الاثنين ٢٩ حزيران (يونيو) ٢٠٠٩
الألفية الثالثة لقصص المقاوم: الشريف مولاي اليزيد السني الزروالي
بقلم فؤاد اليزيد السني

الشاعر الاتحادي والمعلم و(ماتيلدا)العجوز

القصة الثالثة

لقد وُلِدَ صاحبنا من عشاق الأدب، أي منذ كان طفلا، في المهد رضيعا. ومرت الأيام وكبر صاحبنا وتعلم، ثم أصبح شابا مكتملا ومع ذلك، بقي كما كان، من مدمني تراث الأدبيات، الصفراء منها والمعاصرة، ونقصد بهذه الأخيرة،الموضة الأنثوية المقصرة لجبتها الحداثية،الأغرامية والشبقية. والتحق صاحبنا بكلية الشريعة، لأنها كانت آنذاك، أرخص " ليصانص" في جامعة " فاس"،الواقعة بدار المهراز، من حيث السنوات المتطلبة، الغير متجاوزة للرقم، ثلاثة سنوات مغربية. والمؤدية من أقرب طريق، للتزوج بأية أنثى، والالتحاق بالوظيفة. إلا أن الرياح المغربية قد جرت فعلا، بما لا تشتهيه مقاديرها، سفن صاحبنا.

فصاحبنا الذي لم يكن يعرف للجمال من صفة أوتشبيه، إلا ما وقع في دلالات محفوظات معلقاته الجاهلية، والتي كان يحفظها عن ظهر قلب. هذا الجمال الذي كان يتصوره في أنثى عفراء، غراء، عجزاء، لا يشتكي قصر منها ولا عرض ولا طول. بالإضافة إلى الأجرومية والألفية المالكية، فقد حصل له ما لم يكن في الحسبان. حصل له، أن وقع في شباك الغرام. وقع في الشراك وكأنه لم يسمع قط بأغنيته المغربية المُغَنِّية: " وا.. شدّاك تمشي لزّين وأنت يا راجل مسكين.. مَسْمَعْتيشي.. واشْ ادّاني.! "

وبفعل قوة إحساسية وجاذبية بشرية لا مفر منها، وقع صاحبنا في حب امرأة لا يعرف عنها شيئا. لقد حدث له أنه كان ذات يوم متربعا في مقهى " العجائز " ومرت للصدفة، من أمامه امرأة في آية الجمال الرباني. وبمحض علة سببية لا معقولة، حصل للمرأة الآية، أن استدارت وجهة المقهى، فوقعت عينها في عين صاحبنا، ثم استعادت عيونها، ومرت ذاهبة لشؤونها مر السحابة لا ريث ولا عجل. مرت وقد حسب صاحبنا مرورها، دعوة للحب من أول نظرة، من أمثال غراميات ابن حزم في " طوق الحمامة ". وكاد يجري من ورائها، إلا أنه لم يفعل. وحين مرت ساعة زمنية ثقيلة المرور من بعد مرورها، هب صاحبنا فجأة من مقعده متحسرا، وراح يجري خلف ظلال عيونها. وهكذا عبر كل الأزقة، الحارات الملتوية والشوارع والمنتزهات، وحين لم يعثر لها على أي أثر إنسي يُذكر، أصيب بتشقلب نفسي وخربطة نفسانية لا مثيل لها، فترك فقهه كما جامعته، وراح يجري خلف الأوهام والأشباح اللاّ مرئية.

قلنا بأنه عدا يعدو، وجرى يجري، وحين قطع مسافة العشق الزمني، محمولا بأجنحة واعية ولا واعية، وجد نفسه في منتهى المطاف، وقد فاته قطار الحداثة، وفاتته الدراسة الجامعية وعاد بخفي الفشل الوطني إلى أمه الوحيدة حزينا.

وعاد إلى الوجود في خلقة أخرى، وبحث عن يمينه وعن يساره، حتى وقع على مدرسة حرة بحاجة إلى معلم رخيص لتدريس مادة اللغة العربية، فاستقر بها.

وذات يوم، خلال شهر رمضان، زاره في منامه الأميّ، ملاك في صورة وهيأة بديع الزمان الهمداني وقال له:" الآن أمنحك رخصة كتابة القصة القصيرة" واختفى. واستيقظ صاحبنا المعلم باحثا، عن كل ما صادفه من مادة صالحة للكتابة، وراح يحبر ما شاء له أن يحبر، وراحت قصصه من جهتها تكبر وتكبر حتى أصبحت أشجارا بل غابات وأنهارا. ومن يومها، أصبح المعلم كاتب قصة، ولكن في وسط شعبي تقليدي، بعيدا كل البعد، عن صناع قرارات الأدبيات الرسمية. ومع ذلك لم يقطع أمله في أن يصبح في يوم من الأيام أكبر كاتب قصة في هذه البلدة. وجرت الرياح بما تشتهيه ولا تشتهيه السفن. ومرت الأيام ولم تزدد الأمية المقصودة، إلا تفشيا في هذا البلد السعيد. أقصد الأمية بكل أنواعها: السياسية، الاجتماعية والاستعبادية المُبَيّتَة نتائجها سلفا. وبتفسير مبسط " يقول أصجاب الربط وفسخ السراويل الوطنية:

 كلما ازدادوا جهلا، ازددنا علما، وكلما ازدادوا عبيدا ازددنا سادة..!".

وحدث ذات يوم، ما لم يكن في الحسبان، أن قدم أحدهم، أي من هؤلاء المنتسبين إلى "اتحاد الكتابة" - ولا أقصد كلهم، بل تقريبا - بابنه الفاشل والساقط في المدارس الحكومية إلى مدرسة " العلوي الحرة" حيث يشغل صاحبنا منصب معلم. ودارت بين المعلم والشاعر الاتحادي، صاحب الجائزة الشعرية التي كرمت مجموع أعماله الأدبية الملخصة في كتيب لا يتجاوز مائة صفحة، محادثة أدبية معرفية. ولا أقصد، أعذروني السلطة أوالسلطات المعرفية العالمة، وإنما أقصد المعرفية من جهة " من أبوك؟ وأخي أستاذ جامعي وأختي محامية وابن عمي مدير للشرطة في الصحراء..." وهكذا اختلفت الروايات وتوحدت النوايا الكسبية اللا شرعية، وحصل التعارف النفاقي، وكاد كل منهما يبكي في حضن صاحبه لولا موانع الحشمة. أي كاد المعلم أن يبكي في حضن صاحبه فرحا، في حضن الشاعر الذي وعده بنشر قصصه. وكاد عضوالإتحاد من جهته، وبيننا، التقدمي جدا، أن يبكي مجاملة، لأنه وقع على مغفل مستعد لتدريس ابنه مجانا. ونضيف موضحين بأن صاحبنا هذا " العضوالاتحادي التقدمي" كان يقضي كل لياليه – لا في قراءة الكتب بل في قناني " ستورك الرخيصة والروج المغربية بولعوان " – مع بعض إخوانه الاتحاديين المناضلين في الخمرة والنميمة الأدبية والدعارة الشرعية.

وحصل اللقاء، وجاءت من بعده المحبة النفاقية، وراح صاحبنا الاتحادي ينشر شيئا فشيئا، بضعة القصص لصاحبه في مجلة إلكترونية حديثة. ومع كل قصة جديدة كان يدعوه للاحتفال بها في.. بار سيدي مخمور. وكان المعلم المغفل لا حول له في قبول الدعوة يستجيب ويستجيب. ويقضي مجمل السهرة على احتساء أكواب الحليب فيما كان صاحبه الشاعر الاتحادي، قد قطع أعمارا ومسافات في حقول العشبة والكرمة. ويأتي أخيرا الحساب، ويدفع المعلم لما تبقى من شهريته ويرجع بنشر أدبياته مبهورا، ويعود الشاعر الاتحادي بالمناسبة إلى بيته مسرورا ومشكورا ومغمورا " بالفاقة".

ومرت الأيام كما سبق وقلنا وراحت من بعدها الأيام في وتيرتها، لغاية ذاك اليوم المشهود.. وأقصد ذاك اليوم الذي ما تزال تذكره المدينة وتردده كل الألسن الخبيثة منها والمليحة. لقد كان اليوم يومها، في منتهى المحبة الصيفية، وكانت عشيته، روعة في امتزاج الزرقة بسواد ليلي لا زرقة له، وقدم الشاعر الاتحادي على دار المعلم المتزوج " بأجمل نساء هذه البلدة العواقر وقال له:"

 قم وهيا بنا.. اليوم خمر وغدا أمر..!"

وراحا عبر أزقة ومنعرجات هذه المدينة، لغاية ما استقرا، ب" بار ماتيلدا العجوز ". وكان الاتحادي الخبيث قد نوى ما نوى. وهذا البار باختصار، صاحبه مواطن مغربي من أبناء تلك الجالية الأمية، المستغربة في بلاد الدانمرك. والذي، حبا في العودة إلى شمس الوطن، عاد صحبة عجوز شقراء، أشبه ما تكون بعجوز " الحطيئة، الشاعر الذي قال فيها باختصار، " أُطَوّف ما أُطَوّف، ثم أعود لبيت قعيدته لِِكاعُ " لترويج حداثة الموسيقى الغربية والدعارة الشقراء الشرعية.

ووصل كل من المعلم والشاعر الاتحادي إلى البار. ولأول مرة وقع المعلم في شرب المعاصي. وراح المعلم البريء، شاربا ومخلطا لكل ما يقدمه له الاتحادي، وقد راح يعده بتقديمه للأبنوسة الشقراء، وأنها هي، على استعداد للوقوع في حبه ومحبته. وشربا كلاهما، وغرقا في بحور ألألفيات القصصية، وخصوصا المعلم، وفجأة استوى الاتحادي واقفا وهمس في أذن صاحبه:" إنها الشقراء قادمة عندك، بارك الله لك فيها، وداعا ولا تنسى دفع الحساب!".

وقدمت العجوز الشقراء، وسقت المعلم ما سقت. وظل ينتظر وينتظر قدوم الحورية الشقراء تلك التي كانت مخيمة في باله. وحين فطن بأنها شبيهة بالخيال، وقد لا تقدم أبدا، سأل العجوز قائلا:

 أين هي؟

وأجابته العجوز مستدركة:

 تقصد الشقراء!

واستدرك المعلم نفسه قائلا:

 بلى.. هي..!

وصدعته العجوز قائلة:

 أنا هي وهوأنا..!

وصعق المعلم وكاد يغشى عليه، بسبب تذكره لمأساة سيبويه النحوية، المسماة " المناظرة الزّنبورية "، وخرج هاربا من الحداثة الاتحادية، في اتجاه بيت زوجته لَلا رحمة الجميلة. ودخل كعادته بسكينة رهيبة لبيته. ومن بعد أن استغفر الله له، لهذا الحدث الخمري الّلا متوقع، خلع نعليه وتوجه نحوفراش سعادته. ومن قبل أن يصل لفراشه وهوفي نفسه كله اعتذار وحسرة، لما صدر عنه بخصوص زوجته. بل ومدفوعا حنانيا، لملاقاة جميلته رحمة، استوقفه فجأة، صوت يئن أنين القِطَطِةّ ودعوى له، بالمزيد في حب الملائكة. وتقدم وهولا يكاد يصدق بأنه المعني بتأوهات جميلة، حين نفذ أخيرا إلى غرفة نومه وقد كاد يصعق من جديد، وهولا يصدق عينيه برؤيته لصاحبه الاتحادي راكبا مهرته للاّ رحمة. فما كان منه إلا أن صرخ مُصَيِّحا فيهما وبهما وعليهما:

 آ.. ويلي.. واش كات ديرو؟!

وأجابه صوت متلعثم:

 والشقراء ماتيلدا؟

وأجاب المعلم الكسيرة نفسه، أمام هذه المفاجئة الحوائية:

 آح..! "ماتيلدا" الشقراء..!

وانفجر بالبكاء.

القصة الثالثة

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى