الجمعة ٢٩ أيار (مايو) ٢٠٠٩
كتابة التكثيف والاختزال

(صريم) للحسين زروق

بقلم: محمد أَفقير

صدر ضمن منشورات المشكاة بوجدة كتاب من توقيع القاص الشاب الحسين زروق بعنوان (صريم)، وهو كتاب إبداعي قد يطرح إشكالا على مستوى التجنيس الأدبي المألوف، فهو لقطات قصصية حسب الوصف الذي ذيله به صاحبه، يضم ست وستون لقطة قصصية عبر واحد وستين صفحة من الحجم المتوسط، وهو الأثر الثاني في مسيرة القاص الحسين زروق الإبداعية بعد مجموعته الأولى "الخيل والليل" (لقطات قصصية) الصادرة عن مطبعة النجاح الجديدة في طبعتها الأولى 1998.

تصلح المجموعة القصصية "صريم" أن تكون موضوعا لمقاربات متعددة، بتعدد الأسئلة التي تثيرها، سواء على مستوى مقولها ورسالتها، أو على مستوى بناءها وهيكلها.

ولما كان الغلاف الخارجي لأي عمل أدبي، بألوانه وعناوينه وصوره، هو أول ما يستوقف المتلقي، ويثير في نفسه جملة من التساؤلات، فليكن ولوجنا لعالم صريم من عتبة غلافها الخارجي.

يتوسط غلاف المجموعة الأصفر اللون، لوحة من إنجاز القاص، وهي عبارة عن صورة مربعة الشكل، شديدة السواد، وفي الأعلى إلى جهة اليمين انبعثت دائرة من الضوء يخالط فيها البياض الاحمرار، أما على ظهر الغلاف فنقرأ لقطة من لقطات المجموعة بعنوان "أَمركة":

 (...) لحظة نشوة ممزوجة بنكهة أمريكية خالصة... الرقص والأكل والموت على الطريقة الأمريكية.

 في الوقت الذي نحاول فيه تعريب إفريقيا وأسلمتها بسرعة سلحفاة... تجري أَمركة العالم – بما فيه نحن – بسرعة الفهد.

  (...) (تستمر نفس السلوكات... وينسحب صاحب التعليق من المعمعة).

ويبدو أن تاريخ نشر المجموعة الذي صادف استباحة إسرائيلية/صهيونية جديدة للأراضي الفلسطينية، وبمباركة أمريكية كان – بوعي أم بدون وعي – وراء اختيار هذه اللقطة من بين اللقطات الأخرى ووضعها على ظهر الغلاف الخلفي.

ولوحة الغلاف من جهة أخرى لا تعدو أن تكون - بشكل أو بآخر – ترجمة بصرية لدلالة العنوان "صريم"، وفي السياق نفسه نجد لفظة "صريم" وردت في القرآن الكريم، في قوله تعالى: فأصبحت كالصريم(1)، وقد جاء في تفسير البغوي لهذه الآية: (كالليل المظلم الأسود، وقال الحسن أي صرم منها الخير فليس فيها شيء، وقال الأخفش كالصبح الصريم من الليل، وأصل الصريم المصروم مثل قتيل ومقتول، وكل شيء قطع فهو صريم، فالليل صريم، والصبح صريم، لأن كل واحد منهما ينصرم عن صاحبه، وقال ابن عباس كالرماد الأسود بلغة خزيمة)(2).

هذا ما توحي به القراءة الأولية لعتبة المجموعة، التي تبقى على هذا المستوى استمرارا لمجموعة القاص الأولى "الخيل والليل"، إذ يعتبر (الليل) الثابت المعجمي في كلا العنوانين، ولا يتعلق الأمر بمصادفة عنوانية، كما قد يظهر للوهلة الأولى، بل بمؤشرات ورموز دالة على تجربة القاص ككل، هذه التجربة التي وصلت ذروة السوداوية في مجموعته الأخيرة "صريم"، إذ جاءت أغلب لقطاتها لتقدم صورة قاتمة لأوضاع المجتمع، على كافة المجالات، فعلى المستوى السياسي تتربع قضية الانتخابات بما يصاحبها من تزوير، وإقصاء وبيع للذمم، في مقدمة المجالات التي استشرى فيها الفساد:

(صاح الناس: لا فوز إلا للحاج "الضاوي"، وابتسم المرشح بكبرياضع (كبرياء+تواضع)... بينما امتدت يده إلى المحفظة ثم نثرت أوراقا نقدية... هتف الناس بالتسبيح باسمه، وخاضوا مقابلة في التقاط الأوراق النقدية... هذه المرة ضحك المرشح قائلا: الله يعطيكم الصحة)(ص 10).

(رفض ترشيحه لسببين: لأن له لحية، ولأنه جاد أكثر من اللازم، قال للباشا:

  اعرف أنك لست سوى قزم أمام هرم، لكن ما العمل وفي الصدر حرقة... حسنا في المرة الماضية ساندت راعي الغنم، أميا، وأبعدت أستاذا جامعيا، هذه السنة تساندون مومسا.. لا بأس.. فالمجلس مجلسكم وأنتم أحرارا أن تسمحوا فيه بالصلاة أو ممارسة الدعارة.. لكن لا تفرضوا علينا أن نأتي صناديقكم..

ترك الباشا غاضبا، وانصرف ولم يحضر يوم الاقتراع فقد أمضاه معتقلا)(ص 13).

ويذهب بالنقد اللاذع والساخر إلى مداه الأقصى، حين يوجه عدسته صوب الجانب الأمني، إلى درجة أن حجم "القضية الأمنية" يتمدد في محاولة لاحتضان شحن الإنسان والوطن، شجن الإنسان المستدل والمسحوق، والمتابع من لدن المخبرين الذين يحصون عليه حركاته وسكناته أينما حل وارتحل، في البيت، والشارع، والمقهى، والمسجد...:

(أينما مشى ألفاه خلفه... مجهدا نفسه أكثر من اللازم... أحيانا يشفق لحاله فيتوقف ليرتاح قليلا ثم يواصل سيره.. وفي الليل عندما يفتح النافذة يجده جاحظ العينين يرمقه.. اشتكى إلى صديقه ما يعانيه من رجل الظل، فقال له: أنظر خلفي.. كان له ظله.. ومن وقتها كلما أبصر شخصا أبصر ظلا يقتفي أثره وهو يدري أولا يدري)(ص 19).

كما تتمطط القضية الأمنية أيضا لتختزل شجن الوطن، الذي يعاني غياب الحرية والديمقراطية:

(- سيدي ألم ترى فتاة حيية سمراء اللون؟

  أظنني رأيتها، كانت باسمة الثغر، بسيطة، حرية أليس كذلك؟

وقبل أن يتحدث الأول واصل الثاني:

 نعم كانت هنا سيدي، لكنها رحلت للأسف، رحلت منذ زمن بعيد.

 لكن سيدي أنا لا أسأل عن حرية، أنا أسأل عن "شورى"

  أواه سيدي "معذرة" لم أسمع بهذا الاسم من قبل، وأنا هنا منذ زمان، فلا تتعب نفسك بالبحث عنها)(ص 35).

ماذا تبقى بعد هذه الصورة السوداء، ماذا يتبقى بعد العتمة، والليل المستديم، والأفق الملبذ والمأزوم؟

إن القاص لا يكتفي بوصف اختلالات الواقع، وهو يتربع من فوق صخرة عالية، أو تحت شجرة ظليلة، بل على العكس من ذلك يتصدى لهذه الاختلالات، سواء أكان ذلك بتسليط عين كاميرته على مواطن الاختلال لفضحها، وتقريبها، أو كان بنقدها ومهاجمتها والسخرية منها، وهو في كل هذا يترجم إيمانه بسنة التدافع(3)، ويقينه بحتمية التغيير، وإلا أصبح الوطن والمواطن خارج دائرة التاريخ الذي لا تعرف عجلته التوقف، وانتظار المترددين والعابثين، بل تتجاوزهم وتصنع تاريخا جديدا برموز جديدة وفق قانون الاستبدال(4).

لكن، أمام قتامة الوضع، وأزمته البنيوية التي مست كل المجالات، لم يجد القاص أمامه إلا الحلم كملاذ، بما هو محفز على الاستمرار، والتطلع إلى الغد الأفضل، الغد الذي ستكون فيه الإدارة حقيقة "في خدمة المواطن":

(... دون أن يلتفت إلي عبأ النسخ، وأخذها إلى رئيس المكتب لختمها ثم أعادها إلي...

  كنا من أجل أن نحصل على عقد الازدياد ننتظر أياما، وندفع الرشاوي، والبلاوي الأخرى.. وصبر أيوب:

وأنا أتسلم عقود الازدياد وانصرف، سمعته يقول:

  مع السلامة يا سيدي) (لقطة "أضغاث أحلام" (1) ص 49).

(ناولت الرقيب أوراقا مالية لأختصر علي المسافة وأحصل على الرخصة من دون مشاكل، واحمر وجهه.. ثم تواضع في جلسته.

 مضى ذلك الزمن يا ولدي.. احتفظ بمالك..) (لقطة "أضغاث أحلام" (3)، ص 50).

  كما يتطلع القاص – أيضا – من خلال الحلم دائما – إلى ذلك اليوم الذي سيتم فيه الإفراج عن المسجد واليوم الذي ستكون فيه حرية المواطن حقيقة واقعية:

(مع أن المسجد كان مشرعا أبوابه كلها، لم أجرؤ على الولوج (....) مرت سيارة شرطة دون أن تقف، ومرة أخرى وأخرى...

اقتربت من الباب الكبير، كانوا موزعين داخله بين قارئ ومصل ومضطجع.. وقد علقت لافتة في المدخل ترحب بالمؤمنين في كل وقت) (لقطة "أضغاث أحلام" (5) ص 51).

أما الكتابة في المجموعة فتأخذ شكل المقطع واللقطة والومضة، وهو شكل يملك – كما تبدى في هذه المجموعة – قدرة كبيرة على احتواء الهموم العريضة الموزعة على خريطة الإنسان والوطن، ويملك قدرة أكبر على التكتيف والاختزال، وكأننا أمام مقاطع فوتوغرافية اقتنصتها عدسة مصور بارع، أو أمام مشاهد التقطتها عين الكاميرا، كما أن اللغة الفلاشية المعتمدة كفيلة بتفجير إمكانيات الرمز، بل وتفجير التجربة القصصية ككل، وتمويجها عبر مستويات بلاغية وفكرية متعددة، بيد أن الطابع التقريري المهيمن يعود ليحد من هذه اللغة، ويجعلها في كثير من الأحيان تنويعات على وتر الكلام العادي، المتداول، على شاكلة ما يعرف "بالمستملحات والنكت السياسية".

وإذا تجاوزنا هذه الملاحظة، فإننا بهذه المجموعة الثانية من لقطات زروق نكون – كما قال سعيد الغزاوي في تقديمه للمجموعة – أمام (نمط جديد في الكتابة السردية يبشر به أديب واعد يحمل رؤية نقدية ساخرة وجمالية أسلوبية وتخييلية أخاذة) (ص 4).

الهوامش:

* - الحسين زروق: "صريم"، مطبعة النجاح الجديدة، البيضاء، منشورات المشكاة (هدية العدد 38 من مجلة المشكاة)، وهي المجموعة القصصية الفائزة بالجائزة الأولى للأدباء الشباب التي نظمها المكتب الإقليمي بالمغرب لرابطة الأدب الإسلامي العالمية.
1- سورة القلم، الآية 20.
2- تفسير البغوي، الجزء الرابع، ص 379.
3- ولولا دفاع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيه اسم الله كثيرا سورة الحج، الآية 38.
4- وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم سورة محمد، الآية 39.
بقلم: محمد أَفقير

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى