الاثنين ١٥ حزيران (يونيو) ٢٠٠٩
بقلم فؤاد اليزيد السني

الشاعر و الحلاق و دار النشر

يحكى، أنه قد كان في قديم الزمان، و في سالف العصر و الأوان، في تربة الأحباق و السوسن، عفوا ! بل في هذه الحقبة من الزمن، شاعر ملأ الصحف و لم يفتن الناس. و حتى لا نمضي بعيدا في هذا الروي الواقعي و الفاتن إن أحببتم، هذا الذي أعددته لكم، دعوني أقدم لكم نفسي أولا. فأنا مقاوم من أبناء هذه التربة المغربية. و لأسباب إستراتيجية تحولت إلى مجرد مراقب خارجي، لِما يدور في هذه الأمة من أحداث و خوارق و قوالب. و حتى لا أطيل عليكم بالكلام الحكائي، أعدكم بأني سأخبركم عن نفسي، و من أكون بالتدقيق، و بكل هذه الأسرار، عند نهاية هذه الألفية القصصية.

البداية:

لقد كان الجو صحوا، و كانت الشمس عند موعدها الإشراقي فاتنة في البداية، و مزعجة بحرارتها القاسية فيما بعد. و قدم الحلاق، و دعنا نخترع له إسما مناسبا، و نسميه هكذا عبد الحالم. بالفعل، لقد كان صاحبنا من أشد خلق الله حلما. لقد كان كثيرا ما يخلط بين أحلامه و رؤاه و الكوابيس. و هذا العطب الفني، راجع في الواقع، لأسباب تقنية نفسانية، فقهية أو بسيكولوجية فرويدية إن أحببت. فأنت إذا نظرت إليه من الجانب الفقهي، فصاحبنا يمكن أن يُعَد، من أكبر قراء الدفاتر الفقهية و ما جاورها. أما إذا نظرت إليه من الناحية الفرويدية التحليلية، فإنه يمكن أن يصنف، من بين المكبوتين المستضعفين، غير القادرين على ممارسة أفعالهم المجنونة.

و قدم الحلاق مع مقدمة الظهيرة، و قد كانت الشمس قد طلعت منذ زمان. قدم و قد تجمعت بباب صالون حلاقته بضعة زبائن حائرة و قلقة، لسبب تأخر ه عن موعد الحلاقة. و قبلت الزبائن بجبرية هذا الزمن الجائر. و قبلت بكل الظروف اللاّزمنية و فضلت تنتظر. و من الجهة المقابلة لجمهور ذوي الرؤوس المشعككة، قدم الحلاق يرفل في ثقل إنسانه المغربي كما في زمنه الفقهي، و هو كله ثقة بأنه قد صار في نفسه و شخصه، عبقرية للأدبيات القصصية المغربية المستقبلية. لقد كان جمهور ذوي القجج، يفكرون في قُجّاتِهِم، و كان الحلاق من جهته، يفكر في مجموعته القصصية، التي أصبح همه الوحيد نشرها.

و أخيرا وصل الحلاق، و تقدم نحو بوابة صالون الحلاقة و شقشق مفاتيحه، و أدار في اللولب المفتاح الصحيح، و دفع بالباب، و اتجه داخلا، و لكنه لم يعتذر. لم يعتذر، لا لقلة أدب فيه، و إنما لأن زمنه المغربي، مثله مثل الزمن المغربي، من مميزاته أنه، يختلف عن كل الأزمنة الوظيفية لدى الأمم الأخرى. و تنهد الحلاق قائلا:

 قصاص كبير و لا أحد يعرفه!

 نَقّص لي من الوسط ..

أجابه الطفل المشعكك، الذي كان جالسا على الكرسي الرومي. و كتمها الحلاق في نفسه. و طَرّم رأسه و رؤوس أخرى من بعده، و تنبه فجأة إلى الرأس القرعاء التي تربعت على كرسي الحلاقة. و تنبه لمخلوق لا يشبه الآخرين في شيء:

 واش يريد الخاطر؟

 شِعْرُ مُقَفّى

 بيلوكا؟

 الغزل الإباحي يا رفيق يا رفيق القِصَص!

 نعم أنا كاتب قصصي كيف أدركت ذلك؟

 و هل يخفى القمر؟

 عمر بن أبي ربيعة، قال الحلاق، و استدار مبحلقا في هذا الزبون الغريب.

و أجاب الزبون:

 قاص و شاعر!

و صعدت في جسد الحلاق نخوة عربية، شبه جاهلية، و لم يتمالك أحاسيسه الخفية و اندفع قائلا:

 القصّة، نعم عندي هنا مجموعة قصصية، و كل أملي ألحلاقي أن أنشرها.

و تأخر الزبون الغريب عن الإجابة مباشرة و هو غارق في حساباته الممتلكاتية، شأنه شأن مجمل الأدباء المغاربة، المعترف بهم رسميا، داخل هذا الإسطبل المهجن، الذي يدعونه عندهم " باتحاد كتاب المغرب.

 أعطيني قصصك لأنشرها!

و انتفض الحلاق كمن يعود من جزيرة الوقواق قائلا:

 تعني نشر قصصي!

 بل تقديم عبقرية الحلاق القصاص للجمهور الأمي، كيما يصبح عضوا جديدا في اتحادنا.

و في هذه اللحظة الرهيبة من تفرعن الذات، تنازل الحلاق عن الدنيا و ما فيها، و راح مقبلا لرأس الزبون قائلا:

 أنت ملاك .. و الله العظيم ملاك مرسل !

و استغلّ الشاعر الموقف مقدما نفسه:

 نعم أنا الشاعر الذي سمعت به في الإذاعة، و أنا من كان يربط حصان المغفور له، الكاتب شكري، و كذلك أنا الذي يكتب في كل الجرائد المغربية. بل حتى "الروبيو" الأمي، إذا كنت قد سمعت به، فأنا الذي منحه عضوية اتحاد كتاب المغاربة.

 و كبف ذلك ..؟

قال الحلاق الغارق في أمية الأزمنة العربية الحديثة، و هو كله حلم و غباوة و سذاجة ملكية.

 أنت هو الكاتب العبقري الكبير؟

 مهلا . مهلا .. أنا .. أنا من ...

و قاطعه الحلاق و قد تصاعدت حُبابات الشوق الشقي في روحه البئيسة:

 أنت من نظر الأمي إلى أدبه؟

و لم يتمالك الشاعر الكاتب الأديب القدير، السميع، العليم نفسه، و أجاب قائلا:

 أنا من هو و من هو أنا.. !

و احتضنه الحلاق بالرغم عنه، و لم يدعه يكمل روح جملته، وراح به مقبلا إياه قائلا له:

 تزوجني !

و انتبه الشاعر الاقتصادي، لما قالته عفاريت الحلاق الحالمة بالشهرة، و الشقرة، و عوالم البال.

 عند للاّ مرسيدس، قال له، آخذا له بالأحضان.

و حين حاول الحلاق المنغرم بالأشياء الشبه جنسية أن ..، كان الشاعر قد اختفى.

و سقط الظلام، و انتشرت العوام، من فقير، و غني، و سكير، و قاتل، و غاصب لبنات المحاجر و مظلوم. و خرج الحلاق من دكانته، من بعد ما ودع آخر رأس مغربية شديدة الشعكوكة، و وضع الأقفال على بوابة دكانته، و خرج هكذا، هائما في مكبوثاته الكتابية، كآخر من اسْتُنْكِرَ له، من كبار كتاب هذا البلد، و إذا بالشاعر:

 القصاص ! قال الشاعر.

و انتبه الحلاق المغفل:

 الشاعر!

 تعال معي يا حبيبي، اليوم سترى ما لم تره عينك الجبلية، و أقصد، اليوم أمرا هاما، و غدا خمرا مذلة. أجاب هذا الأخير.

و تداخل المساء المسيحي في رونق حبابات خمرته العتيقة، و جاء في مقابله الحلاق، بأشهره القمرية و بهلال إسلامه القرآني، و تقاطعت الطرقات و تعددت المخلوقات و الأوادم، لما لهذا البلد المخضرم من معاني. و أخيرا تواجدا، بل تواجد الأول في البار، أي الخمارة، و قدم من بعده الثاني.

و رن الهاتف، أي الحامل السماع، أي بمفهومنا نحن، " الحامل /البورتابل" حوالي الساعة الرابعة بعد الظهر. و كان الحلاق على موعد مع صلواته المسائية. و كان السجاد أمامه قد سجد كجسد شقراء غربية على رمال ظمأى. و كانت الأشياء و الظلال و الأحلام و الفراديس، حين ..! حين رن الهاتف الوثني، و قدم من الجهة المجهولة صوت الشاعر قائلا:

 بار للاّ مرسيدس بقرب "أوطيل" شالّة.

و قفز الحلاق قافزا، خارجا من عوالمه الصلواتية، و خرج من بيته هاربا في اتجاه العبقرية. و لم يُصَلِّ صلاة فتحه، لا في "بني مكادة" و لا في"مرشان". و قدم مهرولا، و العرق الأدبي يتصبب عليه، صورا لأبطال ملاحم طروادة. قدم، و عبس و تولى، و راح و عاد، و أخيرا عثر على عنوان بلوة الدعوى. و دخل إلى خمارة العجوز الشقراء، و تفتقت الأنوار، و الأضواء و الأنواء، و سقت الفُجاءَة، و دخل الحلاق إلى عوالم معجزات الغرب الشبقية. و خرج من نهار "طنجاوي" قاس، و دخل إلى عالم المثل، حيث الإشراق الزجاجي في قلب المغارة، وحيث تسود الموسيقى الأمريكية التجارية، و شقراء عجوز على "كونتوار" الإشارة، و امرأة واحدة في الركنة، و الباقي رجال.

دخل، و ما كاد أن وجد نفسه في حضن الشاعر، وسط حلقة من الرجال المنتظرين. و فتح عينيه، و بحصص في الرجال الأربعة المنتصبين أمامه، و الشاعر عن يمينه، يقدمهم باهتمام:

 مراد البوليسي، و هو مثله مثل "رؤبة" كاتب زجل. عدنان الطاسي و هو أستاذ رياضيات و كاتب رواية. حميدو بوقجة صاحب دكان و من رواة لذاكرة محمد شكري. و أخيرا عز العرب من هواة أم كلثوم و الشعر الغزلي. و هكذا وجد الحلاق نفسه في عالم من الأدب الرفيع. و للحين رفع الملائكة المزورين كؤوسهم في صحة الحلاق الأديب. و دعي رسميا إلى اختيار مشروبه المفضل. و حين أجابهم:

 الحليب

قامت قيامة الضحك الفجائي و الاستهزاء ضمنا بهذا المخلوق الديني و كادت فضيحة السياق تنجلي لولا أن تدارك الشاعر الموقف مرقعا:

 امنحيه سيدتي اجمل ما لديك من البوردو الرفيع

و تحركت الناقة السويدية الشقراء ماشية في جسد عجوز من خلف الكونتوار و عادت كما قال الشاعر .. و كأن مشيتها من بيت جارتها ... مر السحابة لا ريث و لا عجل.

و خجل الحلاق من المخلوقة و أجابها بنعم و تناول بكلتا يديه كأس المعاصي لأول مرة في حياته و تجرع مما تيسر تجرعه من نبيذها كطفل فرح بلعبة جديدة و سقط روحا و ريحانا على مائدة الغرام. و الشاعر من الجهة المقابلة يداعب الآخرين بعيونه و السؤال له:

 أنشدنا من شعر مجنون ليلى...

و انتبه الحلاق الكاتب القصصي و أدرك بأنه قد خص بالكلام، و راح مستجيبا و في لسانه غصبا عنه، لعثمة و فرحا بإنسانه الهمام:

 عشقت ... ه ااا و ..

و غمرته، و هو ما زال متعثرا آهات الرفاق.

 آه ! آح!

و تخربط الحلاق و اندفع كفرس هائجة في حلبة شعر الغرام قائلا:

 و إن قُلْتُ ما بي مِنَ الحُبّ قاتلي ..!

و بعث الرفاق من ناحيتهم، آهاتهم الغرامية! و تابع الحلاق مقطوعاته الغرامية و الرفاق يموتون و يحيون و يتعذبون احتقارا و مقتا للحلاق، و الليل سار و الزجاجات تتعاقب إحداها تلو الأخرى و الرفاق يتسللون بخفة سرية، خارجين إلى موضع ضرب موعده سرا في مكان آخر، لغاية ما اختفوا و بقي الحلاق و الشاعر وجها لوجه.

 غدا سأكلم أخي الذي يدير دارا للنشر لطبع قصصك.

و طار الحلاق عليه، و راح يقبله و هذا الأخير يصيح بالعجوز الشقراء:

 هات الحساب كله علي!

و انتبه الحلاق، الذي حال كونه على وشك أن يصبح عبقرية جديدة، من ضمن اتحاد كتاب هذا البلد:

 لا و الله أنا من يدفع ثمن السهرة.

و حين تخانقا و أقسم كل منهما بالدفع، كاد الحلاق أن يخرج من المعركة الخاسرة، لولا أن الشاعر تدارك نفسه بلباقة في اللحظة الأخيرة قائلا:

 بارك الله فيك يا أيها الكاتب، ادفع و لكن في هذه لمرة فقط، و سقط رداء المسرحية.

و افترق كلاهما و عاد الحلاق من جهته في اتجاه بيته و هو كله مفاجأة بأنه قد صار كاتب قصة و عاد الشاعر من جهته في اتجاه "بار سيدي لولو" للاجتماع برفاقه. و حين اجتمع بهم أخيرا و هو يهتف بسبب ظمأه قائلا لهم:

 أنقذوا أخاكم ..! سربيسا .. هينيكن يا صاح ..

و سقط الظلام و صدى اتحاد كتاب المغرب يردد .. سربيسا يا صاح .. سربيسا


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى