 1948 و 1970 واتفاقات (اوسلو)، في هذا الديوان قصائد عديدة أتى فيها درويش على اللغة وسلطتها وأهميتها. وقد عبر عن أفكاره فيها أيضاً في المقابلات التي أجريت معه في تلك الفترة. يقول درويش لعباس بيضون " أنا في هذا الديوان أقول شيئاً واحداً هو أنني لغتي، لا أكثر ولا أقل، وحتى وسط هذه اللغة، هناك حضور للجوار الفارسي والروماني ولكل الشعوب. أنا أعرف نفسي من خلال شيء واحد: أنا لغتي. ولست أبحث عن فروقات في العرق ولا في الدم. ولا أومن أن ثمة عرقاً صافياً لمجتمع في الشرق الأوسط ولا في غير الشرق الأوسط. بالعكس أومن أن الاختلاط يغنيني ويغني رؤيتي الثقافية. الآخر هو الذي يطالبني أن أكون عربياً بالمفهوم الذي يحدده هو للعربية "( مشارف، ص90).

ويضيف:

" أنا لغتي كما قلت، ولست محرجاً بهذه الهوية ولا فخوراً ".

اللغة معيار لتحديد الهوية، وهي فوق العرق والدم. وفي إحدى القصائد " تدابير شعرية " يأتي على ما يمكن أن تفعله القصيدة:

" القصيدة ما بين بين، وفي وسعها
أن تضيء الليالي بنهديْ فتاة
وفي وسعها أن تضيء بتفاحة جسدين،
وفي وسعها أن تعيد
بصرخة غاردينيا وطناً ! " ( لماذا تركت الحصان وحيداً، ص102 )

وفي " من روميات أبي فراس " سطر دال:

" ما ينفع الناس يمكث في كلمات القصيد "

وفي " قافية من أجل المعلقات " يقول أنا المتكلم / أنا الشاعر:

" أنا لغتي أنا "

وتكون لغته قلائد من نجوم حول أعناق، ولذا يصرخ:

" فلتنتصر

لغتي على الدهر العدو، على سلالاتي،

عليّ، على أبي، وعلى زوال لا يزول " (ص118)

فـ:

" هذه لغتي ومعجزتي. عصا سحري.
حدائق بابلي ومسلتي، وهويتي الأولى،
ومعدني الصقيل
ومقدس العربي في الصحراء،
يعبد ما يسيل
من القوافي كالنجوم على عباءته،
ويعبد ما يقول " (ص118)

وينهي القصيدة بقوله:

" لا بد من نثر إذا،

لا بد من نثر إلهي لينتصر الرسول " (ص118)

والسطران الأخيران يحيلاننا إلى انتصار الرسول، من خلال الكلمة والقرآن، على أعدائه، ويذكراننا بالسطر الشعري الذي أوردناه من قصيدة " نزل على بحر " (1986):

" من يذكر البدو القدامى حينما استولوا على الدنيا .. بكلمة ".

(5) جدارية: تجربة الموت:

في حديثه عن تجربة المرض والعملية التي أجراها درويش في باريس، في العام 1997، يأتي مراراً على ما ألم به حين صحا من الغيبوبة التي عاني منها، ويشير إلى أنه فقد القدرة على النطق، ما جعله يشعر أنه دون اللغة لا يملك أية سلطة.

الشاعر الذي حقق، من خلال الشعر، مكانة متميزة ومهمة، أهلته لأن يكون مقعدُه دائماً في الصفوف الأولي، يفتقد ما مكنه من الوصول إلى ما وصل إليه. الشعر واللغة منحاه الكثير وأوصلاه إلى مكانة لا يصل اليها إلا من يضحي ويبذل جهداً ويواصل التضحية والبذل، وها هو يفقد الوسيلة. وإذا كان في " لماذا تركت الحصان وحيداً ؟"(1995) قال: أنا لغتي، وقال: " من يكتب حكايته يرث أرض الحكاية "، فإنه في جدارية يكرر هذا:

" أنا لست مني إن أتيت ولم أصل
أنا لست مني إن نطقت ولم أقل
أنا من تقول له الحروف الغامضات:
اكتب تكن
واقرأ تجد "(ص25)

وهكذا تتحقق الكينونة من خلال الكتابة، ويتحقق الحصول على الشيء من خلال القراءة.

وستتكرر مقاطع عديدة في الجدارية يأتي فيها على هاجسه باللغة:

" نسيت الكلام
أخاف على لغتي
فاتركوا كل شيء على حاله
وأعيدوا الحياة إلى لغتي
تقول ممرضتي: كنت تهذي
كثيراً، وتصرخ بي قائلاً:
لا أريد الرجوع إلى أحد
لا أريد الرجوع إلى بلد
بعد هذا الغياب الطويل ...
أريد الرجوع فقط
إلى لغتي في أقاصي الهديل
تقول ممرضتي
كنت تهذي طويلاً وتسألني:
هل الموت ما تفعلين بي الآن
أم هو موت اللغة؟ (66/67)
(6) الكتابة تجرح:

في العام 2000 تبدأ انتفاضة الأقصى، وتحاصر رام الله، ويحاصر فيها الشاعر في ربيع 2002، وتجتاح الدبابات الإسرائيلية المدينة وتدك بعض مبانيها، وتفرض منع التجوال على المواطنين لأيام عديدة. هل تستطيع اللغة هنا أن تفعل شيئاً؟ هل تستطيع أن تقاوم؟ هل يكون لها سلطة ما؟

في " حالة خصار "(2002) سطر لافت يذكرنا بمقولة العرب القديمة: " جرح اللسان أنكى من جرح السنان " والسطر هو: الكتابة تجرح من دون دم "(ص83). كيف؟ وهل من جدوى للكتابة أيام الحصار؟ كأننا نعود إلى ما كان عليه في بيروت. الأشياء تتكرر، ويتكرر السؤال أيضاً. يتكرر السؤال حول جدوى اللغة وسلطتها.

في 24/3/2005 نشرت جريدة الأيام (رام الله) نص حديث شامل أجرته مع درويش القناة التلفزيونية المغربية الثانية " دوزيم " وأتى فيه على كتابة الشعر أيام الحصار المذكور، ومما قاله:

" ليس هناك شك في أن للحصار عدة مستويات. هناك الحصار بالمعنى الواسع للكلمة – أي الذي رآه الفلسطينيون منذ أكثر من خمسين عاماً. وهناك أيضاً الحصار بالمعنى المباشر – أي العسكري، حيث تجد الدبابة تحيط بمنزلك أو على باب بيتك، وحيث تسير في الشارع بين الدبابات. هذا النوع من الحصار أثار في نوعاً من الانتقام الشعري. أنت لا تستطيع أن تقاوم هذه القوة المدمرة أو هذا المعدن المسلح إلا بالسخرية منه واللجوء إلى مصادر قوة داخلية. هذه المصادر تنخرط في بحث عن قصيدة مضادة لهذا الشكل من الحصار، هي القصيدة الهادئة الساخرة التي تتأمل حياتها اليومية متحررة من ضغط الحصار، وكأنها تدعي حياداً ما كي تجد مساحة للنظر إلى حياتها بطريقة تجعلها مفتوحة على أفق آخر، لذلك كنت أراقب طيران الحمام عندما تختفي الطائرات. كنت أبحث عن عناصر الطبيعة الباقية التي لا تتعرض لأي تأثير من تأثيرات الحصار – أي إنني كنت أبحث عن داخلي الإنساني وعن قوة الأمل وقوة الطبيعة وقوة العشب كلغة مضادة للغة الحديد والعنف والقنابل. ومن ثم كنت أشعر بأنني أتحرر تدريجياً باللجوء إلى عالمي الداخلي، عالمي الشعري. وكلما كتبت سطراً كنت أشعر بأن الدبابات تبتعد متراً. هذا النوع من التواطؤ مع النفس أو مع اللغة الشعرية في حد ذاته مصادر قوة للإنسان المحاصر ".

ولا أظن أننا بحاجة إلى شرح ما أورده، فهو واضح بما فيه الكفاية. ثمة قوة للغة قد لا تدمر الدبابة، ولكن قد تشكل اللغة، حين يتواطأ معها الشاعر، مصادر قوة للإنسان المحاصر.

في " حالة حصار " يخاطب الشاعر الشعر: حاصر حصارك، ولكن الشهيد يحاصر الشاعر كلما عاش يوماً جديداً ويسأله: أين كنت؟ ويطلب منه أن يعيد للقواميس كل الكلام الذي كان أهداه إياه، وأن يخفف عن النائمين طنين الصدى. هل الكتابة طنين صدى؟

(7) سلطة اللغة على صاحب اللغة:

في " حالة حصار " مقطع لافت يوجهه الشاعر إلى ناقد، ونصه:

" [ إلى ناقد:] لا تفسر كلامي
بملعقة الشاي أو بفخاخ الطيور!
يحاصرني في المنام كلامي،
كلامي الذي لم أقله،
ويكتبني ثم يتركني باحثا
عن بقايا منامي ... "(ص25)

الشاعر الذي لا يملك سلاحاً سوى الكلمات التي ألبت عليه غير جهة، كما لاحظنا، فأدت به إلى السجن، ومن ثم الهجرة من مكان إلى مكان، ومن منفى إلى منفى، ودفعت بعض الأنظمة العربية إلى منع أعماله لمقال كتبه، وجعلت مواطنين يهوداً يتظاهرون في عاصمة أوروبية لطرده منها، وألبت عليه، بين آونة وأخرى، ياسر عرفات، ما جعله يعيش طريداً بعيداً عن أدوات تحقيق حلمه، وفي فترة متأخرة، وتحديداً بعد 15/6/2007 وما حدث فيه في غزة، دفعت البعض لاتهامه بالكفر والزندقة و ... و ...، الشاعر هذا الذي ترك القوم، جراء كلماته، بل الأقوام، تسهر وتختصم، دفع أيضاً ثمن كلمات دارت حول كلماته. لم تؤرق كلماته الآخرين وحسب، بل أخذت تؤرقه أيضاً حين أولها النقاد على غير ما رمى إليه الشاعر، وهكذا يحاصره كلامه الذي أوله الناقد تأويلاً لم يدر بخلد الشاعر ويسلب منه النوم.

في " أثر الفراشة "(2008) يرى درويش في تأويلات النقاد لأشعاره اغتيالاً له، وهكذا يكتب قصيدة " اغتيال "، غير أن سعة صدره تجعله يرى فيه اغتيالاً يدخل في باب سوء التفاهم. يشكرهم عليه، ولا يكترث لهم، ثم يمضي إلى قصيدته الجديدة.

يعود درويش في " أثر الفراشة " ليكتب عن جدوى الكلمات. يزور حيفا في العام 2007 ليحيي أمسة شعرية تثير ضجة كبيرة، إذ انقسم المهتمون به وبأشعاره ما بين مؤيد ومعارض لهذه الزيارة، وحين يرى مكانه الأول، وسجنه الأول يخاطب سجنه / معلمه الأول في فقه الحرية قائلاً: كنت على حق: فلم يكن الشاعر بريئاً. والأهم من هذا السطر المقطع الذي يليه:

" هل قال أحدهم: إن سيد الكلمات هو سيد
المكان؟ ليس هذا زهوا ولا لهوا. إنه أسلوب
الشاعر في الدفاع غن جدوى الكلمات، وعن
ثبات المكان في لغة متحركة !" (282).

والسؤال حول جدوى الكلمات سؤال قديم – جديد، ولئن لاحظنا أنه كتب في قصيدة " بيروت "(1980): " لم أجد جدوى من الكلمات إلا رغبة الكلمات في تغيير صاحبها "، ثم عاد وأتى على البدوي الذي حرر الدنيا بكلمة، فإنه هنا يكرر: سيد الكلمات هو سيد المكان. وهذه صياغة ثانية لعبارة: من يكتب حكايته يرث أرض الحكاية. ثمة صراع على مكان، وثمة صراع لغوي أيضاً إلى جانب الصراع العسكري، فهم إذا ما انتصروا عسكرياً هل سينتصرون حتى الأبد، بخاصة إذا ما كانت هناك رؤية أخرى تنقض روايتهم، وهذا الرؤية تكمن في اللغة؟ إن سيد الكلمات هو سيد المكان، وهذا ليس زهوا ولا لهوا، إنه أسلوب الشاعر في الدفاع عن جدوى الكلمات، وعن ثبات المكان في لغة متحركة. حيفا هي حيفا، قد يسيطرون عليها بالقوة، لكنها في اللغة تبقى حيفا مدينة عربية، وقد يتغير الزمان.

(8) الكاتب الظل:

سأنهي هذه التأملات بمقطع دال مهم فيما أرى ورد في القصائد الأخيرة التي كتبها درويش، ولم تجمع في حياته في كتاب، وهذا المقطع ورد في قصيدة " لاعب النرد ". يقول المقطع:

" ليس لي دور بما كنت
أو سأكون ...
هو الحظ، والحظ لا اسم له
قد نسميه حداد أقدارنا
أو قد نسميه ساعي بريد السماء
نسميه نجار تخت الوليد ونعش الفقيد
نسميه خادم آلهة في أساطير
نحن الذين كتبنا النصوص لهم
واختبأنا وراء الأولمب ...
فصدقهم باعة الخزف الجائعون
وكذبنا سادة الذهب المتخمون
ومن سوء حظ المؤلف أن الخيال
هو الواقعي على خشبات المسارح /
خلف الكواليس يختلف الأمر "

في " لاعب النرد " يأتي درويش على نفسه شاعراً، ويتساءل عن الشاعرية ومصدرها وكيف يكتب نصه ودوره فيه؟ طبعاً ربما اختلف المرء معه فيما يذهب إليه، فالشاعر الذي بدأ حياته ماركسياً، والشاعر الذي يدرك جيداً أن الكاتب، لكي يغدو كاتباً جيداً، عليه أن يكد ويجتهد، يتحدث هنا عن الحظ ودوره، كأن درويش لم يكن يوماً ماركسياً، فالماركسيون يؤمنون بالموهبة التي تنمي وتثرى، لا بالحظ، بل بالاجتهاد على أن ما يهمنا هنا ليس هذا، فما يهمنا هو سلطة اللغة ولغة السلطة: لغة آلهة الأولمب الذين صدقهم باعة الخزف الجائعون، فيم كذّب الشاعر وكتاب خطاب الآلهة سادة الذهب المتخمون. ثمة ثنائية واضحة في الفقرة السابقة نحن وهم / أي الكتاب والآلهة. الكتاب يكتبون للألهة فيصدق باعة الخزف الجائعون الآلهة، فيم يكذب سادة الذهب المتخمون من كتب للآلهة نصوصهم. من صنع الآلهة هم الكتاب، فظهر الأولون / واختبأ الأخيرون وراء الأولمب، وكانت المفارقة أن من قرأ الخطاب المكتوب له صدق، فيم كذب كاتب الخطاب. وهذا من سوء حظ المؤلف، فما هو ظاهر غير ما هو حقيقة، إذ خلف الكواليس يختلف الأمر.

في إحدى المقابلات التي أجريت مع درويش، بعد رحيل ياسر عرفات، سئل: أيهما أهم أنت أم ياسر عرفات؟ فأجاب: أنا بالطبع! ولما سئل عن السبب قال: أنا لي اثنان وعشرون ديواناً شعرياً، عدا كتب النثر، وأبو عمار ليس له أي كتاب. هل هي سلطة اللغة إذن؟ التي جعلته يقول هذا؟ زالت سلطة أبو عمار بموته، وما زالت سلطة محمود درويش قائمة وستظل إلى أجل لا ندري مدته!

تأملات في تجربة محمود درويش

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى