السبت ١٣ حزيران (يونيو) ٢٠٠٩
بقلم فؤاد اليزيد السني

الأحذية التي صنعت التاريخ

إن الأحذية التي صنعت التاريخ قد تكون عديدة و متنوعة، إلاّ أننا نسوق منها ثلاثة أحذية عربية: صار الأول منها مَثَلا يضرب في الغباء و الثاني درسا تاريخيا في الشرف و الثالث رمزا للمقاومة. ونقتصر على مفردة الحذاء من باقي المفردات الأخرى كالنّعل و الخُّف و "الصبّاط " و" البالغة " و" الحفّاية " و" الشراك " و" الكندرة " و"الشانكلة " و" السبركاطة " الخ. و نبدأ بالحذاء الأول:

الحذاء الأول: خفي حنين:

يحكى أن "حُنَيْنا " كان رجلا مسافرا بتجارته و صادف أن عثر على فردة "خف" أي حذاء مرمية في الطريق و لم يلتفت إليها لأن فردتها الأخرى لم تكن معها. و تابع طريقه و إذا به يعثر على الخف الثاني، فما كان منه لشدة جشعه إلا أن ترك بضاعته و راح عائدا بحثا عن الخف الأول. و كذلك كان ان عثر فعلا على تلك الفردة و عاد بها ليجد بأن بضاعته التي تركها وراءه قد سرقت. و هكذا عاد المغفل بخفين، صارا مثلا جاريا بين الناس

الحذاء الثاني: سفارة الغزال:

لقد اعتمدنا في هذه الرواية الثانية على مراجع تاريخية ، و اقتبسنا هذا النص من كتاب الأستاذ و الباحث اللغوي " كي جوكوا " من كتابه الصادر باللغة الفرنسية تحت عنوان " من التمركز الذاتي إلى التمركز العرقي". و توجد مراجع النص نفسه عند الدكتور إحسان عباس.

و تعتمد هذه الرواية على الرحلة التي رواها لنا السفير يحيى بن الحكم الملقب ب" الغزال" في سفارته إلى شمال أوربا آنذاك. و بالتخصيص عند ملك " الفكينغ" أي قبائل " النورمان " التي كانت تستوطن المنطقة " الإسكندنافية " إي بلاد الدانمرك حاليا. و يقع تاريخ هذه القصة، زمن عبد الرحمان الأوسط (206- 238 هجرية) رابع الأمراء الأمويين في الأندلس.

و يسوق" ك.جوكوا" النص (هذا الذي ترجمناه و أعدنا صياغته بطريقتنا الخاصة) ناعتا إياه، باللباقة التي خلص بها الغزال شرفه الخاص و شرف الإسلام معه من مأزق الإهانة كالتالي:

 " بعد يومين من وصول الغزال كسفير رفقة الوفد المصاحب له، استدعاه رسول الملك للمثول بين يدي جلالته، و قد أطلعه على البروتوكول الذي يجب التقيد به حين مثوله أمامه. غير أن الغزال لم يعبأ بهذه الأوامر، و رفض ذاك البروتوكول الذي كان يستوجب عليه، أن يستلقي على بطنه خاشعا أمام قدمي الملك. و برر موقفه قائلا بأن دينه لا يسمح له أن يسجد إلا لله سبحانه و تعالى. و بعد أخذ و رد و ذهاب و إياب للرسول بين السفير و الملك، خضع الملك أخيرا لرغبته و قبل بشروطه و استدعاه إليه. و كذلك كان، أن مضى الغزال ليبلغ رسالته و يا ما كانت دهشته كبيرة حين سار به الرسول المصاحب له و أوقفه أمام " بُوَيْب "

صغير. أو بمعنى أدق، أمام بوابة قد أغلقت بكاملها و لم يترك فيها من منفذ سوى فتحة صغيرة عند أسفلها للنفوذ منها زحفا على البطن. و قف الرسول عندها و أشار عليه أن:" تفضل فالملك في انتظارك داخل قاعة الاستقبال". و في رمشة عين وقع الغزال جالسا على مؤخرته و زحف داخلا من الفتحة مُسَبِّقا قدميه أولا قبل أن يمر بباقي جسده زحفا نحو الداخل. و يا للمفاجأة من الجهة الأخرى ! للملك الذي كان ينتظر متربعا على عرشه وسط نبلاء حاشيته، أن يرى رأس الغزال يطل عليه من الفتحة المنخفضة. بالفعل صدم برؤيته لقدم هذا الأخير كأول من يحييه، الشيء الذي يعتبر كإهانة كبيرة في تقاليد بلاده. و ما هي إلا أن استوى الغزال واقفا على قدميه، و تقدم ماثلا أمام الملك و هو كله ثقة و اطمئنان، قائلا له:" السلام عليكم أيها الملك و على كل هؤلاء النبلاء المتواجدين في حضرتكم. أنعمتم بفضل الحياة و بنعم الملذات و الرفعة والسمو و الشرف الرفيع في هذه الدار و في دار الآخرة". و حين نقل المترجم تحية الغزال للملك، أظهر هذا الأخير إعجابه قائلا:" إننا أمام حكيم من حكماء أمته، يتسم بالذكاء و رجاحة العقل. و لقد فاجئنا حين أبدى لنا قاع قدميه، الشيء الذي نعتبره إهانة و مسبة عندنا. لقد كنا ننوي إهانته فكان أن سبق لإهانتنا و لو لم يكن رسولا لأهدرنا دمه". و هكذا قضى الغزال بقية سفارته مكرما لغاية عودته إلى بلده. و محصلة هذه الرواية،درسا كبيرا في عزة النفس و الشرف المنوط بها و الذمة التي يضعها الإنسان الحر فوق كل اعتبار نفعي أو استرقاقي.

الحذاء الثالث:

أما هذه الرواية الثالثة، فهي التي تتعلق بالحذاء الذي قٌذِفَ به الرئيس الأمريكي " جورج بوش" من قبل الصحفي العراقي منتظر الزبيدي، أثناء مقابلة صحفية. و لسنا بحاجة أن نعيد عليكم تفاصيل هذه القصة الأخيرة التي نقلتها و صورتها كل وسائل الإعلام العالمي. نقول باختصار بأن هذا الصحفي أمام الرئيس المتسلط الذي دمر العراق و شرد أبناءها، لم يجد من وسيلة للاحتجاج على هذا القهر الهمجي، سوى أن خلع فردة حذاءه و رمى بها في وجه ذاك الذي كان يخرف أمام الانبطاح الدولي، و تبعها بالفردة الثانية صائحا في وجهه :" خذ هدية وداعك يا ابن الكلب". إن أضعف الإيمان أن يتكلم الحذاء. أن يتكلم و يصبح رمزا للمقاومة.و نذكر بأن لوحة " بيكاسو " " غرنيكا " التي خلدها في فظاعة الحرب الأهلية الإسبانية، قد نالت شهرة عالمية بسبب رمز مقاومتها الملتزمة. و كذلك سيصبح حذاء السيد منتظر الزبيدي رمزا للقضية الملتزمة و للثورة القادمة في رايات الأحذية


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى