السبت ٤ تموز (يوليو) ٢٠٠٩
بقلم فؤاد اليزيد السني

الشاعر والحلاق ودار النشر

يحكى، أنه قد كان في قديم الزمان، وفي سالف العصر والأوان، في تربة الأحباق والسوسن، عفوا! بل في هذه الحقبة من الزمن، شاعر ملأ الصحف ولم يفتن الناس. وحتى لا نمضي بعيدا في هذا الروي الواقعي والفاتن إن أحببتم، هذا الذي أعددته لكم، دعوني أقدم لكم نفسي أولا. فأنا مقاوم من أبناء هذه التربة المغربية. ولأسباب إستراتيجية تحولت إلى مجرد مراقب خارجي، لِما يدور في هذه الأمة من أحداث وخوارق وقوالب. وحتى لا أطيل عليكم بالكلام الحكائي، أعدكم بأني سأخبركم عن نفسي، ومن أكون بالتدقيق، وبكل هذه الأسرار، عند نهاية هذه الألفية القصصية.

البداية:

لقد كان الجو صحوا، وكانت الشمس عند موعدها الإشراقي فاتنة في البداية، ومزعجة بحرارتها القاسية فيما بعد. وقدم الحلاق، ودعنا نخترع له إسما مناسبا، ونسميه هكذا عبد الحالم. بالفعل، لقد كان صاحبنا من أشد خلق الله حلما. لقد كان كثيرا ما يخلط بين أحلامه ورؤاه والكوابيس. وهذا العطب الفني، راجع في الواقع، لأسباب تقنية نفسانية، فقهية أو بسيكولوجية فرويدية إن أحببت. فأنت إذا نظرت إليه من الجانب الفقهي، فصاحبنا يمكن أن يُعَد، من أكبر قراء الدفاتر الفقهية وما جاورها. أما إذا نظرت إليه من الناحية الفرويدية التحليلية، فإنه يمكن أن يصنف، من بين المكبوتين المستضعفين، غير القادرين على ممارسة أفعالهم المجنونة.

و قدم الحلاق مع مقدمة الظهيرة، وقد كانت الشمس قد طلعت منذ زمان. قدم وقد تجمعت بباب صالون حلاقته بضعة زبائن حائرة وقلقة، لسبب تأخر ه عن موعد الحلاقة. وقبلت الزبائن بجبرية هذا الزمن الجائر. وقبلت بكل الظروف اللاّزمنية وفضلت تنتظر. ومن الجهة المقابلة لجمهور ذوي الرؤوس المشعككة، قدم الحلاق يرفل في ثقل إنسانه المغربي كما في زمنه الفقهي، وهو كله ثقة بأنه قد صار في نفسه وشخصه، عبقرية للأدبيات القصصية المغربية المستقبلية. لقد كان جمهور ذوي القجج، يفكرون في قُجّاتِهِم، وكان الحلاق من جهته، يفكر في مجموعته القصصية، التي أصبح همه الوحيد نشرها.

و أخيرا وصل الحلاق، وتقدم نحو بوابة صالون الحلاقة وشقشق مفاتيحه، وأدار في اللولب المفتاح الصحيح، ودفع بالباب، واتجه داخلا، ولكنه لم يعتذر. لم يعتذر، لا لقلة أدب فيه، وإنما لأن زمنه المغربي، مثله مثل الزمن المغربي، من مميزاته أنه، يختلف عن كل الأزمنة الوظيفية لدى الأمم الأخرى. وتنهد الحلاق قائلا:

 قصاص كبير ولا أحد يعرفه!

  نَقّص لي من الوسط..

أجابه الطفل المشعكك، الذي كان جالسا على الكرسي الرومي. وكتمها الحلاق في نفسه. وطَرّم رأسه ورؤوس أخرى من بعده، وتنبه فجأة إلى الرأس القرعاء التي تربعت على كرسي الحلاقة. وتنبه لمخلوق لا يشبه الآخرين في شيء:

 واش يريد الخاطر؟

 شِعْرُ مُقَفّى

 بيلوكا؟

 الغزل الإباحي يا رفيق يا رفيق القِصَص!

 نعم أنا كاتب قصصي كيف أدركت ذلك؟

 وهل يخفى القمر؟

 عمر بن أبي ربيعة، قال الحلاق، واستدار مبحلقا في هذا الزبون الغريب.

و أجاب الزبون:

 قاص وشاعر!

و صعدت في جسد الحلاق نخوة عربية، شبه جاهلية، ولم يتمالك أحاسيسه الخفية واندفع قائلا:

 القصّة، نعم عندي هنا مجموعة قصصية، وكل أملي ألحلاقي أن أنشرها.

و تأخر الزبون الغريب عن الإجابة مباشرة وهو غارق في حساباته الممتلكاتية، شأنه شأن مجمل الأدباء المغاربة، المعترف بهم رسميا، داخل هذا الإسطبل المهجن، الذي يدعونه عندهم " باتحاد كتاب المغرب.

 أعطيني قصصك لأنشرها!

و انتفض الحلاق كمن يعود من جزيرة الوقواق قائلا:

 تعني نشر قصصي!

 بل تقديم عبقرية الحلاق القصاص للجمهور الأمي، كيما يصبح عضوا جديدا في اتحادنا.

و في هذه اللحظة الرهيبة من تفرعن الذات، تنازل الحلاق عن الدنيا وما فيها، وراح مقبلا لرأس الزبون قائلا:

 أنت ملاك.. والله العظيم ملاك مرسل!

و استغلّ الشاعر الموقف مقدما نفسه:

 نعم أنا الشاعر الذي سمعت به في الإذاعة، وأنا من كان يربط حصان المغفور له، الكاتب شكري، وكذلك أنا الذي يكتب في كل الجرائد المغربية. بل حتى "الروبيو" الأمي، إذا كنت قد سمعت به، فأنا الذي منحه عضوية اتحاد كتاب المغاربة.

  و كبف ذلك..؟

قال الحلاق الغارق في أمية الأزمنة العربية الحديثة، وهو كله حلم وغباوة وسذاجة ملكية.

 أنت هو الكاتب العبقري الكبير؟

 مهلا. مهلا.. أنا.. أنا من...

و قاطعه الحلاق وقد تصاعدت حُبابات الشوق الشقي في روحه البئيسة:

 أنت من نظر الأمي إلى أدبه؟

و لم يتمالك الشاعر الكاتب الأديب القدير، السميع، العليم نفسه، وأجاب قائلا:

 أنا من هو ومن هو أنا..!

و احتضنه الحلاق بالرغم عنه، ولم يدعه يكمل روح جملته، وراح به مقبلا إياه قائلا له:

 تزوجني!

و انتبه الشاعر الاقتصادي، لما قالته عفاريت الحلاق الحالمة بالشهرة، والشقرة، وعوالم البال.

 عند للاّ مرسيدس، قال له، آخذا له بالأحضان.

و حين حاول الحلاق المنغرم بالأشياء الشبه جنسية أن..، كان الشاعر قد اختفى.

و سقط الظلام، وانتشرت العوام، من فقير، وغني، وسكير، وقاتل، وغاصب لبنات المحاجر ومظلوم. وخرج الحلاق من دكانته، من بعد ما ودع آخر رأس مغربية شديدة الشعكوكة، ووضع الأقفال على بوابة دكانته، وخرج هكذا، هائما في مكبوثاته الكتابية، كآخر من اسْتُنْكِرَ له، من كبار كتاب هذا البلد، وإذا بالشاعر:

- القصاص! قال الشاعر.

و انتبه الحلاق المغفل:

 الشاعر!

 تعال معي يا حبيبي، اليوم سترى ما لم تره عينك الجبلية، وأقصد، اليوم أمرا هاما، وغدا خمرا مذلة. أجاب هذا الأخير.

و تداخل المساء المسيحي في رونق حبابات خمرته العتيقة، وجاء في مقابله الحلاق، بأشهره القمرية وبهلال إسلامه القرآني، وتقاطعت الطرقات وتعددت المخلوقات والأوادم، لما لهذا البلد المخضرم من معاني. وأخيرا تواجدا، بل تواجد الأول في البار، أي الخمارة، وقدم من بعده الثاني.

و رن الهاتف، أي الحامل السماع، أي بمفهومنا نحن، " الحامل/البورتابل" حوالي الساعة الرابعة بعد الظهر. وكان الحلاق على موعد مع صلواته المسائية. وكان السجاد أمامه قد سجد كجسد شقراء غربية على رمال ظمأى. وكانت الأشياء والظلال والأحلام والفراديس، حين..! حين رن الهاتف الوثني، وقدم من الجهة المجهولة صوت الشاعر قائلا:

 بار للاّ مرسيدس بقرب "أوطيل" شالّة.

و قفز الحلاق قافزا، خارجا من عوالمه الصلواتية، وخرج من بيته هاربا في اتجاه العبقرية. ولم يُصَلِّ صلاة فتحه، لا في "بني مكادة" ولا في"مرشان". وقدم مهرولا، والعرق الأدبي يتصبب عليه، صورا لأبطال ملاحم طروادة. قدم، وعبس وتولى، وراح وعاد، وأخيرا عثر على عنوان بلوة الدعوى. ودخل إلى خمارة العجوز الشقراء، وتفتقت الأنوار، والأضواء والأنواء، وسقت الفُجاءَة، ودخل الحلاق إلى عوالم معجزات الغرب الشبقية. وخرج من نهار "طنجاوي" قاس، ودخل إلى عالم المثل، حيث الإشراق الزجاجي في قلب المغارة، وحيث تسود الموسيقى الأمريكية التجارية، وشقراء عجوز على "كونتوار" الإشارة، وامرأة واحدة في الركنة، والباقي رجال.

دخل، وما كاد أن وجد نفسه في حضن الشاعر، وسط حلقة من الرجال المنتظرين. وفتح عينيه، وبحصص في الرجال الأربعة المنتصبين أمامه، والشاعر عن يمينه، يقدمهم باهتمام:

 مراد البوليسي، وهو مثله مثل "رؤبة" كاتب زجل. عدنان الطاسي وهو أستاذ رياضيات وكاتب رواية. حميدو بوقجة صاحب دكان ومن رواة لذاكرة محمد شكري. وأخيرا عز العرب من هواة أم كلثوم والشعر الغزلي. وهكذا وجد الحلاق نفسه في عالم من الأدب الرفيع. وللحين رفع الملائكة المزورين كؤوسهم في صحة الحلاق الأديب. ودعي رسميا إلى اختيار مشروبه المفضل. وحين أجابهم:

  الحليب

قامت قيامة الضحك الفجائي والاستهزاء ضمنا بهذا المخلوق الديني وكادت فضيحة السياق تنجلي لولا أن تدارك الشاعر الموقف مرقعا:

 امنحيه سيدتي اجمل ما لديك من البوردو الرفيع

و تحركت الناقة السويدية الشقراء ماشية في جسد عجوز من خلف الكونتوار وعادت كما قال الشاعر.. وكأن مشيتها من بيت جارتها... مر السحابة لا ريث ولا عجل.

و خجل الحلاق من المخلوقة وأجابها بنعم وتناول بكلتا يديه كأس المعاصي لأول مرة في حياته وتجرع مما تيسر تجرعه من نبيذها كطفل فرح بلعبة جديدة وسقط روحا وريحانا على مائدة الغرام. والشاعر من الجهة المقابلة يداعب الآخرين بعيونه والسؤال له:

 أنشدنا من شعر مجنون ليلى...

و انتبه الحلاق الكاتب القصصي وأدرك بأنه قد خص بالكلام، وراح مستجيبا وفي لسانه غصبا عنه، لعثمة وفرحا بإنسانه الهمام:

 عشقت... ه ااا و..

و غمرته، وهو ما زال متعثرا آهات الرفاق.

 آه! آح!

و تخربط الحلاق واندفع كفرس هائجة في حلبة شعر الغرام قائلا:

 وإن قُلْتُ ما بي مِنَ الحُبّ قاتلي..!

و بعث الرفاق من ناحيتهم، آهاتهم الغرامية! وتابع الحلاق مقطوعاته الغرامية والرفاق يموتون ويحيون ويتعذبون احتقارا ومقتا للحلاق، والليل سار والزجاجات تتعاقب إحداها تلو الأخرى والرفاق يتسللون بخفة سرية، خارجين إلى موضع ضرب موعده سرا في مكان آخر، لغاية ما اختفوا وبقي الحلاق والشاعر وجها لوجه.

 غدا سأكلم أخي الذي يدير دارا للنشر لطبع قصصك.

و طار الحلاق عليه، وراح يقبله وهذا الأخير يصيح بالعجوز الشقراء:

 هات الحساب كله علي!

و انتبه الحلاق، الذي حال كونه على وشك أن يصبح عبقرية جديدة، من ضمن اتحاد كتاب هذا البلد:

 لا والله أنا من يدفع ثمن السهرة.

و حين تخانقا وأقسم كل منهما بالدفع، كاد الحلاق أن يخرج من المعركة الخاسرة، لولا أن الشاعر تدارك نفسه بلباقة في اللحظة الأخيرة قائلا:

 بارك الله فيك يا أيها الكاتب، ادفع ولكن في هذه لمرة فقط، وسقط رداء المسرحية.

و افترق كلاهما وعاد الحلاق من جهته في اتجاه بيته وهو كله مفاجأة بأنه قد صار كاتب قصة وعاد الشاعر من جهته في اتجاه "بار سيدي لولو" للاجتماع برفاقه. وحين اجتمع بهم أخيرا وهو يهتف بسبب ظمأه قائلا لهم:

 أنقذوا أخاكم..! سربيسا.. هينيكن يا صاح..

وسقط الظلام وصدى اتحاد كتاب المغرب يردد.. سربيسا يا صاح.. سربيسا!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى