السبت ١٣ حزيران (يونيو) ٢٠٠٩
بقلم السعيد موفقي

السخرية المعيارية

(محضر جلسة جامعة الدول العربية الزعبطيطية الأخيرة)* للطاهر وطار

إنّ قراءة النّص يعني قراءة مجموعة من الدلالات التي تفرزها مكوناته الخارجية والداخلية، فما تقتضيه علاقة التجاور والتجاوز إنّما احتكاك فرضيات ومحددات اختارها القاص بقصدية ذاتية وموضوعية، ولعل الموقف الذي يبديه كسارد يتوقف نجاحه على مدى مهارته الأدبية والفنية في مختلف المستويات، الواقعية والتخييلية يرتبط أساسا بالمتلقي كمستهدف جوهري، لأنّ السارد يبحث عنه في مختلف المواضع والوضعيات حتى الملتبس منها، ومن هنا يمكن أن يحقق رسالته في إثارته واستفزازه وإشراكه في يريد أن يثيره من أفكار وانفعالات وصدامات واصطدامات فاعلة وإيجابية.

كثير منها يجمع بين الجدّية والسخرية في لفت الانتباه لها ومعارضتها، والقضية التي تستوقفه في المجتمع أو في السياسة أو في أي مجال من مجالات الحياة وما أكثرها تصبح بالنسبة له الفلك الذي تدور في فضائه مختلف القضايا الجزئية والأساسية، مساعدة على تراكمها أو تشجيعها، ما يلفت الانتباه حقيقة في عالم السرد اهتمام الأدباء والروائيين بمعالجة القضايا بأساليب مختلفة ومتناقضة في كثير من المناسبات، روائي خبير بحجم الطاهر وطار يدرك تماما ما معنى طرق قضية سياسية أو اجتماعية ومعالجتها لا يعني طرح إشكال وانتهى بقدر ما يحمل من دلالات قوية وشفرات تستوقف المتلقي لفكها والوقوف عندها مليا والتنقيب عن دلالات رمزيتها في تفاصيل الأحداث والشخصيات، واختيارها يقتضي دراية متنوعة بالسلوك والتفكير ومنطق الأشياء لدى الأفراد والجماعات، لقد تعلمنا في كتبه الروائي الطاهر وطار كونه جريء في مواجهة القضية مهما كانت حساسيتها أو أبعادها، وما نلاحظه في القصة التي بين أيدينا تعلمنا طرحا جديدا في ملامسة حيثيات السياسة بمختلف علاقاتها، وهنا استوقفتني جملة من الملاحظات التي لم أقف عندها في إنجازاته الإبداعية وإن كانت لا تخلو من سخرية عميقة في تعاطيه لقضايا الذات والموضوع،الفردية والجماعية متخذا أساليب المعارضة والرفض وأسلوب السخرية المعياربة أو النموذج التراثي مدخلا أساسيا في التعبير عن موقف يستحق السخرية منه وفضحه في أشكال مختلفة كما يفعل الرسام الكاريكاتوري، والأدب الساخر أدب عالمي لا يخلو منه تراث أمة حيّة.. فالإنسان أينما كان يعالج نواقصه عندما يسخر منها... وكثيرون من الناس يؤمن أن السخرية إحدى الطرق لتغيير الواقع، أو هي أحد أشكال المقاومة، والأدب الساخر لا يقصد الإضحاك فقط بل له أهداف وغايات من أهمها:

الحفاظ على قيم المجتمع العليا،

تكريس السلوك القويم،

تعديل مجرى اتجاه متطرف..

لأن السخرية تهاجم دائماً التصلب في الفكر والطبع والسلوك ساعية لجعل طباع المجتمع أكثر مرونة كما أن السخرية تترجم حالة روحية حين تنحرف القيم ويسود الزيف(01).
و من هنا نبحث عن السخرية المعيارية في آخر ما أبدع القاص الطاهر وطار في قصة (محضر جلسة جامعة الدول العربية الأخيرة الزعبطيطية)

رفض الواقع السياسي العربي والعالمي والسخرية من مواقف العالم من نفسه وهي مفارقة أثارت حفيظة السارد في تلقي الظاهرة والتعبير عن موقفه المعارض، والمسرود في هذا النّص يعكس الوجه الجديد والحلة المتطفلة لدى الشعوب المستضعفة وعلى رأسها العالم العربي، نكتشف في طريقة السارد أسلوب النقد الكاريكاتوري، يمزج فيها بين:

السخرية باللون

السخرية بالمكان

السخرية باللغة والصوت

و هذا النّص ينم عن نضج إذ الكثير من لقطات أبي العلاء المعري الساخرة تستند إلى آلية المفارقة اللغوية التي تجعل العلاقة بين الدلالة المباشرة والدلالة المنزاحة علاقة قائمة على التقابل الدلالي لأن بنية السخرية تتحقق بوجود دال ومدلولين يكون الأول مباشراً ويكون الثاني ضمنياً... يكون المدلول الأول حرفياً وظاهراً بينما يكون المدلول الثاني قصدياً وضمنياً ولا بد والحال كذلك لكي تحقق السخرية الهدف منها على مستوى الكتابة.. لا بد من تفاعل العنصرين: الكاتب والمتلقي لأن السخرية تحضر في النص من خلال مؤشرات وقرائن فقط يأتي بعد ذلك دور المتلقي في تشييدها لتصبح محققة(02)... والمرجع الذي استند إليه القاص في المستويات التي ذكرناها تتحقق في هذا المسرود الساخر على أوجه مختلفة:

السخرية باللون:

البداية التفكير في إيجاد حل لعقدة مزمنة طالما عانى منها مجتمع العالم بما فيه المتقدم الذي ينظر إلى المتأخر في صورة حقيرة، إذ ارتبطت نهاية العالم الحالم بالنتيجة التي انتظرها الغرب عموما والأمريكان بشكل خاص على اعتبار الحقيقة التي ينبغي ألا يختلف حولها العالم، استعمال السارد لكلمة (حتى) لها دلالتها الغيبية في حين تعكس التصور الحقيقي للمنتظر في القريب أو البعيد، واحتمال تجلي المجهول...((حتى قبل أن تظهر النتائج النهائية للانتخابات الرئاسية الأمريكية))، والقرينة الثانية التي أثارها السارد في تحديد الوضعية الحقيقية للصراع القائم بين القطب المزعوم والعدو الموهوم الذي أنشأه الغرب عموما والأمريكي خصوصا ((وجد قادة الدول الزعبطيطية، أنفسهم، ولأول مرة في قمة مكتملة النصاب، ولأول مرة بدون تحضيرات مسبقة تكثر فيها الشروط والمساومات، والتنازلات، وبعض أو كثير الغيابات.)) استعماله لكلمة (الزعبطيطية)

((فوجئت الصحافية الزعبطيطية والعالمية، بهذه السرعة النادرة في ردود أفعال الزعابطيط،و بينما قالت الصحافية الزعابطيطية،)) وهذا التوجه المفاجئ يثير فضول المتلقي بحدة ويجعله يتساءل في كل مرة، ويتغير بل تتجدد وظيفتها من حيث تكوين جزئي للصورة الطبيعية التي طبع بها الآخر في كنف سياسة فجة غامضة، تعتمد التسرع والتخوف والتحدي السلبي ((إنّ المسألة وما فيها، " بعض" الضرر الذي لحق أسعار البترول، والذي مسّ أكثر ما مسّ، نمط حياة القادة الميامين، وبصفة خاصة، نمط تسوق سيدات الزعاببطيط الأولى، ليس بسبب شح ذات اليد، حاشا لله، وليس بسبب، تضاعف أسعار الملبوسات والمجوهرات، حاشا لله،فخير ربنا ما يزال وفيرا، والحمد لله.)) والدور لم تلعبه الزعبطيطية، والتي وظفها السارد في خيثية ساخرة تجعل المتلقي يتفقد ذاته ويحاول من جهته أن يصحح كثيرا من المفاهيم التي لم يسطع ذوي القوة والنفوذ إليها بذكاء، واستعملوا بدلا من ذلك القوة السلبية، والمستوى الذي لم يدركه الساسة على مستويات رفيعة، هو المغالطات التي تلجأ إليها الصحافة ((إنّما، وهذا ما أبرزته الصحف الزعبطيطية بعناوين غليظة،و على صفحاتها الأولى، بعبارات تكاد تكون واحدة...السيّدات الزعبطيطيات محل سخرية، في أسواق باريس ولندن... مردّ ذلك، أنّهنّ لا يشعرن بالفارق في الأسعار برين الأمس واليوم.)) وعلى مستوى ليس بالبسيط في نظر السارد اقتراب دلالات الأشياء لدى كثير من فئات المجتمع وإن كانت مقوماته الفكرية ومؤهلاته الإعلامية غير كافية جعلته يتحفز لمعرفة الحقيقة كما هي في الواقع وأحيانا كما يتصورها بمعطيات جديدة ومتجددة، ولقاء الأشخاص في مختلف فضاءات العالم المعلومة والمجهولة، بين النساء والرجال، أصبحت كثير من محددات خارطة العالم في أيدي عابثة، لا تبالي بجغرافيا العالم من حيث أهميته السياسية ومكوناته الاقتصادية والثقافية التي تدنت، واحتلت العالم قوة مغايرة تعتمد مقومات مختلفة ومرجعية مناقضة لطموح العالم المتجدد ((حتى أنّ إحداهن من مسيّرات المتجر، قالت متفكهة، إنّ ثمن هذا المعطف يتجاوز كلّ ما أنفقته سارة المرشحة الأمريكية لنيابة رئاسية.)) أليس لمتغير الأشياء على مستوى الإنسان ظهور بديل جديد لوني في تديد مصير العالم وإقناعه باحتمال تحقيق سعادة البشرية، حديث السارد عن الشخصيات الخقيقية وتحكمها في مصير العالم له دلالته واستراتيجيه التي رسمها السارد بغرض السخرية من العالم الذي يدعي سلطته على عالم آخر وهو لا يكاد يميز بين ما له وملغيره إن لم يكن كل ما يعتقده لغيره جملة وتفصيلا ,

السخرية باللغة والصوت:

أبرز الشخصيات التي تدير دواليب العالم هي شخصيات وهمية متسلطة اختلقها الغرب بطريقته لتحقيق مآربه، وهذا كله في النهاية سخرية من العالم العربي الذي لم يستطع توجيه نفسه بالمقدار الذي يعتقده، ولذا برز في المسرود جملة من الأصوات التي اعتقد السارد أنّها تحقق صورة السخرية التي يجب أن يفهمها العربي كما يتصورها الغربي، استعمال السارد لكلمة (قولي لها طز) له دلالته الطبيعية على معنى التهكم والسخرية من أولئك الذين لم يدركوا معنى وجود الإنسان، فإذا كان صوت اللغة أن نعي معنى الإيقاع للأشياء كما هي في الطبيعة، وتجاور الخروف له دلالته الحقيقة في النّص ((قولي لها طز على سارة، حاشا أمريكا.))، والحقيقة التي يعتقد السارد أنّ العربي لم يدركها بعد توهمه بسلطة الأشياء محررة، والواقع يقول عكس ذلك، الضحك الذي أحدثته المتخاورات لم يكن في ظاهره إلا من عابر أحاديث اىلنّساء كعادة أي تجمع نسوي، ولكن الغرض الخقيقي الذي استعصى على الإنسان الواعي هذا التقابل المفاجئ من النّساء والتفافهن حول معنى من المعاني

((انفجر كل من كان في المحل من العاملات، والمختصات، بالضحك، ورحن يحاولن النطق بالجملة:" تووز آلي سارة ".))

و الملفت في هذا الرسم الكاريكاتوري التقليد الذي استحدثه السارد عندما حاولت إحداهن تقليد عبارة: طوز على سارة وكان التقليد بالشكل الآتي: توز آلي سارة، انزياح للحقيقة التي لم يدركنها الفضوليات، وهذا من شأنه أن يجعل المتلقي لا يكتفي بالضحك بقدرما يبحث عن التركيبة التي يشكلها اجتماع من يعتقد السارد أنّه مجرد سخرية من جهتهم ولا يمكنه أن يحقق ما يتمناه كما يريد الآخر يحقق لذاته منهم ((وهاهم في أول اجتماع قمة لجامعتهم يضعون جدول عمل بنقطة واحدة، هي: كيف نعالج الموقف ؟

رغم غموض النقطة، فإنّها في الحقيقة جامعة شاملة، فيها كثير

من الصرامة، تعكس حرج وأحاسيس الرؤساء الذين لم يتغيّروا

ما يزيد عن ثلث قرن، كذلك أحاسيس الذين ورثوا جمهوريات

زعبطيطية بكل ما فيها من مؤسسات، ونساء ورجال و

أطفال، وكلاب، والذين يؤسسون لتوريث نسلهم، كما تعكس

حرج ممثلي الأّمة الذين شاهدوا مباشرة أو إعادة، مطربا شابا

وسيما، تقبله مراهقة، قيل إنّها قاصر، وقيل إنها ثيب، وقيل،

إنّها بكر.))

أما أولئك الذين تترصد شرطتهم، السيارات، ومن يقودها، ملفتين أنظار مسئوليهم، إلى أن بعض النساء يتنكرن في زي الرجال، عندما يقدن سياراتهن، وأن السيارات ذات الزجاج غير الشفاف، تحدث حرجا كبيرا، فالله وحده أعلم، بمن في داخلها، ماذا يفعل،و قديما قيل، " خاف الله، واللي ما يخاف من الله ". ومن هنا فإنّ الزعبطيطية التي صورها السارد ذات صوت مخبوء، ولا أثر لها سوى رجع الصوت المصدر ,

السخرية بالمكان:

و أما السخرية بالمكان، ونعتبر هذا تميزا في العملية الإبداعية لدى السارد إذ تمكن من توليد صورة شيء جديد لغرض معلوم، أطره بالسخرية والتي نصطلح عليها بسخية المكان، ورد في المسرود جملة من الرموز التي تشغل حيزا مكانيا، ولعل ذكره لكلمة (مناطق)،(سكانها هم الأصل)

((الإشكالية كلها، هي أنّ كثيرا من مناطق غير الزعابطيط، ينطوي جوفها، على مواد ثمينة، وأنّ سكانها هم الأصل........))، وإشارات أخرى لا تقل أهمية عما ورد في تحذيراته هو الاطمئنان والتزهد في الأشخاص ذوي الطبع المشين، ويذكر السارذ مثالا حيا عندما يعتبر تغير وتناوب الأشخاص في مكر ودهاء، كثير من الغافلين ممن التمسوا السعادة والرخاء من غير أهلها، باءت أحلامهم بالفشل ((ينفقونه في الملاهي الليلية، هناك، وكثيرها، يوضع في الحسابات الخاصة، عملا بالحكمة القائلة: لا أمان في دار الأمان.))

من المؤكد أنّ تصور السارد للواقع المزري للعالم العربي لم يكن مجرد تخيّل بقدر ما فيه من الحقائق المرّة، والوضع الذي هم عليه ليس بالمحمود، العفن استفخل بقوة عندما اعتقد كثير من النّاس بجديّته وفي باطنه سخرية ومسخرة كما اعتقد السارد ذلك وكان محقا في تصوره

((عمّ الهرج والمرج، وكثر اللغط، واختلط الحابل بالحامل. وسمعت طقطقة الكراسي.))، السر الذي نجح بينهم أنّهم استطاعوا أن يجمعوا أمرهم بينهم بألا يفشوا سرهم إلا لأنفسهم وإلا أصبحت فضيحة العالم لا تقل بشاعة عن فضائح سابقة ((في صباح الغد، أعلنت الصحف المحلية، أنّ الاجتماع ناجح، حيث تمت دراسة جدول الأعمال، وقالت الصحف الأجنبية، إنّ الزعابطيط، لأول مرة، يجعلون أمرهم سرا بينهم.))

إنّ الرمز الذي وظفه السارد في نصّه له دلالته الفنية والسياسية والاجتماعية والحضارية، وهي صورة مركبة، تحمل نقدا لاذعا، وفي الحقيقة هو نقد ذاتي بالدرجة الأولى، والسخرية من بين أهم الأساليب الناجعة في مواجهة الظواهر الاجتماعية والسياسية ومتابعة نتائجها سلبيا وإيجابيا وملاحقة المتورطين بمختلف الأسلحة الصحيحة والقوية نفسيا واجتماعيا، وهو نوع من التوجيه الموجه للعقلاء والمثقفين وتحريك هممهم وإقناعهم بالواقع وحاجته الماسة إلى التغيير.

 [1]
(محضر جلسة جامعة الدول العربية الزعبطيطية الأخيرة)* للطاهر وطار

[1(*) – قصة للروائي الجزائري الطاهر وطار/ نشرت في العع الأخير من مجلة التبيين 2009/32
(1- 2)إطلالــــة على السخريــة عند أبي العلاء المعري ـــ فوزي معروف (*)باحث من سوري


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى