السبت ١٣ حزيران (يونيو) ٢٠٠٩
الملحمة المغربية

(1) التغريبة الربيعية

بقلم: ربيع شعار

فلا حد يباعدنا...

لم أكن أتوقع وأنا أغادر بروكسيل مع صديقي المغربي - كريم - في رحلتي المغربية أن أرى كل هذا الجمال والأصالة، وأن أشعر بكل هذا الفرح والمتعة والنشوة وأنا في أحضان بلد عربي غنيّ إلى حد الثراء بعروبته وتراثه وطبيعته. كانت السيارة تقطع بنا الطريق الطويل في الأراضي البلجيكية، باتجاه"دوقية لوكسمبورغ"التي تجاوزنا أراضيها بدقائق معدودات، بعد أن ملأنا خزان السيارة بالوقود الأرخص سعرا في أوروبا، وذلك لإعفائه من الضرائب في هذه الدويلة الصغيرة، لندخل في الأراضي الفرنسية مع حلول الظلام. وتابعنا عابرين لمدينة"ميتز"ثم"نانسي"و"ليون"مفتقدين في الطريق، أنوار الإضاءة التي تنير أتوسترادات بلجيكا كدولة وحيدة في العالم، تنير طرقاتها الطويلة لتكون النقطة المتوهجة التي تظهر في الكرة الأرضية، للناظرين إليها من على سطح... القمر !!! وتركنا"مرسيليا الى شمالنا"بعد استراحات قصيرة، توقفنا فيها، نلنا خلالها ساعتين من النوم ودخلنا إلى"مونبلييه"متجهين الى مرفأ سفن الركاب"سِت"الصغير التابع لمدينة حلوة تنام وتصحو وهي تحتضن البحر. وكانت المفاجأة بالجالية العربية التي تكتظ بها هذه المدينة لتتحول بملامحها الناعمة ومعالمها الأوروبية الى لوحة جميلة رسمها فنان راق. أما أجمل ما في هذه الرحلة، فهو مرورنا بحدود ثلاث دول، وتجاوزناها دونما أن يوقفنا أحد ليسألنا عن بطاقة شخصية أو جواز سفر

السندباد الإدلبي

لا أدري لماذا تذكرت وأنا أصعد الى الباخرة الكبيرة التي ستنقلنا من أوروبا إلى أرض المغرب - بعد مروري على الأمن الفرنسي بجواز سفري البلجيكي مرور الكرام - مغامرات السندباد البحري وقصصه المليئة بالغرابة والسحر، وخطرت على بالي الخواطر وأنا أرى امتداد البحر الأبيض المتوسط وجالت بي الأفكار حتى وصلت الى اللاّذقية على الطرف الآخر، وتذكرت الأغنية التي تقول: أمانة عليك يا مركب... وصّلني لبلاد المغرب... وقلت لنفسي: ومن ثم إن شاء الله إلى.... إدلب. وعند إقلاع الباخرة ودخولها في لجّة البحر، ذهبت أسلّي نفسي في ملهى الباخرة وطلبت من المطرب الذي كان يغني أن يغني لي:"من يركب البحر لا يخشى من الغرق"وذلك للتخفيف من خوفي الشديد من الغرق. وعندما أطللت من النافذة كان البرّ قد غادرنا الى الأبد ولكي أتحدى الهواجس خرجت الى سطح الباخرة وأخذت التقط الصور لعتمة البحر الهادئ الذي تشق سفينتنا عبابه مخلفة خلفها أمواج صغيرة بيضاء. ذهبت للعشاء ومن ثم الى النوم بعد تعب الرحلة البرية، كنت أتقاسم مع صديقي كريم كبينة ذات فراشين وحمام خاص ومثلها يعطى لمن يدفع ثمن الرفاهية. وتحديت خوفي من الغرق وغرقت في نوم عميق.

علي يغني في إسبانيا

صحوت مبكرا جدأ وفورا الى مقهى الباخرة لأشرب عدة فناجين من القهوة محاولا بذلك أن أتخلص من دوار البحر الذي تملكني وجعلني أمشي كالسكران في أروقة الباخرة وسوقها الحرة. وبعد تناولي للفطور خرجت الى سطح السفينة، لأتفرج على البحر الذي ظهر ثائرا مكفهرا في هذا اليوم. قرأت العديد مما أحفظ من السور القرآنية وأخذت أبتهل إلى ربي بأن يوصلنا على خير، وعند الظهيرة بدا لي البرّ فهتفت صارخا: وصلنا !! وأجابتني ضحكات خافتة من أصدقاء الرحلة ومن ثم تبرع أحدهم بالتفسير: إنها أسبانيا وهذه المدينة هي مدينة"ألي كانتي"، وألي كانتي ترجمتها الى العربية"علي يغني"وأصلها بأن العرب الفاتحين كان لهم مؤذنا اسمه عليّ وعندما كان يؤذن لهم للصلاة كان السكان الأصليين يقولون بأن عليّا يغني، وبقي العرب في أسبانيا ثمانمائة عام وخرجوا منذ خمسمائة عام ومازال عليّ يغني.

قضيت يوما متعبا وأنا أتنقل من المطعم الى المقهى وإلى الملهى لأسمع الموسيقى وأقطع الوقت واشتدت ثورة البحر وعندما أقبل الليل أحسست بالفرج القريب إن استطعت أن أنام هذه الليلة، وبمساعدة من دوار البحر.. غرقت في نوم عميق.

على شطّ بحر الهوى رسيت مراكبنا

استيقظت في الصباح الباكر، على حركة نشطة في الباخرة، كنا على وشك الوصول... ألقيت بنظرة من النافذة ورأيت البر القريب وهتفت... شكرا يا رب، أخذت حماما طويلا وخرجت إلى سطح الباخرة لأتفرج على السفينة وهي ترسو على شواطئ مرفأ مدينة"الناضور"المغربية - وهي مدينة في ريف المغرب وسكانها من الأمازيغ المغاربة وتقع على البحر الأبيض المتوسط، وهي إلى جانب مدينة الحسيمة تعد المراكز البشرية الرئيسية للأمازيغ المغاربة وهي أيضا منفذا رئيسيا لتهريب"الحشيش"المغربي الذي يزرع بكثافة في هذه المنطقة ولتهريب البشر"الحراقة": وهو الإسم الذي يطلق على الهاربين عبر البحر إلى شواطئ أوروبا تأسيا بطارق ابن زياد الذي حرق مراكبه وهو على شواطئ الأندلس على مبدأ:"يا قاتل يا مقتول إلى أوروبا"أتممت إجراءات الدخول بسرعة وذلك بفضل عشرة"يوروات"دفعها صديقي لأحد السماسرة الذين ينشطون على الحدود كمبعوثين غير رسميين للموظفين الرسميين على الحدود. كانت هناك عقبة صغيرة بالنسبة لي إذ أنهم طلبوا مني بطاقتي الوطنية لظنهم بأنني من أصول مغربية، وعندما عرفوا بأنني من أصل سوري، فرحوا بي ورحبوا قائلين: ادخلها آمنا... خرجنا بسيارتنا من الحدود قاصدين قرية صديقي كريم"مداغ"القريبة لمدينة بركان في شرق المغرب عابرين لبساتين الزيتون... وتنفست بعمق أول رشقة هواء عربية منذ تسع سنوات، ونظرت لشجر الزيتون وأحسست بأنني على مشارف"إدلب".

يتبع في حلقة قادمة

بقلم: ربيع شعار

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى