الأحد ٢٤ أيار (مايو) ٢٠٠٩
بقلم مجدي علي السماك

الضعيف

الأولاد كبروا يا إسماعيل والمصاريف زادت. حتى البنت الصغيرة ربنا يهدّها طالعة مثل أمها ولا يهدأ بالها إلا بعد أن تلتهم في كل يوم حبتين بوظة. والولد الأوسط عبيط وأهبل، والأدهى من هذا أنه عامل فيها كابتن كرة قدم وفكر نفسه رونالدينيو، وساق فيها وصدق أنه لعيب.. أبوات وفانلات وتدريب ومسخرة وكلام فارغ. والولد الكبير الله لا يكسبه طول النهار يتسكع في الشوارع مع الساقطين مثله لرابع مرة في الثانوية العامة، ولم تسلم أي بنت في الحارة من مماحكتهم ومعاكستهم، ووصل الأمر بالولد إلى معاكسة البنت العانس التي وجهها عريض كالكانون المقلوب، وجسدها الكبير مكعبر مثل الفقمة، الساكنة في منتصف الشارع قرب النادي، وتعودت خصيصا أن تنشر الغسيل في الشرفة مفرعة شعرها وتبادله النظرات في غواية وفجور، وفي كل يوم على الحامي والبارد يشتري لها علبة كاملة من العلكة لتطرقعها في فمها الأوسع من المنقلة، بلا حياء ولا كسوف.. الله لا يوفقه البعيد محل ما دار وجهه، ولا يوفقها معه. ولا أمهم.. يا سلام على أمهم..

أمهم هي الأخرى مثلهم ولا تقل عنهم.. صحيح أن قلبي أحيانا يرضى عنها ويتعلق فيها.. لكن يدها مفروطة في المصاريف، ولا تحسب للزمن أي حساب، وهي التي عمرها ما ذاقت طعم اللحمة في دار أهلها صارت تشتريها بالكيلو.. أشوف فيها يوم خديجة بنت أبي يونس الطبرجي، في حدا عاقل في هذه الدنيا يفطر ملوخية.. الله يخرب بيت النسوان واليوم الذي تزوجتها فيه. طول عمره الواحد منا يشتغل ويتعب ويندهك في الحياة وأخرتها يطلع على ولا حاجة، على رأي المثل مطرح ما ولد شنقوه.. أما عيشة تقصر العمر.. قال هذه عيشة قال.. لمّا كنت في النصف الأول من عمري كنت بشوق انتظر نصفه الثاني لأرتاح واسعد، والآن صرت في النصف الثاني وقد بطحتني الدنيا فصرت أتشوق إلى نصف عمري الأول وأتحسر عليه.. على كلا كله ماشي.. يمكن ربنا يفرجها.

وبغتة صحا العم إسماعيل من سرحته العميقة.. على نقرات ثقيلة راحت تنهال على كتفه فنقلته من داخله إلى حيث هو مصلوب في السوق، وسط زحمة لا تخف حتى مجيء الليل، وفي الحال ترحرح جلد وجهه الباهت والمائل إلى صفرة كصفرة كعك العيد.. وبالغريزة من غير ما ينظر إلى وجه الناقر فتح حنفية الوعاء الزجاجي وعبأ كوبا من الخروب البارد. ورفع الكوب ولاحقه بعينيه المعمصتين وهو يمدّ ذراعه ليقدمه إلى الشاب الذي نقر كتفه، وأوشك أن يبتسم وهو يناوله ويقول بصوت ليّن فيه طيبة المسحوقين في غزة تفضل يا بني.. في ألهناء والشفاء.

لكن الشاب المتجهم وجهه ظل واقفا مثل الشحط ولم يتناول الكوب.. وبقسوة لاذعة كوخز المسلّة طلب من العم إسماعيل أن يجر عربته ويبتعد عن باب دكانه..

 اذهب بعربتك إلى أي مكان آخر.. هنا باب رزق وأكل عيش.. فكرها فوضى.

 اشتر مني هذا الكوب لأنني صبيته.. خليني استفتح يا بني.. أنا معي ضغط وسكّري.

 ما عندي نفس أشرب من خروبك البايت.. هو الشراء بالغصب.. أما مسخرة.

  والله إنه طازج يا بني.. أنا عملته اليوم بنفسي.. من صباحية ربنا وأنا أجهز فيه.

وجمع العم إسماعيل كل الضعف المدخر في جسده النحيل المعلول، بينما راحت أسراب الشرر تتطاير من صدره وتتناثر لتكمل انتشارها مع الشمس السخنة التي كانت تنهمر عليه بسخاء لا يرحم، والتي كانت تعذبه وهي تنشب أشعتها وتغرزها في وجهه الذي تدهورت ملامحه واندّكت تقاسيمه على ما فيها من دمامل وغضون، وبعدما سلقته الشمس أغرقته في مسطّحات من العرق الشقي المكدود.. ثم صار العم إسماعيل بقوة ضعفه يسحب عربته ليجرها بعيدا عن باب الدكان، وكان قلبه لا يزال يدمع ويطنب في الدمع وهو يندّك ويحس أن الدنيا ضاقت به وتكاد أن تطحنه وتعصره، وحسها أضيق من فتحة أنفه.. وظل ينظر إلى تحت وهو يستخلص قدمه من الأرض وينتزعها في حزن كأنما يودع كل خطوة من خطاه المطرودة.. ويودع نفسه ومكانه والدنيا في غيظ عظيم محبوس في صدر وارم. وبعد عدة أمتار ترنح، ثم توقف واضطرب، وكاد يقع حين توقف فاستند إلى عامود عتيق، وجلس على حجر بجوار أحد المحال الذي له واجهة زجاجية تلمع من شدة النظافة.. وشرب كوب الخروب الذي كان قد صبه مع حبة دواء مرض الضغط الذي ارتفع عليه وكاد يفرقع شرايينه ويهلكه.

ما كاد قلب العم إسماعيل يروق وينزل ضغطه ويستقر في دقه الرتيب، وقد هدأ الضعف المقيم في جسده المخسوف.. وكان لا يزال يجلس أمام بوتيك نسائي ويحدق عبر الزجاج إلى قوارير العطور وعلب الماكياج والكلاسين الملونة الزاهية.. نقر خاطره جسد زوجته الفائر الممطوط في براعة تزهق العقل وتستنفر الروح، وبانت له بجسدها الينيع بلا أي زيغ كقطعة من الشمس تضيء، ثم راح جسدها يتقن التثني ويتفنن فيه، ويجيد الغنج بمهارة نادرة.. فراح العم إسماعيل يهمس في داخله بلا أي صوت آه يا خديجة يا موتاني وهبلاني.. يا مدوخة روحي. عندها خرج صاحب البوتيك وهو شاب بدنه ضخم كبقرة التهمت طنا من البرسيم وطلب منه مغادرة المكان. فرجاه العم إسماعيل بصوت مهروس انطمست نبرته وتهدّمت فيه بعض الحروف.. صوت مرخي يرسل من حنجرة ضعف فيه الضعف أكثر فأكثر حتى تهدلت حبالها الصوتية وتخّت..

  خليني أترزق يا بني وأشوف أكل عيشي.. الله يخليك لشبابك.. الله يستر على ولاياك.

وظل العم إسماعيل يطرد مرة عقب مرة.. ليس فقط من أصحاب الدكاكين، إنما أيضا من أصحاب البسط الشرسين، وفي كل مرة كان يئن كل الأنين ويكابد حتى يزرق بجسده من وسط الزحمة.. حتى البوليس طرده عندما وقف في آخر السوق لئلا تغلق عربة الخروب الشارع فتعيق مرور الناس والحمير.. فوجد العم إسماعيل نفسه قرب حاوية قمامة خارج السوق كله.. ولكن ليس بمنأى عن طرفه الخالي من الناس. وعلى الفور بدأ ينش الذباب عن الخروب وعن وجهه المشحون بماضيه السقيم وقهره المستطير. استمر العم إسماعيل طول الوقت ينادي على خروبه دون جدوى فلا أحد يقترب منه ليشتري ولا أحد يدنو ليكلمه ويسليه.. وصار بين الحين والحين يشرب من الخروب كوبا أو كوبين، ليسد جوعه وعطشه المتعاظم..وهو يحدق إلى وجوه المارة كأنما يتوسل إليهم ويستغيث ليشتروا منه. وكانت وجوه الناس ما زالت حزينة ومبلية بآثار الحرب التي استوطنت في ملامحهم وهتكتها.. وزاد من حزنهم جيوبهم الفارغة إلا من أحلامهم وتطلعهم صوب آدميتهم المسلوبة بحصار مرير.

واستمر العم إسماعيل يشرب من الخروب ويشطف الأكواب بعد أن يفرغها في جوفه. وراح متعمدا يرفع الكوب ليشرب ويغمس فيه شاربه وهو يتجرع كي يعمل دعاية ليغري الناس بالشراء.. دون أن يكف عن النداء.. خروب.. بارد. ولم يتوقف عن مدح خروبه والتغزل فيه بكلمات لها سجع جميل وجناس عذب وجرس أعذب.

و في إحدى النداءات صرخ فجأة وقذف بصوته ليصوبه بلا قصد منه في وجه امرأة كانت غافلة وهي تمر بجواره.. خروب.. بارد. فذعرت المرأة وقفزت مبتعدة عنه وانتفش جلبابها خلفها وهي تنط ثم تابعت سيرها وهي تتلفت نحوه من بعيد وتهمهم..

  يه.. يختي!.. الراجل باين عليه مجنون وأهبل!. ما أهبله!.. يخرب بيته خوفني.. لمسني!.

وبدوره استغرب العم إسماعيل لهروب المرأة فراح في ضحك طويل سرى في المكان وصار يهز كل جسده وينفضه.. وحدث نفسه بصوت مرتفع..

  شف الولية.. باين عليها مهووسة.. أما نسوان صحيح.

لمّا وجد العم إسماعيل نفسه قد شرب كل ما لديه من خروب حتى آخر شفطة.. ويكاد المغرب أن يؤذن وقد فرغ السوق والشارع الموصل إليه من الناس، أزمع أن يروح إلى البيت.. على أن يعود في الغد إلى وسط السوق والزحمة.. ومعه بلطته التي يحتفظ بها منذ نصف عمره الأول.. والتي ما حملها يوما إلا وحطم بها رأسا.. كأن نصف عمره الثاني زاده حمقا وحكمة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى