الأربعاء ٢٧ أيار (مايو) ٢٠٠٩
بقلم صبحي فحماوي

أورسالم

يبوس مدينة واسعة، أسوارها حجرية ضخمة محصنة إلى السماء، ومنازلها مشيدة بإتقان من طابق واحد إلى ثلاثة طوابق، وهيكل أورسالم مكون من سبعة طوابق تيمناً بسبع سماوات طباقاً.

طرقات المدينة مرصوفة بحجارة مقطوعة ومبلطة بطريقة يسهل المرور فيها للحفاة من المارة، وللعربات الكارّة، ففي الساحات الواسعة، التي تتمدد في وسط المدينة، وتنتهي بطرقات مبلطة، تشاهد حصاناً يجر عربة خشبية مملوءة بكومة من القدور والدسوت الأباريق النحاسية المنزلية، يبدو أنها خارجة من كور النحّاس إلى دكان المتجر، ويكاد يصطدم بك بغل يجر عربة محملة بأخشابٍ مقطوعة للنجارين. ومن طريق أخرى يتقدم إلى الساحة حماران يجران معاً عربة محملة بالجرار وأواني الطبخ الفخارية. وهذه أتان دون بردعة، يركب عليها طفل، وتلتصق بظهره طفلة يبدو أنها أخته.

وفي أطراف الساحة العامة التي تتفرع منها طرقات المدينة، تقف تماثيل متباعدة بأطوال مختلفة، للأرباب عشيرة وبعل وعناة. وفي زاوية معتمة بعيدة، يقبع تمثال مخيف للرب موت. وتنهض في وسط الساحة صخرة المذبح المقدسة أمام تمثال ال العظيم، المنحوت من حجر أبيض ضخم، ويتعاظم خلفهما هيكل أورسالم الكنعاني، الذي لم يبن مثل معماره الحجري في البلاد، والمبطنة جدرانه من الداخل بخشب الأرز، بطول حوالي مئة ذراع، وعرض يقدر بمئة ذراع، وارتفاع خمس وثلاثين ذراعاً. والذي تمكن رؤية قمة طابقه السابع من كل قمم جبال فلسطين، وموآب وعمون وجلعاد وعجلون.

تدخل القوافل التجارية ميدان الساحة الواسعة لمدينة يبوس دون توقيت منتظم، فهذه قافلة جِمال محملة بالحبوب، قادمة من مصر، وتلك المحملة بالأوعية النحاسية قادمة من الشام، وهذه المحملة بالبهارات والصمغ والعطور من جزيرة العرب، وتلك قافلة بغال محملة بالتمور قادمة من باب ال في بلاد النهرين، وكلها تلتقي في ساحاتها المرصوفة بالحجارة المقطوعة، وتتوقف هنا وهناك إلى جوار هيكلها المقدس، تتعارف وتتثاقف فيما بينها، وتتبادل بضائعها، فهنا تنتبه لرجلين يتناقشان، وكل منهما يقف إلى جوار جمله الجاثم في الساحة، وترخي أذنك، فتسمع أحدهما يقنع الآخر بالتحول من عبادة بعل الفطرية إلى دين ال، الذي تقول التعاليم الكنعانية أنه يسيطر على الكون كله.

ويتوافد التجار اليبوسيون على أصحاب هذه القوافل، فيشتري بعضهم ما يخصه من بضاعتها، ويبيع تاجرٌ بضائع يبوسية لتاجر بابلي، ويقايض تاجر كرملي صوف الأغنام الذي لديه بتمور بابل المميزة. وعند باب ماخور، في شارع معتم منزوٍ عن الساحة يقف رجل مع امرأة بغي، تصبغ وجهها ويديها بألوان ملفتة للنظر، وتلبس غلالة فاضحة، تكشف عريها، يفاوضها على أجرة ممارسة البغاء معها في، بينما هي تبتسم بوجهها المستعار، وتشده للدخول.

وبالمقابل تجد قافلة يقول لك قائدها إنهم خارجون إلى جبل الزيتون باتجاه طريق ريحا، قاصدين باب ال، عبر نهر الأردن، وقافلة متجهة إلى الشمال الأموري، وبعضها يغامر بالتوجه إلى طريق الحرير، قاصداً بلاد السند والهند..

يقضي التجار في مدينة يبوس عدة أيام، يسيدون ويميدون في ربوعها المكتظة بالحركة التجارية والاجتماعية، وأفراد قافلة يتنادون للمسير إلى جنة عدن. ودبيب الحركة داخل السوق، وأصوات طرقات الحرفيين الذين يصنعون الفؤوس الحديدية والسيوف البرونزية، والمحاريث ومناجل الحصاد، ومهنيو الإسطبلات الذين يصنعون السروج والخروج والركائب، والبيطريون الذين يحذون الخيول والبغال والحمير، ومعامل فنيي صناعة الجرار والأواني والقدور الفخارية، وما يقابلهم من مشترين وزوار متفرجين، جعلتها أنشط المدن الكنعانية تجارة، واكتظاظاً بالسكان.

يقف الملك سالم طويلاً وضخماً، يزين جسده رداء وجُبّة اسمانجونية، يظهر لفتحتها العليا حاشية، وأطرافها محبوكة بصنعة حائك خبير، تتدلى منها رمانات أرجوانية، وعلى أذيالها رمانات قرمزية، وجُلاجلُ من ذهب. يبدو أن هذه الذهبيات هذه قد دلِّيت، ليُسمع صوتها عند دخوله إلى قدس الهيكل تحت عظمة إل، وأثناء حركته الميمونة أمام الحاشية. ويقف إلى جواره جبريل كبير الكهنة، وكبار شيوخ المدينة، وأهل العشيرة، وكلهم يتجمعون خارج سياج أورسالم المنيع، الذي شيدوه ليحمي المدينة من هجمات الأغراب، يراقبون أهل المدينة، الذين يتعاونون مبتهجين بحفر نفق مياه عذبة، وهو يقول لهم:

"ها قد أنجزتم المشروع، ونجحتم في جر المياه من نبع جيحون الدافق، إلى حصن أورسالم المتناسل بالعطاش." قال هذا ثم أشار إلى معاونه: "اكتب يا كبير البنائين على سور هذا السياج: (تم إنجاز قناة جيحون على بركة إل، بعد ثلاث سنوات من اكتمال تشييد سياج أورسالم الحصين.) "

يتجمع شعب يبوس وقوفاً حول زعيمهم، نساءً ورجالاً وأطفالاً، وعابرين وتجاراً أغراباً، فترى أحدهم يقف راكباً جحشه، وآخر يقف إلى جوار أتانه، وامرأة تمسك بيدها حبل نعجة، يبدو من ضرعيها الممتلئتين أنها حلوب، وطفلاً يقف لابساً قميصاً لا يستر مؤخرته العارية، ويلعب بحمامته التي تظهر من بين ساقيه الصغيرتين، بحجم رأس إصبع الشاهد، مخروطية الغلف، وشاب مندفع نحو صبية تكاد تلتصق به، يراودها عن نفسها، بينما الملك سالم يواصل خطابه قائلاً:

(وفي كل موسم بيادر، سيدفع الزراع والصناع والتجار حصصاً بقدر المستطاع من إنتاجهم لخزانة أورسالم، بالشاقل الكنعاني الذهبي....) يستمر الملك في خطابه، بينما يقول أحدهم لرفيقه: "لماذا ذكر الشاقل الكنعاني الذهبي، الذي يحمل اسم وصورة ال العظيم، ولم يذكر الشاقل الفضي، الذي يحمل صورة الربة عناة؟" فيجيبه صاحبه بقوله:

(ليس هذا مقصوداً، فالشاقل الكنعاني النقدي مقبول، سواء كان ذهبياً أو فضياً، أو من الشواقل النحاسية المختومة بتمثال بعل العظيم، أو حتى الشواقل الحديدية الموسومة بالملك الكبير.) ويقول آخر: (صحيح أن الشاقل لا يؤتيه إل دون عمل شاقّ، ولذلك سموه (شاق ال) شاقل.)

ويتابع صاحب مدينة سالم قوله: (سننظم ممالكنا في تعاون كبير، يضم كل بلاد كنعان، فلقد اتفقنا على أن يتكاتف كل إخواننا الملوك في جبهة واحدة، ليُكوِّنوا مجلس شورى بينهم، يتداولون فيه الرأي والمشورة بالأغلبية، وفي النهاية، يكون القرار بين يدي ملك واحد. سنُكوِّن اتحاد ممالك كنعانية متماسكاً، يجعل البحر الكبير مجرد بحيرة كنعانية وادعة...)

يجري هرج، وتتردد عبارات هتافات بأصوات عالية بين أفراد الشعب الواقفين أمام الملك: "التعاون قوة، والتفرق ضعف !) ويصيح آخر قائلاً : "ستصل تجارة كنعان إلى كل بلاد الدنيا." بينما الملك سالم يواصل خطابه قائلاً :

" ولن نترك أسرة تعيش بائسة تحت خيمة، أو بيت شَعر داخل مدينة أورسالم، بل سنساعدهم كلهم، ونبني لهم بيوتاً حجرية، يدفعون مستحقاتها من معطياتهم لاحقاً، كدين عليهم، إذا اقتضى الأمر." يؤلِّل* الشعب المتجمهر:

ال! ال! شيء عظيم! سنعيش بعد اليوم في بيوت حجرية، مثل الأغنياء.

ويعترض آخر صائحاً:

نرفض هذا القرار، الذي سيكون عبئاً علينا نحن التجار.

ولكن رجلاً عمليقاً يقف بين الناس، يؤيد القرار بقوله:

* نحن أصحاب البيوت الحجرية، مستعدون لمساعدة الحُفاة أصحاب الخيام، وحتى الساكنين في مغارات داخل أسوار المدينة! فالمركب الذي ليس فيه شيء لِ إل، يغرق."

يواصل صاحب أورسالم حديثه لشعبه قائلاً:" العراة المتسترون ببعض الجلود الفاضحة من الرعاة العبيرو الأغراب، والذين يدخلون أورسالم خلسة وهم يتدرعون بجلود مواشيهم، لتقيهم من البرد وتستر قليلاً من عوراتهم، بحجة شراء سيف أو معول أو منجل، سنمنعهم من الدخول ما داموا لا يلبسون الملابس المنسوجة، أو الجلدية المخيطة. وأما أهالي أورسالم، فمن لا يقدر منهم على شراء ملابس مخيطة، فأهل المملكة أولى بكسائه، إلى أن يقدر على تسديد نفقات ملابسه." يؤللل الجمهور..ال! ال! بينما يواصل سالم خطابه الهام:

" وسنحمي حقول اليبوسيين ورعاتنا المنتشرين في الجبال من اعتداءات العبيرو، رعاة الأغنام المتسللين ببطء إلى ديارنا، ينتجعون الكلأ والماء في أراضينا، ولا يتورعون عن السطو على ممتلكات الآخرين !"

يؤلل الشعب: ال! ال! ، ويقول أحدهم :

" يحيا الملك سالم!" فترد عليه جموع الشعب:

يحيا سالم، يحيا سالم.

تحيا أورسالم.

تحيا أورسالم.

يتفرق الجمع، كل إلى حال سبيله.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى