الاثنين ٢٩ حزيران (يونيو) ٢٠٠٩
الملحمة المغربية -1-

التغريبة الربيعية

بقلم: ربيع شعار

فلا حد يباعدنا...
لم أكن أتوقع وأنا أغادر بروكسيل مع صديقي المغربي - كريم - في رحلتي المغربية أن أرى كل هذا الجمال والأصالة، وأن أشعر بكل هذا الفرح والمتعة والنشوة وأنا في أحضان بلد عربي غنيّ إلى حد الثراء بعروبته وتراثه وطبيعته. كانت السيارة تقطع بنا الطريق الطويل في الأراضي البلجيكية، باتجاه (دوقية لوكسمبورغ) التي تجاوزنا أراضيها بدقائق معدودات، بعد أن ملأنا خزان السيارة بالوقود الأرخص سعرا في أوروبا، وذلك لإعفائه من الضرائب في هذه الدويلة الصغيرة، لندخل في الأراضي الفرنسية مع حلول الظلام. وتابعنا عابرين لمدينة (ميتز) ثم (نانسي) و(ليون) مفتقدين في الطريق، أنوار الإضاءة التي تنير أتوسترادات بلجيكا كدولة وحيدة في العالم، تنير طرقاتها الطويلة لتكون النقطة المتوهجة التي تظهر في الكرة الأرضية، للناظرين إليها من على سطح... القمر!!! وتركنا (مرسيليا الى شمالنا) بعد استراحات قصيرة، توقفنا فيها، نلنا خلالها ساعتين من النوم ودخلنا إلى (مونبلييه) متجهين الى مرفأ سفن الركاب (سِت) الصغير التابع لمدينة حلوة تنام وتصحووهي تحتضن البحر. وكانت المفاجأة بالجالية العربية التي تكتظ بها هذه المدينة لتتحول بملامحها الناعمة ومعالمها الأوروبية الى لوحة جميلة رسمها فنان راق. أما أجمل ما في هذه الرحلة، فهومرورنا بحدود ثلاث دول، وتجاوزناها دونما أن يوقفنا أحد ليسألنا عن بطاقة شخصية أوجواز سفر

السندباد الإدلبي

لا أدري لماذا تذكرت وأنا أصعد الى الباخرة الكبيرة التي ستنقلنا من أوروبا إلى أرض المغرب - بعد مروري على الأمن الفرنسي بجواز سفري البلجيكي مرور الكرام - مغامرات السندباد البحري وقصصه المليئة بالغرابة والسحر، وخطرت على بالي الخواطر وأنا أرى امتداد البحر الأبيض المتوسط وجالت بي الأفكار حتى وصلت الى اللاّذقية على الطرف الآخر، وتذكرت الأغنية التي تقول: أمانة عليك يا مركب... وصّلني لبلاد المغرب... وقلت لنفسي: ومن ثم إن شاء الله إلى.... إدلب. وعند إقلاع الباخرة ودخولها في لجّة البحر، ذهبت أسلّي نفسي في ملهى الباخرة وطلبت من المطرب الذي كان يغني أن يغني لي: " من يركب البحر لا يخشى من الغرق " وذلك للتخفيف من خوفي الشديد من الغرق. وعندما أطللت من النافذة كان البرّ قد غادرنا الى الأبد ولكي أتحدى الهواجس خرجت الى سطح الباخرة وأخذت التقط الصور لعتمة البحر الهادئ الذي تشق سفينتنا عبابه مخلفة خلفها أمواج صغيرة بيضاء. ذهبت للعشاء ومن ثم الى النوم بعد تعب الرحلة البرية، كنت أتقاسم مع صديقي كريم كبينة ذات فراشين وحمام خاص ومثلها يعطى لمن يدفع ثمن الرفاهية. وتحديت خوفي من الغرق وغرقت في نوم عميق.

علي يغني في إسبانيا
صحوت مبكرا جدأ وفورا الى مقهى الباخرة لأشرب عدة فناجين من القهوة محاولا بذلك أن أتخلص من دوار البحر الذي تملكني وجعلني أمشي كالسكران في أروقة الباخرة وسوقها الحرة. وبعد تناولي للفطور خرجت الى سطح السفينة، لأتفرج على البحر الذي ظهر ثائرا مكفهرا في هذا اليوم. قرأت العديد مما أحفظ من السور القرآنية وأخذت أبتهل إلى ربي بأن يوصلنا على خير، وعند الظهيرة بدا لي البرّ فهتفت صارخا: وصلنا!! وأجابتني ضحكات خافتة من أصدقاء الرحلة ومن ثم تبرع أحدهم بالتفسير: إنها أسبانيا وهذه المدينة هي مدينة " ألي كانتي "، وألي كانتي ترجمتها الى العربية " علي يغني " وأصلها بأن العرب الفاتحين كان لهم مؤذنا اسمه عليّ وعندما كان يؤذن لهم للصلاة كان السكان الأصليين يقولون بأن عليّا يغني، وبقي العرب في أسبانيا ثمانمائة عام وخرجوا منذ خمسمائة
عام ومازال عليّ يغني.
قضيت يوما متعبا وأنا أتنقل من المطعم الى المقهى وإلى الملهى لأسمع الموسيقى وأقطع الوقت واشتدت ثورة البحر وعندما أقبل الليل أحسست بالفرج القريب إن استطعت أن أنام هذه الليلة، وبمساعدة من دوار البحر.. غرقت في نوم عميق.

على شطّ بحر الهوى رسيت مراكبنا

استيقظت في الصباح الباكر، على حركة نشطة في الباخرة، كنا على وشك الوصول... ألقيت بنظرة من النافذة ورأيت البر القريب وهتفت... شكرا يا رب، أخذت حماما طويلا وخرجت إلى سطح الباخرة لأتفرج على السفينة وهي ترسوعلى شواطئ مرفأ مدينة " الناضور " المغربية - وهي مدينة في ريف المغرب وسكانها من الأمازيغ المغاربة وتقع على البحر الأبيض المتوسط، وهي إلى جانب مدينة الحسيمة تعد المراكز البشرية الرئيسية للأمازيغ المغاربة وهي أيضا منفذا رئيسيا لتهريب " الحشيش " المغربي الذي يزرع بكثافة في هذه المنطقة ولتهريب البشر" الحراقة ": وهوالإسم الذي يطلق على الهاربين عبر البحر إلى شواطئ أوروبا تأسيا بطارق ابن زياد الذي حرق مراكبه وهوعلى شواطئ الأندلس على مبدأ:" يا قاتل يا مقتول إلى أوروبا " أتممت إجراءات الدخول بسرعة وذلك بفضل عشرة "يوروات" دفعها صديقي لأحد السماسرة الذين ينشطون على الحدود كمبعوثين غير رسميين للموظفين الرسميين على الحدود. كانت هناك عقبة صغيرة بالنسبة لي إذ أنهم طلبوا مني بطاقتي الوطنية لظنهم بأنني من أصول مغربية، وعندما عرفوا بأنني من أصل سوري، فرحوا بي ورحبوا قائلين: ادخلها آمنا... خرجنا بسيارتنا من الحدود قاصدين قرية صديقي كريم " مداغ " القريبة لمدينة بركان في شرق المغرب عابرين لبساتين الزيتون... وتنفست بعمق أول رشقة هواء عربية منذ تسع سنوات، ونظرت لشجر الزيتون وأحسست بأنني على مشارف "إدلب".
يتبع في حلقة قادمة

*******

الملحمة المغربية -2-
كاتك يا مولانا..!

وتركنا مدينة (مليلية) المغربية المحتلة من قبَل إسبانيا، وهي إلى جانب(سبتة) تعتبر من المراكز التجارية الهامة، حيث هي المدخل الشبه رئيسي للسلع الأوروبية المهربة إلى المغرب، وحيث يتعيش منها الكثيرون تهريبا وتوزيعا. تركناها على يميننا واتجهنا إلى قرية (مداغ) وهي قرية صديق رحلتي كريم. وهي قريبة من مدينة - بركان - الصغيرة الواقعة على الحدود الجزائرية. وعلى مشارف القرية الصغيرة، اقترح عليّ صديقي أن نعرّج على مكان ما هناك لنأخذ البركة، وتوقفت بنا السيارة أمام مبنى قديم لاحقته ترميمات حديثة وكانت هناك لوحة إرشادية تدل على هوية المكان مكتوب عليها: الزاوية "القادرية البودشيشية". وهي إحدى أماكن تجمع الصوفيين في تلك المنطقة، وهي أماكن مقدسة حائزة على احترام السكان وأجهزة الدولة على أعلى مستوياتها، وفيها يتجمع المريدون ليتعبدوا ويتزهدوا ويخدموا الضريح المبارك، المتاح للجماهير لزيارته والتبرك به، وزيارة المقبرة الصغيرة التي يحرص أهل القرى المجاورة على دفن موتاهم فيها، وذلك لقربها من قبر الولي الصالح. قرأنا الفاتحة على الضريح والمقبرة المجاورة والتقطت صورا للمكان وما يحيط به، وانطلقنا بعد أخذ البركة لندخل قرية "مداغ" محطّ رحالنا ومركز رحلتنا.

وابتدأ المشوار...

في "مداغ" كان استقبالا حافلا ينتظرنا من أسرة صديقي ومضيفي كريم، تعرفت هناك على نسيبه، الأستاذ حسن، وهومعلم مخضرم وصاحب ثقافة واسعة. وقد كان خير دليل لي في بداية رحلتي، وتعرفت أيضا على أبناء إخوة كريم الذين قادوني إلى إحدى مقاهي الإنترنيت التي تعج بها قرية مداغ الصغيرة، حيث كتبت لكم في الموقع عن وصولي، وقد أثار عجبي بتلك القرية الصغيرة تعدد المقاهي وكثرة روادها، حيث لا وجود لهذه الظواهر من حب الحياة في بلادنا السورية، وخاصة منطقة الشمال. وأعجبني أيضا انتشار الأبنية الحديثة في تلك القرية الصغيرة التي تفتقر إلى الكثير من المرافق العامة والبنية التحتية من طرقات معبدة وصرف صحي، وتلك الأبنية هي ثمرة عمل أبناء القرية المهاجرين بوفرة إلى الديار الأوروبية الذين يعمرون قريتهم، رغم انعدام المساندة من الحكومة، وفي مداغ أيضا حمّامين عامين، رغم وجود الحمّام في البيوت الحديثة. ولكن لحمّام السوق نكهة أخرى في المغرب. عدنا إلى البيت لنتناول الغذاء الذي أعد لنا، وهوعبارة عن أكلة مغربية شهيرة ولذيذة وهي" سوكسو" ويدعونه هناك " الطعام "، ويصنع من السميد الخشن وبعض النباتات واللحم الذي لا تخلوا أكلة مغربية منه رغم ارتفاع أسعاره، وبعد شربنا الشاي الأخضر بالشيبة والنعناع " الأتاي " انطلقنا إلى مدينة " بركان " ومنها بدأت حكاية السحر والمتعة.

أنا سوري.. آه يا نيّالي..!

في الطريق الى مدينة بركان الصغيرة الوادعة، التي تقع في شرقي المغرب وعلى الحدود مع الجزائر، شرح لي الأستاذ حسن قصة بعض الآثار التي رأيتها على الطريق الزراعي. وحكى لي عن"المعمرين " وهم المستثمرين الأوروبيين الذين توافدوا على المغرب مع الاستعمار، ليصبحوا الأسياد الجدد لتلك الأرض. وليكوّنوا إقطاعا جديدا، ملكوا فيه الأراضي الزراعية الخصبة الشاسعة، واستغلوا الفلاحين المغاربة أصحاب الأرض الحقيقيين، لتحقيق أرباح ضخمة حرمهم منها التأميم الذي قام به الملك الراحل الحسن الثاني في أوائل السبعينيات من القرن الماضي، ليرحلوا عن تلك الأرض لتستولي عليها شركات مغربية تستثمرها في زراعات متنوعة. وحكى لي عن باعة الوقود الرخيص المهرّب من الجزائر، حيث يباع في المغرب بأسعار تقل كثيرا عن أسعارها الرسمية المرتفعة. ووصلنا لمدينة بركان ذات الأبنية الجميلة والموحدة اللون الزهري، تجولنا سريعا في أحيائها المتواضعة والنظيفة وتوقفنا في أحد أهم أسواقها الشعبية " سوق إسبانيا " الذي كان يضج بالحياة رغم غلاء أسعاره ورغم كوننا نزوره في يوم العطلة الرسمية في المغرب وهويوم الأحد. جلسنا في إحدى المقاهي الكبيرة في مركز المدينة، حيث تتعدد المقاهي أيضا كظاهرة مغربية فريدة. كان المطر يتساقط رذاذا خفيفا وكان الشارع الرئيسي يضج بالحياة، وكان الجميع يفرح بي عندما يعرفون بأنني سوريّا في "بركان". فكانت تتكرر عبارات الترحيب مترافقة مع عبارات الثناء على سوريا شعبا وقيادة، بالرغم من أن الشعب العربي في المغرب يشتهر بأنه لا يعرف المجاملات ولا يتقن تدبيج الكلام المنمّق. ولي عودة لهذا التقدير هذا الحب الكبير الذي يكنه لنا كسوريين أبناء المغرب وبناته وعلى الصعيدين الشعبي والرسمي لتشعر بأنك متميز فقط لأنك من سوريا..!

السعيدية: وبداية الحلم الجميل
غادرنا مدينة بركان الصغيرة ونحن على أكثر من وعد، للعودة إليها في يوم آخر، وأخذنا الطريق الى مدينة الأحلام الجديدة " السعيدية " وهي غير بعيدة عن "بركان" وطريقها محاذيا تماما للحدود الجزائرية. وكنت أقرأ بوضوح عبارات كتبت على صخور الجبل المحاذي للطريق، تحيّي الجزائر وتمجد الانتماء لها. وكان الطريق الممتد عبر طبيعة خلابة يحاذي طريقا جزائريا تشقه سيارات تحمل لوحات جزائرية، وكلا الطريقين محرمين على الآخرين. وصلنا إلى السعيدية مع غروب الشمس ليبدوا لنا شاطئ البحر بلونه الأزرق الصافي، والمشوب بحمرة الشمس الخجولة، التي كانت تغرق بقايا أشعتها بصمت وهدوء. وفي جولة سريعة قرأت الشاطئ الرائع للمدينة البحرية الصغيرة ورأيت البناء الحديث الذي تنشق عنه الأرض ليزرع حفاف البحر بالأناقة والحسن، وتمتعت برؤية الفلل الجميلة والتي تبنيها شركات أسبانية هناك، مستغلة رؤوس الأموال الكبيرة، التي اختارت هذا الشاطئ الخلاب لكي تعمره بالحياة والروعة. ووصلنا إلى القرية الصغيرة التابعة " للسعيدية" "كاب دي لوذ" ويعني بالعربية رأس الماء. وقد امتد فيها البناء الحديث والأنيق لتلاصق السعيدية. عدنا إلى المدينة الساحرة والتي تبنيها سواعد المغاربة وأموالهم رغم عدم المساندة من الدولة حيث يقتصر اهتمام الحكومة على توفير الماء والكهرباء، حيث ورغم كل شيء: لا يوجد أثر للبدعة السورية المتمثلة بتقنين الماء والكهرباء حيث لم يصل إبداعنا في هذا المجال الى الحكومة المغربية بعد. وشق بعض الطرق الرئيسية المحاذية للشاطئ والتي تقع عليها الفنادق والمقاهي الفخمة والضخمة والتي تبدوا خالية تماما من الزبائن في مثل هذا الوقت من العام لتبدوا السعيدية في الليل كمدينة أشباح تتحول في الصيف ليلا ونهارا الى خلية نحل تعج بالمصطافين وطالبي الفرح والاستجمام. ذهبنا للعشاء في أحد المطاعم وبعدها الى المنزل الأنيق الذي يمتلكه مضيفي كريم في السعيدية والمجهز بكل وسائل الراحة، حيث يتم تأجيره في موسم الصيف بخمسين " يورو" بالليلة مثله مثل غيره هناك. وقمنا بتوديع الأستاذ حسن الذي غادرنا عائدا الى مداغ، وبعد استراحة قصيرة تخللها حمّام ساخن وتبديل للثياب تمهيدا للغزو، شددنا الرحال الى مقهى الشيشة " البيراميد" وتعني الأهرام: حيث تتجمع الحسان، لنفتح صفحة جديدة في دفتر الرحلة الأسطورة.

في المقهى

عندما دخلنا الى المقهى الكبير القابع على حافة البحر، لم تصدق عيناي ما رأتاه للوهلة الأولى، عالم عجيب من الحسن والجمال الأنثويين لا يوجد مثله في بلاد البلجيك رغم كل انفتاحها. لم يكن هناك من الحسناوات من هي فوق سن العشرين، أحسست لوهلة بأنني في مدرسة إعدادية للبنات، وأصابني ما يصيب الكهل الأربعيني عندما يشعر بقرب الفرج من خفقان بالقلب وارتعاش بالمفاصل واصطكاك بالركب، ولكن الأنس الذي أشعرني به الحاضرون بعد علمهم بأنني صحافيّ سوري أتيت لزيارة المغرب أذهب عني الوحشة حيث بدأ المطرب بالترحيب بي والثناء على سوريا وتحيتها وبعد مئة يوروقدمتها إليه لم تبق عين "الاّ ورنت" إلي وأخذت عيناي تجوسان بين الحاضرين وأخذت الفتيات وبعض الشباب في تحيتي وتحية بلدي عبر دفع المال للمغني وعادت إلي نفسي واستعدت ألقي وثقتي. بعدها خرجت مع صديقي كريم لننتقل إلى جوآخر من أجواء السعيدية حيث ذهبنا الى ملهى يسمّى " كاراكاس " وهناك عادت إلي روحي حيث تشابه الأجواء مع أجواء بروكسل المماثلة مع اختلاف النوعية الحاضرة من حيث الكمّ والكيف، وبعد سهرة تاريخية هناك عدنا الى المنزل محملّين في سيارتنا وسيارتي أجرة رافقتنا لنقل الحمولة الزائدة والتي رافقتنا من "البيراميد وكاراكاس " وبعد حرب ضروس وجهود مضنية وعلى الساعة التاسعة من صباح اليوم التالي... غرقت في نوم لذيذ.

ما أنا فاعل لثماني عشرٍ؟؟؟؟ شهد الله أنه تعذيبُ...

يتبع في حلقة قادمة...

الملحمة المغربية -3-

ما أنا فاعل لثماني عشرٍ؟ شهد الله أنه تعذيبُ!

وفي مساء اليوم التالي وبعد حمّام ساخن و(إفطار) أسخن، الذي تكوّن من صحن من الأكلة المغربية اللذيذة - البيصارة - وهي تشبه إلى حدّ بعيد (الفول المدمّس) عندنا. فهذه الأخيرة، تتألف من الفول المسلوق والمطحون مع الحامض والملح والكمون والحار وزيت الزيتون. وهي تشدّ الظهر وتخفّض الضغط وتملأ البطن. ذهبت إلى مقهى (هنّور)، القريبة من شاطئ البحر في (السعيدية) السعيدة، لكي أشرب قهوتي مستمتعا بالبحلقة في الوجوه الجميلة التي تملأ المقهى مساءات أغلب الأيام، بناء على نصائح تلقيتها من صديقة رائعة تعرفنا عليها في أول أيامنا في السعيدية واسمها فاطمة الزهراء وتدعى بفاطمة – السحّارة. نعم تدعى كذلك لطيبتها وفتنتها وابتسامتها الحلوة التي تتعامل بها مع الجميع. فهي إن كان في المقهى الصغير الذي تعمل فيه، أوفي كل مكان تذهب إليه في السعيدية. وبالفعل فوجئت بعد دخولي للمقهى الجميل، والذي يقدم الشيشة أيضا إلى جانب المشروبات (الحلال) والعصائر و(البلياردو)، بأن الجميع قد عرف بأن ضيفا سوريا من بلجيكا قد حلّ على السعيدية، إذ بادرني الجميع بالتحية والترحيب، بدأ بالنادلات اللطيفات وانتهاء بأغلب الزبائن. حصل هذا ولم أكد أجلس على طاولتي، حتى سمعت صوتا ملائكيّا يقول لي:

 شرفتنا أستاذ ربيع... أنا شُفتك بالتلفزة المغربية... وصوتك حلوبالزّااف..!

والتفت جهة الصوت وإذا بي أرى أجمل وجه يمكن أن تقع العينان عليه، كانت فتاة صغيرة جدّا وأنيقة جدّا وجميلة جدا.. جدا... سلّمت عليها ودعوتها للجلوس معي فاستأذنت لتجلب (أركيلتها) من طاولتها الأولى وأتت لتجلس معي مبادرة إياي بصوتها العذب - وأنا الذي لم أفق بعد من الصدمة الأولى -: تعرف تهدر مزيان وصوتك حلوكمان؟؟ ولكي تخفف عني شيئا من هول المفاجأة، قالت:

 كنت مساء أمس (بالبيراميد) وسمعت أغنيتك الرائعة (مريم مريمتي) وهي من أجمل الأغاني السورية التي تثير نشوتنا نحن المغاربة، وقد أعجبت كثيرا بك، وأحسست بأني أعرفك ومنذ زمن، حتى تذكرت بأني قد رأيتك على قناة أطلس، والتي أعادت البرنامج الذي أجرته عنكم أكثر من أسبوع كامل. كانت تتكلم ببراءة آسرة وأدب جمّ، جعلاني أشعر وكأني في حلم. وأخذ الكرسي يطير بي في عالم من السحر والعطر و... الأمل، وناجيت ربي:

 أي ربّ... هل ستكتمل الحكاية!؟

ورحبت بها مبديا إعجابي الكبير بذكائها وقوة ذاكرتها، وبعد دعوتها لشرب شيء، تطور الأمر إلى إبدائي بالإعجاب بحسنها وجمالها وأناقتها... ثم إعجابي برائحة عطرها الساحر الأخّاذ. وكانت تتقبل ذلك مني بكل رحابة صدر، ترافقه ضحكة خجل أوابتسامة حياء. وكانت تضع على رأسها قبعة سوداء تتوسطها وردة لونها أحمر. واستأذنت الفتاة بعد وقت لم أشعر به بالذهاب، وقمت أسلّم عليها وأشكر لها ذوقها الرفيع ورقتّها البديعة. ورحلت (سناء) وأخذت معها جزءا من القلب وأجزاء من... العقل! وقمت مباشرة أقصد صديقتي الرائعة (فاطمة السحّارة) لأحكي لها عمّا أصابني في فترة غيابي عنها، طالبا منها أن تتدخل بسحرها لتستضيف تلك الفتاة في سهرتنا لهذه الليلة. ولكنها لم تعرف فتاة باسم سناء، وبالرغم من كل الاتصالات العاجلة التي أجرتها مع العديد من صديقاتها. وبدأ – ما بقي من قلبي – بالغليان، ولم أستطع تناسي ذلك الوجه الجميل الذي أفقدني طمأنينتي وسلب لبّي. ومع تقدم الليل وتوافد بقية الأصدقاء بدأ تحركنا نحومكان جديد لسهرة الليلة، وهو(ملهى الأمازون)، حيث هناك مطعما وملهى بغاية الفخامة، ويقع على حافة البحر الهادئ الجميل.

وفي الأمازون، لم أكن على ما يرام، رغم كل الأطايب التي أكلتها، ورغم الكم الهائل من الحسن والجمال الذين يعبقان في المكان، وكان ذهني دائما مع - مولاة الوردة - حتى كدت أن أفسد على الرفاق سهرتهم، ولكن العزيزة (السحّارة) والتي كانت تشعر بوحشتي وتشتّتي، غادرت طاولتنا لتدخل في زحمة الراقصين وتغيب عن عيوني للحظات ثم تظهر، وهي تضع يدها في يد (مولاة الوردة!!!!) وقفزت واقفا وقلبي يرقص كعصفور أصابه البلل، لكي أرحّب بالضيف الجميل. وجلست الأمورة الصغيرة، سناء، إلى جانبي وهي تضحك بعد أن بادرتها، السحّارة، بالقول:

 لقد صدعّنا ربيع (بمولاة الوردة)... ها قد أتيت لك بها... كانت تعتمر نفس القبعة السوداء التي تزينها وردة حمراء... وقضت - السنّوءة الصغيرة - السهرة معنا لتبدأ قصة حبّ في السعيدية....وتبدأ معها مرحلة الاستعمار الجديد..سناء والتي، في العشرين من أبريل القادم، ستبلغ الثماني عشر من عمرها... وإن لم آتي إلى (إدلب) سأكون عندها هناك لأحتفل معها بعيد ميلادها...!!!!

إلى وجدة وفزوان وبني درار

وأصبح لديّ دليل سياحيّ رائع الجمال والثقافة، أرغمني بلطفه وأدبه وحسنه على أن أتخلّى عن صحبتي لأفرغ له وحده. ومن السعيدية استقليت مع سناء الحلوة، في اليوم التالي سيارة أجرة، أقلتنا إلى مدينة وجدة، عروس الشرق المغربي. مررنا بمدينة صغيرة تدعى (بني در) وهي مدينة لحم الضأن في المغرب، لكثرة مراعيها وثرواتها الحيوانية. وتشتهر هذه المدينة بشوائها اللذيذ والمتميز. تناولنا غذاءنا هناك، تبعا لنصيحة الأصدقاء المغاربة، وامتثالا لرغبة أميرتي الصغيرة ومستعمِرتي الجديدة. وتجولت في المدينة الصغيرة التي تخلومن معالم متميزة، ما عدا الشارع الرئيسي الذي يتوسطها، والذي نشأت على جانبيه بعض الأبنية الحديثة والجميلة. وعدنا إلى طريقنا باتجاه (وجدة) التي دخلناها ساعة انصراف التلاميذ من دوامهم الصباحي، والموظفين من أعمالهم. كانت الشوارع الرئيسية مزدحمة، وتوجهنا نحووسط المدينة ومركزها المسمّى (باب سيدي عبد الوهاب) وهوبالفعل بابا أثريا قديما يُفتح على أسواق شعبية كبيرة جدا ومزدحمة، تصطف بها المحلات الصغيرة والتي تبيع كل شيء تقريبا - بدءا بالخضار والفواكه واللحوم والأسماك وانتهاء بالألبسة والأحذية والعطور والأدوات المنزلية، مرورا بكل ما تحتاجه العرائس والمشغولات اليدوية العريقة والبديعة - وكان الزحام كبيرا والحركة جيدة. وخرجت إلى خارج السوق الكبير، لألقي نظرة على جموع الباعة الجوالين وما يعرضونه من بضائع متنوعة على عرباتهم الصغيرة، والتقطت صورا للمكان وما يجاوره، ولفت انتباهي فقر المرافق العامة في مركز المدينة، والتي تعد لا شيء يذكر مع المرافق العامة في مدينة صغيرة مثل (ادلب) في سوريا. لم تكن هناك إلا حديقة صغيرة جدا وبائسة، تتوسط الميدان الكبير المزدحم. وكانت الشوارع أقل من عادية بالنسبة للخدمات أوالتعبيد، ولكنها كانت نظيفة جدا وبشكل ملفت للنظر. غادرنا وسط المدينة وزحام أسواقها وتوجهنا نحوالشوارع الرئيسية في وجدة: حيث الأناقة والنظافة والجمال، الذي يميّز شارعي: محمد الخامس والحسن الثاني، اللذين يضمان أكثر دوائر الدولة تقريبا، البلدية والبريد ومركز الشرطة والولاية والمحكمة... الخ. وعلى جانبي الشارعين الرئيسيين والمتصلين، تقع العديد من الفنادق السياحية الكبيرة والأنيقة والمقاهي الكثيرة أيضا، وفوجئت بوجود كنيسة كبيرة في وسط مدينة وجدة، هي للأجانب الذين يعيشون هناك. وكان في الشارعين أيضا، إشارة ضوئية تقف عندها شرطية رائعة الجمال وفارعة الطول، صورتها فهجم عليّ زميلان لها يسألاني:

 ماذا تصور يا أستاذ؟

فأجبتهما بلهجتي الإدلبية:

* منظر حضاري جميل أسعدني فصورته.

فقال لي أحدهما:

* من أين أنت؟

قلت:

* من سوريا.

فمد يده إلي مصافحا وهويقول:

 صوّر ما شئت... تحية إلى سوريا وأهلها وقيادتها..

وبعد استراحة قصيرة في إحدى المقاهي الكثيرة المنتشرة في كل أرض بالمغرب، توجهنا بالسيارة نحوحي ( لازاري ) وهومن ضواحي وجدة، يمتد لمساحة كبيرة، حتى أن أهل وجدة يدّعون، وفي كل مرة يرد فيها اسم مدينتهم، بأنه أكبر حيّ سكني في أفريقيا كلّها!!! وكان حيا عاديا جدا رغم امتداده. وعدنا في المساء إلى السعيدية وأنا في غاية الحبور والنشوة..

كنت مع أجمل وأصغر وألطف دليل سياحي في العالم.. وافترقنا لتبديل الثياب، ومن ثم التقينا في عشاء بحريّ لذيذ، وسهرة أخرى قضيتها ولأول مرة، مراقبا وتحت السيطرة، من المستعمر الجميل الجديد، سناء، التي أحكمت عليّ حصارها الناعم، حتى أنني لم أجرؤ على مجرد النظر إلى غيرها من الغيد اللواتي كن يملأن المكان الفخم بالفرح والجمال......

فزوان ومياهها المعدنية الساخنة

في اليوم التالي، كنا على موعد مع (فزوان)، القرية الصغيرة والنائية والتي تدين بشهرتها لنبع مياه معدنية، بنت الدولة فوقه سبيل ماء وحمّام. وبنى الأهالي حوله ووسط طبيعة غنّاء العديد من المقاهي والفنادق. والدخول إلى النبع لشرب مياهه التي تدّعي وثيقة مكتوبة ومعلقة على بابه، وهي صادرة عن وزارة الصحة المغربية، بأنها تشفي أمراض الكلي والمعدة، يكلف الزائر درهما واحدا، أي ست ليرات سورية. والاغتسال بها في الحمام التابع للنبع يكلف ستة دراهم. وكان هناك الكثيرين ممن جلبوا معهم آنية البلاستيك لتعبئة المياه، ونقلها لاستخدامها للشرب والتداوي. ولفت انتباهي وجود العديد من المقاهي الصغيرة والتي تبيع (الببّوش)، وهوالحلزون الجبلي المتوفر بكثرة في (فزوان) والذي يؤكل لبّه بعد عملية طهي بسيطة له، مع إضافة بعض البهارات. كان المطر يهطل بغزارة مشكّلا شلالات صغيرة وبديعة على حافة الطريق الجبلي الوعر، وعدنا أدراجنا إلى السعيدية لنهيئ أنفسنا لسهرة جديدة تحت المراقبة هذه المرة..

ودعته وبودّي أن يودعني

ومضت الأيام بي، بين زيارة لمنطقة جديدة ومكان بديع في أرض شرقي المغرب العربية الأصيلة، حيث يحييك الناس هناك بقولهم، تحية من عرب بركان أوالسعيدية أووجدة... إلى عرب سوريا. وأتاني هاتف من بروكسل بأن مشروعا تجاريا لي كنت قدمته للحصول على الدعم المادي من الأجهزة المختصة قبل سفري، قد نال الموافقة، وأنه يتوجب عليّ الحضور للتوقيع على الأوراق في مهلة قصيرة. فقررت العودة إلى بلجيكا مخلفا ورائي قمرا جميلا وذكريات غنية. ذهبت إلى (بركان)، مدينة البرتقال، لكي أحجز على أول طائرة مغادرة إلى بروكسل. وسقطت سناء الصغيرة مغميا عليها عند سماعها الخبر، وأكملها ربنا بالستر بحضور أحدى الممرضات التي اعتنت بها حتى استفاقت، وهي تبكي أياما حلوة قضتها معي. وشعرت بأن الفراق سيكون نهائيا، إن لم يكن طويلا. وفي ليلة السفر التي قضيتها عند أحد أصدقائنا الجدد وأصدقائه، وبعد سهرة تلفزيونية، ذهبت لكي أنام ولولنصف ساعة، وعند نهوضي اكتشفت فقدان الكاميرا التي صورت بها أغلب الرحلة، وحمدت الله لأني أحتفظ بالفيلم الأول والذي يحتوي على أكثر من مائة صورة عن الرحلة. ولم أستطع مع صديقي كريم أن نتكلم عن الأمر كثيرا لاستحيائنا من المضيف ولاستعجالنا الذهاب إلى مطار وجدة، الذي رافقتني سناء في رحلتي إليه لتوديعي. صعدت إلى الطائرة بعد إجراءات شكلية وبسيطة وانطلقت الطائرة تشق عنان السماء لتكتمل الصورة برّاً وبحرا وجوا، لأصل إلى الحبيبة بروكسيل التي اشتقت إليها بعد أول فراق طويل لها، في وقت الظهيرة بعد ثلاث ساعات من الطيران فوق المحيط الهادئ والأراضي الأسبانية والفرنسية... ومباشرة إلى البيت لأنام نوما عميقا أحلم فيه بالعودة إلى أرض المغرب.......فقد تركت جزءا من القلب هنا!

بقلم: ربيع شعار

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى