الثلاثاء ٢٦ أيار (مايو) ٢٠٠٩
بقلم غزالة الزهراء

هكذا نلتقي وهكذا نفترق

الأيام تزحف في دعة واطمئنان وهي حبلى بالأسرار والغموض والمفاجآت، تحكي في إسهاب عجيب قصص الرحيل، والإغتراب، والشوق، والحلم، واللقاء، نعود نحن إلى موقعنا الحميمي مثلما تعود الطيور المتآلفة إلى أعشاشها مبللة بزخات الدفء، والتفاؤل، والانبهار.

نلج من الباب الحديدي الكبير، نتقدم نحو قاعتنا، نرتدي مآزرنا البيض في عجل، ونتجه صوب أقسامنا كأننا نسابق دوران الزمن، براعمنا المزهرة في انتظارنا على الدوام، تتطلع إلينا في فضول، وتتسامق بقاماتها نحو فضاءات الأمل.

بدوننا تتعثر..
لن تسير..
بدوننا تتجرد من كل الحكايا..
ومن كل بساتين الوفاء..

طبعا سيهاجمها الركود من باب التحدي، وتضيع في متاهات النقاط، والتعجب، والفواصل.
هناك بين الجدران الخرساء التي لا تتقن فن الكلام نشرح بعمق، نناقش بصدق، نحلل، وندون ما هو أغلى، وأثمن.

يدق الجرس، يقرع أسماعنا عن كثب..
بدونه لن نغادر أقسامنا..
إنها العاشرة تقريبا..
وقت الراحة حان..

ينتفض تلامذتنا من مقاعدهم، علامات الرضا تنط فوق الوجوه، يذوب الصمت الحبيب بين طيات الكلام، والهمس، والضجيج، وتتخرب لحظات الهدوء.
تسكر ساحتنا بحلو الحديث، ورديئه، يعلوها مرح فوضوي، عارم، وهناك تتطاول الأحلام، والأماني صانعة عريشة من عنب، وأفنان توت، ورمان.

هناك في الطرف الآخر وجه مألوف اعتدنا عليه، إنه مستشار التربية، يفرض مهابته في عزة، وأنفة، وإباء، يمسك عصاه بيمناه، يضرب بها من يعصي الأوامر. في سلوكه مهذب، صارم في علاج المواقف.
نجده جل أوقاته في مكتبه، يدون، يسطر، ويفكر، وأحيانا ينتقل بخطواته بين مكتب المقتصد، والمدير، وكاتبته، الكل يحترمها، ومن لا يعرفها يخطئ بدون شك.
تقبع وراء الحاسوب، تسجل ما يلقنها المدير إياه، وتغرق في كان، ويكون، وكن.

وكم تسترعي انتباهنا حين تتساقط عليها المتاعب، تتأفف وتتبرم، ولا ترسو على شاطئ
ونغادرها إلى موقع آخر..
مكتبتنا صغيرة، متواضعة، تقبع بين ثناياها( حليمة)، تنتظر من يطرق بابها بأدب لتمنحه كتابا يستثمر منه.

مكتبتنا ثرية، فاتحة أحضانها لنا، تضج رفوفها بالعلم، والمعرفة، ومن لا ينتقي كتابا يعتبر في عداد الأموات.
المنفلوطي ينادينا برفق، يشد على أيدينا، وكذا جبران، والجاحظ، وأبو القاسم الشابي، والصادق الرافعي، وطه حسين عميد الأدب، وغيرهم من العمالقة الكبارإضافة إلى هذا كتب متنوعة في التاريخ، والعلوم، والجغرافيا، والرياضيات، و... و...

يمر مستشار التربية في أقسامنا التي تجاور بعضها بعضا، يستسمحنا عذرا، ويقول بصرامة: حافظوا على الطاولات، وعلى الكراسي، والنوافذ، ومن تعمد تخريب ذلك سيعاقب، سيدفع الثمن غاليا.

نعم، هذا هو القانون المنصوص عليه، الردع هو أفضل حل لهم.
كنا كثيرا ما نمدحه في اجتماعاتنا الحميمية، ونثني عليه بكل صدق، فلا تحلو بدونه مجالسنا.
مدرستنا لن تتذمر، ولن تشتكي من سلوكات فوضوية، منحرفة، تساير الوضع بتأن، وحزم، وتتصرف بلباقة مدهشة، ولم تفقد السيطرة على زمام الأمور.

هكذا هي مؤسستنا، مؤسسة الشهيد محمد مرابط.
في صبيحة كل يوم، يقف طلابنا، وطالباتنا صفوفا منتظمة وهم ينشدون معا (قسما) إنه نشيد رائع يعبر عن وطنيتنا الصادقة.

نحن نقدس علمنا الذي سيظل مرفرفا طوال الحياة، نتذكر أثناءها شهداءنا الذين كانوا كالجبل الأشم، واستشهدوا في أرض الجزائر..
أرض الثائرين..
والمخلصين..
والوادعين..

ننحني لهم في صمت، وخشوع، وإجلال..
لولاهم لما كنا..
لحظات معدودة تجمعنا في الساحة، أو القاعة، ننكت، نضحك من الأعماق، تزول متاعبنا، وتندثر كطيف عابر، كم تكون لحظاتنا صادقة، ونقية، وشفافة، وثرية!

تغزو الفضاء تباشير صبح جديد، تغادر الداخليات موقعهن، القهوة في الانتظار، (وردية) الطيبة تسدي النصائح، وتتنقل بين هذه وتلك، حمامة دؤوبة مثلها لن يغزوها الملل.
يدق الجرس، النظام المعتاد يفرض نفسه، إنه سيد الموقف، (وردية) تؤدي وظيفتها بكل أمانة، وإخلاص، ضميرها الحي يؤنبها إن هي انحرفت عن الخط.

حارس الباب لن تغمض له عين، يميز بين الأليف والغريب، وإذا شك في أمر يصب كل اهتماماته في سين وجيم.

الساعة تشير إلى منتصف النهار، البطون خاوية، والأنامل تعبت من التحبير، فلنتنفس الصعداء.
الداخليات ينتظمن أمام مطعمهن، تقول واحدة من بينهن: إنها رائحة الفاصولياء، ما ألذها!
وترد أخرى ضاحكة: لا، أنت مخطئة، إنها رائحة عدس، أشمه ولو على بعد مليون كيلومتر.

وتغرق الطالبات ضحكا.
يدخلن وهن يتزاحمن بمناكبهن، يجلسن في أماكنهن المعتادة، الملاعق جاهزة، زجاجات الماء، الخبز اللذيذ يفتح الشهية، يحارب الجوع أينما كان.

في رمشة عين يرتفع الصراع، صراع الملاعق مع الصحون، يمر الوقت في مرور السحاب.
تخرج الطالبات إلى حيث الفناء، يتمشين، يتهامسن، يتضاحكن.
ويتكرر يوميا هذا السيناريو الرتيب.
ويحل المساء.

نلملم جهودنا التي أضحت على شكل أشلاء، المسؤولية ملقاة على عاتقنا، عين الإله ترعانا، تراقبنا، فلنعمل بتفان ليبارك الله صدق نوايانا، ويسدد خطانا.
الداخليات هن بحاجة إلى قهوة المساء، ولكن عوضت بالخبز الشهي، وقطع الشوكولاطة، كل واحدة يأتي دورها، تأخذ نصيبها، وتنصرف.

وقت استذكار الدروس لم تهمله إدارتنا الموقرة، إنها حازمة في مثل هذه الأمور.
في أقسامنا لا ننقطع عن التوجيهات، والنصائح: لا تجعلوا الخمول يتمكن من نفوسكم، إنه داء، والداء سم وهلاك، جابهوا المتاعب، وتفننوا في صنع الجديد.
هناك في ذاك الفناء الفسيح يمارس تلامذتنا الرياضة لأنها رياضة ود، وانسجام، وتشويق.

وحين تتفتح عيون السماء، وتتهاطل الأمطار فياضة، وتغمر المكان، يتكمش طلابنا، وطالباتنا في أقسامهم فرارا من البرد والصقيع.
نطق المدير ذات يوم بصوت جهوري: لنكن يدا واحدة، لنتحد.
طبعا الإتحاد يصنع منا قوة، وتماسكا، لا هشيما تذروه الرياح.

مؤسستنا تطأها أجيال طاهرة، تمكث بعض السنوات لتثمل معرفة، وعلوما، ثم ترحل صوب الثانويات كلمح البصرإلى ما هو أصعب وأرقى.
أجيالنا عقيق ودرر ملفوفة في الحرير، مديرنا يبذل جهوده لتسيير مؤسستنا، وباستمراريكتب للسلطات المعنية لتوفير ما هو ناقص وأهم.

جدول الحراسة علق في قاعتنا، تهافتنا لقراءته، كل واحد منا يبحث عن اسمه بين السطور.
هل تكون الحراسة متعبة، وشاقة، ومضنية؟
هل تستنزف منا كل جهودنا؟
طبعا سيكون ذلك إن أدينا واجبنا بنزاهة، وشفافية، وصدق.
ستكون الحراسة مشددة..
لا حركة..
ولا همس..
ولا غش..

طلابنا، وطالباتنا ألفيناهم صفوفا، صفوفا في الفناء، علامات الارتباك بادية على الوجوه، والقلق اللعين يلتهم علانية لحظات الهدوء.
يوم الإمتحان يكرم المرء أو يهان.
دخلنا أقسامنا، وزعنا أوراق الاختبار، نصحناهم قائلين: إقرأوا الأسئلة مرارا وتكرارا، حافظوا على الوقت لأنه من ذهب.

من خلال ذلك يتجلى لنا المجد، المثابر، والخامل الكسول. هذا هو النجيب المجد، يدفن رأسه بين أوراقه، يلتهم بعينيه السطور، إنه يكتب بكل أمانة، وثقة، وذلك هو الخامل الذي مافتئ يعبث طوال الفصل، يبتسم من غير سبب رغم أن هذا من قلة الأدب، ويحلم في فضاء بعيد، ويبتكر ألعابا بهلوانية ليثير ضجة ليس إلا.
ولكن ماذا يجني في نهاية المطاف؟

لا يحصد سوى الأسى، والعبرات، ويتوغل في نفق مظلم من التأسف، والندم.
جرت الاختبارات في جو ناصع بريء، وانهمكنا نحن في تصحيح الأوراق، وهذا ما أرهقنا كثيرا.
ورصدنا النقاط في الكشوف.
طبعا ويكون الخلل.
وتشرع إدارتنا الموقرة في مراقبة الكشوف، في جمع النقاط وقسمتها.
نلتقي جماعة في جو يفيض بالبشر والصفاء، وتعقد مجالسنا.
الفيزياء، التاريخ، العلوم، والأدب، و...و...
مستقبل أجيال بين أيدينا.

نثني على هذا ونمتدحه، ونمتعض من ذاك، ونتأسف.
نفتخر بمحمد، خالد، سارة، فاطمة، وحنان..و...
إنهم المثل الأعلى لمدرستنا، يستحقون الشكر، والثناء.

وينوه مديرنا هذه المجهودات بتقديم جوائز.
كم يكون مستبشرا، وممتنا!
وكم نكون سعداء!
مثل هؤلاء يساهمون في بناء وطن متين.
إنهم مثال للجد، والمثابرة، وحسن الخلق.

بين حين وآخر نجد طاولتنا يتوسطها شاي ساخن لذيذ مع حبات بلح أو قطع كعك، وأحيانا يكون الشاي يتيما لم يرافقه في حضوره شيء.
هذه التفاتة طيبة من مديرنا.

فكم من مؤسسات تربوية تحسدنا على انضباطنا، وجديتنا.
وهكذا نلتقي كل صباح..
ونفترق كل مساء..
إلى أن يحين يوم جديد..
وتبزغ إشراقة جديدة.

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى