الجمعة ١٥ أيار (مايو) ٢٠٠٩
بقلم محمد يحيى قاسمي

النقد الشعري الحديث بالمغرب في الميزان

حظي النقد في المغرب بعناية كثير من الباحثين والدارسين، فظهرت الدراسات المتخصصة التي تتناول الأجناس الأدبية والمذاهب والقضايا النقدية، في حين تناولت الدراسات الأخرى النقد الأدبي في المغرب من جهة تاريخه ومناهجه.أما نقد الشعر فلم يحظ بمثل هذه العناية، فكان نصيبه من البحث والدراسة ضئيلا مع أهميته واتساع مداه. فإذا وقف الدارسون عنده فإنهم يتناولونه تناولا في سياق تسجيلهم لتاريخ النقد على مر العصور، أو من خلال دراستهم للشخصيات النقدية في هذا العصر، ومن ثم ظل كثير من جوانبه مطوي الصفحات؛ مجهول الأفق، مظلم الحواشي؛ وحتى الأبحاث التي تناولت النقد المغربي المعاصر يتبين أنها عالجته من زوايا مختلفة، وتحكمت فيها رؤى متباينة، وتغيرت فيها الخطابات؛فهي إما أنها تتحاشى الحديث عن بدايات النقد المغربي بحكم أنها لا ترقى –كلها أو بعضها– إلى مستوى الكتابة النقدية القائمة على كفاية نظرية ومنهجية،وإما أنها أدرجت هذه البدايات ضمن مجال البحث دون أن تجتاب أنحاءها من الدراسة نتيجة للاعتبار السابق. ولتأكيد هذه الحقيقة نستعرض جانبا من هذه الأبحاث من خلال ثلاثة نماذج في البحث (المؤلفات-الأبحاث الجامعية– المقالات).


أولا: المؤلفات:

1 – لمحات من تاريخ الحركة الفكرية بالمغرب (1):

حاول (أحمد زياد) أن ينظر في الحركة النقدية في المغرب فما زاد إلا أن أعاد إلى الأذهان مناقشاته ومناقشات بعض الأدباء الذين عاصروه أمثال محمد بن العباس القباج وعبد الرحمن الفاسي وعبد السلام العلوي، إذ خصص حيزا كبيرا من كتابه لعرض بعض النصوص النقدية الهامة التي عرفتها فترة سنوات الأربعين والخمسين.

وعموما ليس في جهد (أحمد زياد) أي تقويم للمناهج المستخدمة في هذه النصوص، أو تحليل لها، مما يجعل عمله في إطار التأريخ للحركة النقدية في المغرب لا أكثر (2)، وهو الأمر الذي يدفعنا إلى اعتباره مصدرا من مصادر النقد الشعري في المغرب.

2 – النقد الأدبي الحديث في المغرب العربي (3):

هو كتاب لم يتناول النقد في الجزائر وتونس؛ كما يبدو من عنوانه؛ بل في المغرب وحده. وقد اهتم مؤلفه (محمد الصادق عفيفي) بتعداد ما سماه (المدارس النقدية) أكثر مما اهتم بتحديد طبيعتها واتجاهاتها.

وقد تعرض الباحث في مؤلفه للنقد المغربي من جهة واحدة حاول فيها تصنيفه في خانات، وتحديد مراحله التطورية، مستندا في عمله ذاك على مقاييس مختلفة إذ تتبع الحركة النقدية داخل الصحافة الوطنية.

يقسم (عفيفي) النقد الأدبي الحديث في المغرب إلى ثلاثة أطوار تمثلها ثلاث مدارس هي كما يلي:

 الطور الأول: المدرسة التقليدية الأندلسية (1900 – 1930).
 الطور الثاني: مدرسة الصحافة الوطنية (1930 – 1956).
 الطور الثالث: المدرسة الواقعية الاشتراكية أو فترة ما بعد الاستقلال (من 1956 إلى الآن).

ومثل الباحث للمدرسة التقليدية الأندلسية بناقدها الشاعر (عبد الله القباج) فعرض منهجه النقدي الذي يعتمد على الموازنة وتصنيف الشعراء في طبقات. أما الطور الثاني فإنه لا يسير – في نظره – على وتيرة واحدة، وإنما تتحكم فيه طرق مختلفة حددها في أربع هي:

* الطريقة الكلاسيكية: واعتبر محمد بن العباس القباج رائدها.
 الطريقة الفنية التأثرية: ومن أبرز ممثليها – في نظره – أبا حنيني وأحمد زياد. وقد خص الأول بالذكر وحدد طريقته النقدية في دراسة الأعمال الأدبية ودراسة الكتب وعرض محتوياتها.
 الواقعية: وقد حولت النقد – في نظر (عفيفي) – من الاهتمام بالشعر إلى القصة والرواية.
 النقد العام: ويعتبره الباحث (توجيهات عامة في النقد الأدبي). (4)

لقد كانت الملاحظة الخاصة بتحول النقد من الشعر إلى النثر فعلا التفاتة ذكية من (عفيفي)، إلا أن مفهومه النقدي ومحاولته التأريخية والتصنيفية حدت شيئا من رؤيته، وجعلته يمر بقلمه مرورا على حدث مهم كهذا كان سيكفيه عناء التصنيفات المرحلية الجاهزة، ويفلته من السقوط في الانعكاس الآلي بين البنية الفوقية والبنية التحتية لتلك المرحلة (5).

إن التحول الذي تحدث عنه (عفيفي) لا يعني أن الاهتمام انصرف عن الشعر لينصب على دراسة القصة؛ وهي ما زالت في نشأتها الأولى، بل يعني – في نظرنا – الاهتمام بالفنون الجديدة التي فرضتها المرحلة بعد هيمنة الشعر؛ ولكن دون التخلي عن الشعر.

هكذا يخصص (عفيفي) حيزا من كتابه الصغير للحديث عن المدارس أو الاتجاهات النقدية في المغرب ؛ دون أن يقدم نصوصا ولا تحديدات؛ ولذلك نعتبره محاولة تاريخ للحركة النقدية في المغرب أكثر منه كتاب نقد. وما يمكن قوله عن هذه المحاولة إنه يمكن وضع تاريخ للنقد الأدبي بعيدا عن التقسيمات المرحلية والتاريخية، وخارج المذاهب والمدارس الأدبية التي عادة ما تختزل كل الطاقات الإبداعية، وتطمس جل الرؤى، وتمحو كل الخطابات (6).

وثاني الملاحظات هي أن التيار أو المذهب أو الاتجاه أو المدرسة بالمعنى الصحيح منعدم في النقد المغربي لأنه كان نقد أفراد، وليس جماعات لها رؤى مشتركة وموحدة تدافع عنها أو تدعو إليها، ولذلك لم يكن هناك مجال للحديث عن المدارس النقدية كما جاء في تقسيم (عفيفي).

وبدل تصنيف الحركة النقدية واختزالها في مدارس فنية جاهزة، ومفاهيم نقدية محدودة الأفق، وضيقة الرؤية، يمكننا أن نتطرق إلى التحديدات جميعها، وأن نستخلص من خلال قاعدتها مفاهيمها وقضاياها واتجاهاتها انطلاقا من المتن.

3 – النقد الأدبي الحديث في المغرب العربي:

إن كتاب (محمد مصايف) أعلاه يسير في الطريق الذي شقه (عفيفي)، وهو تقسيم النقد الحديث في المغرب العربي إلى تيارات ومذاهب واتجاهات(7)، وهذا مظهر رئيسي من مظاهر التمايز بين العملين السابقين وبين ما نذهب إليه، فلا مجال للحديث عن المدرسة أو المذهب في عملنا . ويمكن أن نضيف إلى هذا الأمر بعض أوجه الاختلاف بين دراسة (مصايف) وبين سابقاتها، ومنها:

 أن دراسة الباحث الجزائري تتناول النقد الأدبي بصفة عامة ولا تقتصر على نقد الشعر فقط.

 أن الفترة الزمنية التي حددها للبحث تتجاوز الفترة الزمنية للأبحاث السابقة.

 أن الرقعة التي يتناولها تتجاوز المغرب لتصل إلى باقي أقطار المغرب العربي.

ومن شأن هذا التمايز بينها أن يجعل النتائج التي توصل إليها مختلفة، فنقد الشعر ليس هو النقد الأدبي العام، كما أن النقد الشعري في المغرب ؛ وإن كانت له قواسم مشتركة مع النقد في الأقطار الأخرى؛ له خصوصيته وتمـيزه. أضف إلى ذلك أن الفترة التي يبحث فيها (مصايف) تمتد إلى ما بعد استقلال المغرب، وهي تختلف كثيرا عن الفترة التي كان فيها المغرب تحت نير الاستعمار.

4 – النقد الأدبي الحديث في المغرب (1912 – 1956) (8):

عمل رائد استعرض فيه (محمد خرماش) تطور الحركة النقدية من بداية القرن الحالي إلى عهد الاستقلال، وعمدة الباحث في ذلك النصوص النقدية الكثيرة. وقد خصت هذه الرسالة(9) بابا لمتابعة الحركة النقدية في الربع الأول من هذا القرن، ولتقصي أوليات النقد الأدبي الذي بدأ على شكل تقاريظ وتحليات ثم أخذ يتبلور في شكل تيار إحيائي ما لبث أن صار يتشوف لبعض التجديد. وخص الباحث بابا آخر لمتابعة الإنتاج النقدي الذي ظهر خلال سنوات الثلاثين والأربعين، وصنفه إلى ثلاثة مستويات:

e الآراء العامة في الأدب ككل، أو في النقد وطرائقه.

e المعارك والخصومات النقدية وما كان لها من أثر في ميدان الأدب والنقد.

e مناقشة القضايا المختلفة التي لها صلة بالأدب والأدباء.

وقد خص (محمد خرماش) بابا أخيرا لإبراز مقومات وخصائص النقد الأدبي في مغرب النصف الأول من هذا القرن بالاعتماد على دراسة وتحليل العوامل التي أثرت فيه كثقافة الناقد المغربي، وانعكاسات التيارات الخارجية عليه ثم محاولة تقدير مدى نضج هذا النقد وإسهامه في توجيه الحركة الأدبية والفكرية في المغرب الحديث (10).

ويختلف هذا العمل عن الأبحاث السابقة في أنه حاول أن يقيد نفسه بالنقد المغربي ؛ خلافا لعمل (مصايف) ؛ الأمر الذي جعله يعمق البحث، ويكشف عن خصوصية النقد في المغرب مقارنة بالأقطار المغربية الأخرى.

5 – نقد الشعر في المغرب الحديث (11):

يأتي كتاب (عبد الجليل ناظم) تلبية لحاجة علمية، وتحقيقا لطموح مغربي في الحديث عن نقد الشعر في المغرب من خلال تتبع الأعمال النقدية ودراستها وتحليلها في الفترة الممتدة بين 1930 و 1956.

واختيار الباحث لهذه الفترة له أسبابه ودوافعه، فهي – في نظره – " الفترة التي ظهر فيها النقد كخطاب بالمعنى الدقيق له خصوصيته وحضوره في المجال الثقافي، حاملا لسمات المرحلة كمرحلة صدام ومواجهة بارتباط مع مكونات الواقع الثقافي المحلي، ومكونات الواقع الثقافي العربي، وإلى حد ما الواقع الثقافي الغربي " (12).

ويجرؤ (عبد الجليل ناظم) على تحديد بداية النقد الحديث في المغرب، فيقول: " نعتبر أن فترة الثلاثينات من هذا القرن هي البداية الحقيقية للخطاب النقدي في المغرب "(13). وهذا الاختيار من وجهة نظرنا هو نظرة انتقائية لتاريخ النقد في المغرب، إذ ما موجب التغاضي عن مرحلة ما قبل 1930؟ وحتى إن كانت المرحلة اللاحقة لها خصوصيتها وحضورها فالذي ينبغي أن يعمل هو معالجة كل مراحل النقد المغربي، وإبراز خصوصية كل مرحلة.

لقد تميز كتاب (نقد الشعر في المغرب الحديث) بالقدرة على معالجة بعض القضايا النقدية الهامة مثل قضية النقد والتقريظ، والنقد والحكم، والنقد والإصلاح، وخصائص الخطاب السجالي، لكن الباحث اضطر مكرها لتجاوز قضايا مهمة مثل المفاهيم الشعرية والنقدية، وكذا بعض القضايا النقدية التي فرضت نفسها في النقد المغربي الحديث مثل قضية شعر المناسبات، والشعر الجديد، وقضية القديم والجديد، وقضية السرقات الشعرية، وكذا دراسة بعض اتجاهات النقد الشعري في المغرب مثل الاتجاه اللغوي أو الانطباعي أو المنهجي. ويرجع السبب في هذا الاقتضاب – في نظرنا– إلى اتساع مجال البحث وميدان تنقيبه.

إن الملاحظات السابقة لن تمنعنا من الإشارة إلى أن (عبد الجليل ناظم) تناول موضوعه بحذر شديد منتقيا نظرية الخطاب في أساليبها التحليلية التفكيكية منهجا لدراسة متن تنوعت محاوره، وتعددت اتجاهاته.

ثانيا: الأبحاث الجامعية

1 – نقد الشعر في المغرب (1956 – 1980) (14):

آثر صاحب هذا العمل أن يجعل من فترة الاستقلال بداية للمجال الزمني الذي يدرس فيه اتجاهات النقد الشعري المعاصر وقضاياه. وهذا التحديد التاريخي لبداية العمل ليس وراءه دوافع موضوعية، وإنما له خلفية فكرية واضحة يعلن عنها صاحبها في تقديم عمله. فهو يعد أن "أخصب فترة في تاريخ النقد الأدبي بالمغرب هي الفترة المعاصرة.. وأن تجربة المغاربة في مجال النقد.. محدودة في الفترات القديمة.. لأنها لم تعرف اتجاها أو تيارا نقديا متميزا، ولم تنتج شيئا ذا أهمية كبيرة في الميدان الأدبي والنقدي " (15).

ولا يكتفي الباحث (عبد الله شريق) بما سبق فيدفعه اعتزازه بالنقد المغربي المعاصر إلى التهجم على النقد الذي ظهر قبل هذه الفترة قائلا: " وبصفة عامة فإن النقد المغربي في عهد الاستعمار كان نقدا شعريا في معظمه لغويا وبلاغيا وتأثريا، يغلب عليه الطابع الصحفي والانفعال الذاتي، ويخضع للتقسيمات والمفاهيم النقدية والبلاغية التقليدية، وإن كان قد تأثر بعض رواده جزئيا ببعض دعوات التجديد التي ظهرت في المشرق العربي مع جماعة الديوان وجماعة أبولو " (16).

أما المحاولات التي عرفتها الفترة في مجال تاريخ الأدب فقد سار بعضها – في نظر الباحث – على طريقة القدامى في تقسيم الشعراء إلى فئات وطبقات، وحاول بعضها الاستفادة من أعمال المشارقة المحدثين في هذا المجال، فأرخ للأدب المغربي على طريقة العصور السياسية أو على طريقة الأغراض والفنون الأدبية.

ولن يدفعنا التعصب والاندفاع إلى مناقشة الباحث في هذه الأحكام، فذلك يحتاج إلى دراسة النقد الشعري في عهد الحماية في مجمله، والخروج بعد ذلك بأحكام قد تكون موضوعية في حق هذا النقد. ولكن الذي نريد أن ننبه إليه هو: هل يختلف النقد المعاصر عن سابقه؟ هل تجاوز مرحلة النقد اللغوي والبلاغي والتأثري؟ هل تحاشى تصنيف الشعراء في خانات أو إلى أجيال؟

2 – المقالة الأدبية في المغرب (من سنة 1930 إلى 1955):

رسالة جامعية أنجزها الباحث (أحمد بلشهاب) سنة 1982 لنيل دبلوم الدراسات العليا. وهي كما يدل عليها عنوانها تهتم بجنس أدبي له ارتباط وثيق بنقد الشعر. وقد كان الباحث يهدف إلى غرضين اثنين: أولهما: " التنقيب عن الأدب المغربي الحديث ودراسته والتأريخ له والتعريف به"، (وهو غرض نشاركه فيه)، وثانيهما: " تأكيد أن فن المقال هو اللون الأدبي الذي استدعته البرجوازية المغربية الصاعدة للتعبير عن طموحاتها " (17).

وقد حصر الباحث رسالته في إطار زمني يبدأ من سنة 1930، وينتهي مع بزوغ الاستقلال، يقول: " في أول الأمر فكرت أن أجعل بداية البحث سنة 1912 ونهايته سنة 1955، أي أن يمتد على عهد الحماية كله، ولكنني لم أقتنع أن تكون سنة 1912 بداية، فالمغاربة لم يصبح لهم جولات مستمرة في المقال الأدبي إلا بعد صدور الظهير البربري أي بعد سنة 1930. أما قبل هذا العهد فقد كانوا مكتفين بقول الشعر والخطب الدينية، ونشر مقالات سياسية وفكرية على فترات متباعدة في صحف شرقية.. " (18).

وفكرة الباحث الأخيرة تشير إلى اتفاقه مع من سبقوه حول تحديد بداية النقد الحديث في المغرب، كما تشير إلى نظرته الانتقائية إلى تاريخ النقد المغربي الحديث، وهو الأمر الذي يفرض التفكير في بحث جديد هو التنقيب في المراحل التي أهملها الباحثون السابقون، وكذا الالتفات إلى القضايا النقدية الغائبة في أبحاثهم، لأنها ببساطة لا ترتبط بطبيعة أبحاثهم.

3 - النقد التطبيقي للشعر من خلال شروح القرنين الثالث عشر والرابع عشر(19):

يندرج هذا العمل في إطار الاهتمام بالنقد الشعري في المغرب، ويتخذ الشروح الشعرية مادة له. واختيار الباحثة لهذا الموضوع راجع لجملة من العوامل والأسباب حصرتها فيما يلي:

* عدم اهتمام الدارسين بقضايا النقد المغربي وظواهره قدر عنايتهم بقضايا نظيره في المشرق وظواهره.

 إيمان الباحثة العميق بأن كتب الشروح لم تنل اهتماما كبيرا من لدن الدارسين – يشفي الغليل – وبالتالي لم تحظ بجانب ذي قيمة من عنايتهم رغم أنها جزء هام وضخم من تراثنا الفكري والنقدي(20).

وقد حصرت الباحثة رسالتها زمانا في القرنين الثالث عشر والرابع عشر، ومكانا في المغرب الأقصى، ومادة شروح هذين القرنين. وتهدف – كما تؤكد صيغة العنوان – إلى العناية بالجانب التطبيقي الذي يعتمد على التحليل والتعليل والتذوق. واهتمام الباحثة بهذا الجانب يعود – في نظرنا – إلى غلبة الجانب التطبيقي على الشروح الشعرية وارتباطها الشديد به.

إن الباحثة قيدت نفسها بمجموعة من العناصر منها: أنها تعالج النقد التطبيقي، وأنها تدرس مصدرا من مصادر نقد الشعر في المغرب، وأنها ثالثا قيدت نفسها بفترة معينة. ومن شأن هذا التقييد أن يجعل البحث قريبا إلى الفحص الدقيق والمعالجة المتأنية للمتن النقدي التطبيقي المبثوث في شروح القرنين الثالث عشر والرابع عشر.

4 – أسئلة النقد المغربي في الثلاثينات(21):

حصرت الباحثة فترة بحثها في حقبة الثلاثين وبداية الأربعين، وذلك حتى يتسنى لها تسليط الأضواء على الإطار الثقافي والاجتماعي الذي احتضن بداية الحركة النقدية الحديثة في المغرب، لتمهد بذلك للدخول في مناقشة القضايا النقدية التي كانت قد بدأت تروج مع ظهور الرواد الأوائل لهذا الفن.

وقد اختارت الباحثة عنصرا بارزا في هذه الحركة، وأحد الذين واظبوا على نقد النصوص الشعرية التي تظهر في الدواوين أو الصحف والمجلات، والنموذج هو محمد بن العباس القباج.

والملاحظة الأساسية في هذه الدراسة أن الباحثة تنطلق في دراستها من حقبة سنوات الثلاثين وتعتبرها بداية الحركة النقدية، وتغض الطرف – مثل كثير من النقاد – عن فترة مهمة من تاريخ النقد المغربي وهي فترة ما قبل 1930. أما الملاحظة الثانية فإنها تتخذ لدراستها نموذجا، ومن شأن هذا التخصيص أن يصرفها عن مناقشة قضايا نقدية أخرى لأنها ببساطة لم ترد في نقد الأنموذج.

تلك هي أغلب الأبحاث الجامعية التي أنجزت عن النقد المغربي، والنقد الشعري على الخصوص، وهي أبحاث جادة رغم تباين رؤاها، وتغير خطاباتها، وجور أحكامها في بعض الأحيان، نقول جادة لأنها تضع أمامها متنا ؛ وإن كان انتقائيا ؛ فتحاول دراسته لاستخلاص خصائصه وسماته، عكس بعض الأبحاث – (نسميها أبحاثا تجاوزا) – التي تصدر الأحكام دون قراءة النصوص. وهذا بيان ذلك..

ثالثا: المقالات:

1- نجيب العوفي(22): يعتبر أن البداية الحق للنقد المغربي هي ما بعد سنوات الستين - (وهو التاريخ الذي حددناه نهاية للبحث) – ويلغي من حسبانه فترة تنيف عن ستة عقود، لا لشيء إلا لأنها فترة " مقالات وتدبيجات وصفية وانطباعية تفيض من حين لآخر عفو الخاطر، إن دلت على شيء فعلى الكسل الفكري وغياب المنهج ".

ويتساءل الأخ العوفي: من من النقاد استفاد مثلا من محمد بن العباس القباج وأحمد زياد وعبد الرحمن الفاسي وعبد الكريم غلاب؟ ومن من الشعراء استفاد من الحلوي وعلال الفاسي وعبد الكريم بن ثابت ومحمد بن إبراهيم والبلغيثي؟

ودلالة هذا الاستفهام الاستنكاري تعني أن المشروع النقدي الجديد في المغرب ؛ والذي يحاول تأسيسه الجيل الجديد من النقاد ؛ ينطلق من الفراغ. وهو ما يفهم من كلامه صراحة: " إن هذا الجيل لم يخرج من معطف جيل مضى، ولا يحاول أن يتمم مشروعا مضى، إنه يسد فراغا حاصلا، وينحت لنفسه أبجدية نقدية جديدة لا علاقة لها بما كان يدبج من خواطر ومقالات "(23).

ولم يتراجع الأخ العوفي عن رأيه فكتب بعد ثمان عشرة سنة مقالا يحمل الأحكام نفسها، يقول: "قبل الستينات من هذا القرن..لم يكن في الإمكان الحديث عن مشهد نقدي في المغرب..بل غاية ما يمكن الحديث عنه في هذا الصدد هو..جملة من المحاولات أو الخواطر النقدية الانطباعية واللغوية، تلوح على هامش بعض النصوص الشعرية..كباقي الوشم بظاهر اليد(24).

2- أحمد المديني: ينطلق هذا الباحث في تصنيفه للنقد الحديث والمعاصر في المغرب من تصور خاص يتلخص في تقسيمه للاتجاهات النقدية في المغرب إلى أربعة أنواع هي:

1 - النقد التاريخي – التنظيري. (وهو النقد الذي ظهر منذ العقود الأولى لهذا القرن).

2 – النقد ذو البعد الاجتماعي. (وهو الذي انطلق مع بداية التحرر الاجتماعي أوائل سنوات الستين).

3 – النقد الإيديولوجي. (وهو النقد الذي ازدهر عبر سنوات السبعين).

4 – النقد الجامعي. (ويعني به الكتابات النقدية التي ينتجها جامعيون من مشارب مختلفة).

وليست الاتجاهات الثلاثة الأولى – في نظره – (وضمنه ما أسماه بالنقد التاريخي موضوع بحثنا) سوى ثرثرة كلامية لأنه لم يكن يفهم النقد الأدبي باعتباره الاتصال بالنص اتصالا حميميا وموضوعيا في آن، واستقراء مكوناته، ولكنه يفهمه فهما استـعراضيا ألصق بتاريخ الأدب منه إلى أي شيء آخر، يغلب عليه التداخل والإطناب والاستطراد، ولا يتوافر على جهاز مفهومي دقيق يعالج به النصوص الأدبية (25).

وعلى عكس صنيع الأستاذ العوفي تراجع أحمد المديني عن آرائه السابقة فاعتبر أن النقد الشعري الحديث في المغرب " نقد موجود، حي، فاعل ومتطور، بات له تاريخه المعلوم، ومفاهيمه المتبلورة، ومصطلحاته ومناهجه التي حرثت طولا وعرضا في النصوص، حتى وإن لم تستوفها دائما حقها "، وهو أمر دفعه إلى الوقوف وقفة " خصوصية مرادها إنجاز حصيلة وتحقيب وترتيب وتصنيف ما فات " (26).

3- إدريس الناقوري(27): يقسم هذا الباحث المراحل التي قطعتها حركة النقد الحديث في المغرب إلى ثلاث هي:

 مرحلة التراجم والمنتخبات: وتمتد – في نظره – من بداية القرن إلى منتصف سنوات الخمسين.

 مرحلة النقد الإيديولوجي: وتمتد من عهد الاستقلال إلى نهاية سنوات السبعين.

 مرحلة النقد الجامعي: وتمتد من نهاية سنوات السبعين إلى الآن.

والأمر الذي يستوقفنا في دراسة (الناقوري) هو جرأته على تحديد زمن بداية النقد الأدبي المعاصر في المغرب، فهو يقول: " إذا كان بعض الباحثين يفضل أن يحدد إطار الحركة النقدية في المغرب من الفترة الفاصلة فيما بين 1934 إلى سنة 1952، فإن البداية الحقيقية للنقد المغربي المعاصر تتحدد في منتصف الستينات بظهور مجموعة من المقالات والدراسات النقدية منها مقدمة ديوان (نجوم في يدي) 1964 – 1965 ". وبذلك يكون قد حدد الانطلاقة الحقيقية للنقد الأدبي المعاصر في المغرب مع المرحلة التي أطلق عليها الاتجاه الإيديولوجي.

4- عبد الحميد عقار: يقسم تاريخ النقد المغربي الحديث إلى ثلاث لحظات:

– اللحظة الإحيائية، وتبدأ من سنوات العشرين، وتنتهي مع سنوات الخمسين تقريبا.

– اللحظة التنويرية: وهي تغطي الفترة الممتدة بين نهاية سنوات الخمسين ونهاية السبعين.

– لحظة التجريب والتنظير، وهي حقبة تتواصل منذ أواخر سنوات السبعين إلى اليوم.

ويهمنا من لحظات عقار الثلاث حكمه على اللحظة الأولى، لأنها أقرب إلى الفترة التي ندرسها. إن هذه اللحظة تتميز – في نظره – " بنزوع واضح نحو الاستقراء الأولي للظواهر وللأعلام وللنصوص الشعرية. ويتجلى هذا الصنيع في وضع المنتخبات والاختيارات الشعرية، وفي تبني النقاد والعلماء لدواوين الشعر الصادرة حديثا بالمغرب عبر تصديرهم لها بالتقريظات والتحليات"(28).

إن النقاد الأربعة يقفون موقفا واحدا من النقد الذي ظهر قبل سنوات الستين، فهو ثرثرة كلامية بالنسبة لأحمد المديني، وهو تراجم ومنتخبات بالنسبة للناقوري وعبد الحميد عقار، وهو مقالات وتدبيجات بالنسبة للعوفي.

أما الملاحظة الثانية فهي أن تقسيمات النقاد الأربعة عدلت التصنيفات السابقة، فبدل الحديث عن مدرسة تقليدية أندلسية، وعن مدرسة الصحافة بفروعها (كما جاء في تصنيف عفيفي)، وبدل الحديث عن الاتجاه التقليدي أو التأثري أو الواقعي (كما جاء في تصنيف مصايف)، شملت مصطلحات الناقدين كل ذلك في تعبير واحد وداخل مرحلة واحدة هي مرحلة التراجم والمنتخبات بالنسبة للناقوري، أو النقد التاريخي بالنسبة للمديني.

بعد استعراض نماذج مختلفة من الأبحاث التي تناولت النقد الأدبي في المغرب ؛ من قريب أو من بعيد ؛ يتبين أنها عالجته من زوايا مختلفة، فهي إما تتحاشى الحديث عن بدايات النقد المغربي بحكم أنها لا ترقى إلى مستوى الكتابة النقدية، وإما أنها تنعتها بنعوت لا تليق بها.

ويتبين من خلال الأبحاث السابقة كذلك أنها تعتبر سنوات الثلاثين بداية للحركة النقدية في المغرب فتغض الطرف بذلك عن المرحلة السابقة.

وما تنبغي الإشارة إليه هو أننا قد نتفق مع أصحاب الدراسات السابقة في حكمهم على مرحلة ما قبل 1930، وقد نتفق معهم في أن النقد الحق بدأ مع صدور الظهير البربري، ولكن الذي قد نختلف فيه هو صرف النظر عن هذه المرحلة تماما دون أدنى التفات. فإذا كان الحكم على هذه المرحلة بأنه " ثرثرة كلامية " كما يزعم بعضهم، فإن الواجب العلمي والموضوعي يمنعنا من إصدار الأحكام جزافا وبعيدا عن الاحتكاك بالمتن النقدي، كما لا يبرر إهمالنا وإقلاعنا عن البحث فيها، إذ يمكن أن تتجه الدراسة إما إلى قراءة النصوص النقدية التي ظهرت في تلك الفترة قراءة متأنية فاحصة، وإما إلى البحث حينذاك عن أسباب فشل المشروع النقدي الحديث في المغرب، وتحديد مظاهر الأزمة التي يعانيها (29).

إن رصد الدراسات السابقة للنقد في المغرب كان مبنيا على لحظة صعوده لا على لحظة بداياته، وما فاتها ولم تنتبه إليه هو أن الخطاب النقدي في المغرب " وككل خطاب بناء تدريجي ومرحلي تشكل ويتشكل في سلسلة من الأطوار واللحظات التي تراكم الكتابات الأولى "(30).

والإشارة الثانية هي أن الدراسات السابقة في غالبها دراسات انتقائية، بمعنى أنها تهتم بمرحلة دون أخرى، فإذا نحن لم ندرس النقد المغربي قبل 1930 فمتى يدرس؟ فلحسن الحظ أن هناك أبحاثا أخرى(31) غطت الفراغ الحاصل في الأعمال السابقة، واهتمت نسبيا بمرحلة ما قبل 1930.

إن مرد مظاهر القصور التي اكتنفت بعض الآراء السابقة ؛ أو جانبا منها على الأقل ؛ هو الصعوبات التي يطرحها الاطلاع على ذلك التراث الموزع على صفحات الجرائد والمجلات المتباعدة الصدور، الشيء الذي كان يستنفد طاقة الباحثين ويصرفهم عن إعمال النظر في النصوص التي ظهرت قبل الاستقلال(32)، والكشف عن كبريات القضايا التي شغلت النقد الشعري في المغرب .

لائحة المراجع:

 نشر عام 1973 بدار الكتاب – البيضاء.

2 - انظر موقف (محمد مصايف) من هذا الكتاب في: النقد الأدبي الحديث في المغرب العربي– ص: 9 - المؤسسة الوطنية للكتاب – الجزائر – ط 2 –1984.

3 - نشر مكتبة الرشاد ودار الفكر – القاهرة – ط 2 – 1391 هـ – 1971 م.

4 - النقد الأدبي الحديث في المغرب العربي – ص: 132.

5 - انظر بعض الملاحظات الخاصة بهذا الكتاب: الواقعية عتبة الخطاب النقدي – محمد معتصم -مجلة الفكر الديمقراطي –ع7– 1989 – ص: 169.

6- نفسه - ص: 170 - 171.

7- يقسم محمد مصايف النقد الأدبي الحديث في المغرب العربي إلى ثلاثة اتجاهات: تقليدي – تأثري – واقعي.

8 - نشر سنة 1988 بمطبعة إفريقيا الشرق – البيضاء.

9 - نوقشت في جامعة ليون سنة 1980.

10 - انظر ملخصا لهذه الرسالة بمجلة كلية الآداب – فاس – ع 4 – 5 – 1981 – ص: 515 وما بعدها.

11 - منشورات دار توبقال – مطبعة فضالة – المحمدية – ط 1 – 1992.

12- نفسه – ص: 7.

13 - الخطاب النقدي المغربي ومآزق التأسيس- مجلة الفكر الديمقراطي– ع 7– 1989 – ص: 154.

14- رسالة جامعية أنجزها (عبد الله شريق) لنيل دبلوم الدراسات العليا، نوقشت بفاس عام 1987.

15 - نفسه – ص: 41.

16 - نفسه – ص: 39.

17 - المقالة الأدبية في المغرب.. – ص: 2.

18 - نفسه – ص: 3.

19- رسالة جامعية أنجزتها الباحثة شريفة حافظي لنيل دبلوم الدراسات العليا، نوقشت بالرباط عام 1994.

20 – نفسه – ص: 5 –6.

21 - رسالة جامعية أنجزتها الباحثة نعيمة هدي لنيل دبلوم الدراسات العليا، نوقشت بالرباط عام 1991.

22 - درجة الوعي في الكتابة – ص: 426 - دار النشر المغربية – البيضاء -1980.

23- نفسه – ص: 427.

24 -. المشهد النقدي في المغرب – مجلة فكر ونقد – ع 6 – فبراير 1998 – ص: 47.

25- في الأدب المغربي المعاصر – ص: 71 – 72 – دار النشر المغربية – البيضاء – 1985.

26 - مجلة فكر ونقد – ع 6 – س 1 – فبراير 1998 – ص: 46.

27- وضعية النقد الحديث في المغرب – الملحق الثقافي للاتحاد الاشتراكي – عدد 181 - 7 يونيو 1987 – ص: 6 - 7.

28 - تطور النقد الأدبي الحديث بالمغرب – مجلة فكر ونقد – ع 6 – س 1 – فبراير 1998 – ص: 58.

29- نقد الشعر في المغرب: عبد الله شريق – ص: 38.

30- بدايات النقد الأدبي المعاصر بالمغرب: محمد بالأشهب – ص: 5 – رسالة نوقشت بالرباط عام 1990 لنيل دبلوم الدراسات العليا.

31- حاول الباحث عبد المجيد عينية دراسة " القضايا الفكرية والأدبية من خلال المقالة بدءا من سنة 1912 إلى 1936 " في إطار رسالة أنجزها عام 1987 ونوقشت بالرباط.

32- نستثني من ذلك رسائل بلشهاب، وناظم، وعينية، فهي وحدها التي حاولت ملامسة نقد الشعر قبل الحماية.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى