الثلاثاء ٢١ تموز (يوليو) ٢٠٠٩
بقلم مصطفى أدمين

تحت شجرة الكاوْتْشو

مهداة إلى الأخت الصديقة زهيرة عقل

إن ما يستهويني أكثر في مدينة مراكش، ليس ساحة جامع الفناء التاريخية المشهود لها ب(الحلاقي) المتنوعة بمرودي الثعابين والقرود وباعة الأدوية التقليدية والبهلوانيين وقارئات الورق وناقشات الحِنّاء على جلود الزائرات والمهرجين ورواة القصص العجيبة... ما يستهويني أكثر في مدينة الشمس الترابية وبياض جبال الأطلس الأسطورية والحمرة المنبجسة من ذات الأرض والنخيل ذي الطلع الذهبي؛ هو ما يُقال وما يُشارُ إليه في فضاءات الحانات.
و منها الحانة المواربة لشارع المنصور الذهبي المتعامد مع شارع مؤسسة البريد بحيّ جيليز.

يسميها المراكشيون ب (بار زيزي) واسمها المدوّن في سجلات المحافظة العقارية ولدى المصالح الضريبية هو (المقهى المثالي). وإنّما سُميتْ ببار زيزي لكونها ممنوعة من النساء، وكلمة (زيزي) هذه، فرنسية الأصل وتعني فيما تعنيه (قضيب الذكورة) كما تعني لي - شخصياً – بعض الحرج عندما تختار إحدى الشخصيات الفنية كاسم لشهرتها هذه التسمية غير الرقيقة في ثقافتنا نحن المغاربة المُفَرنـَسين.

أمام بار زيزي، يوجدُ على الدوام بائع صوصيط (نقانق) ومرأب ضيق للسيارات.

باب البار عاديٌّ جدّاً ولكنك عند ولوجه، لا بدّ أن تشعرَ بشيءٍ من الرهبة؛ وكأنّك داخلٌ إلى دار أو إلى فناء مسجد.

طفلا؛ عندما كانت الحياة تشتدُّ على والدتي؛كنتُ أذهبُ معها إلى ضريح الولي سيدي بلعباس. هي تتوجّه إلى قبره لتدعو ما تشاء وأنا أبقى في البهو الفسيح ألعبُ في النافورة ولا ينغِّص على سعادتي الطِّفـْلـِية سوى صراخ المحافظ.

لسببٍ أجهلُه، يذكرني بار زيزي بضريح الولي سيدي بلعباس؛ ربّما بسبب هذه التماثلات: بهو مقابل بهو، نافورة وسطية مقابل شجرة كاوتشو وسطية هي الأخرى، ضريحٌ شريف مقابل كونطوار مبلّل بالخمر على الدوام، ماء النافورة الذي كنتُ ألهو به مقابل ماء البيرّة الذي يلهو بي، المحافظ القصير الذي كنتُ أكرهه لكثرة ما قرَّص أذني مقابل الجرسون الطويل لكثرة ما قصَّرَ عذابي الوجودي، لجوءُ والدتي إلى الضريح لمّا تزيِّرُها الحياةُ على الرغم من حلاوتها ولجوئي إلى بار زيزي لمّا يزيِّرُني الواقع المرّ، غياب والدتي الكلّي عنّي وغيابُ النساء المطلق عن بار الذكور... ملجأي.

في بار زيزي وتحت ظلِّ شجرة الكاوتشو ذات الأوراق الضخمة شبه البلاستيكية، أجلسُ في ساعة العصر بالضبط لأرصُدَ حركات وسكنات وإشارات الحجاج إليه والمتعبدين فيه عباداتهم. لكلّ حاجّ هدفُه ولكل متعبّد جنّتُه وأمّا جنّتي أنا فهي امرأة بحثتُ عنها في الكتب والمدن والشوارع والحانات فلم أعثر عليها؛ امرأة مثل رواية لا تنتهي.

" كُتبتْ عليك الوحدة والغربة فاشرب البيرة حتى يأتيك اليقين." يقول لي صوتٌ مجنون بداخلي.

تحت شجرة الكاوتشو العظيمة، لستُ وحدي على ما يبدو؛ فهنالك الأنصار الموسومةُ جِباهُهم بسمة الوحدة القاتلة على الرغم من جلوسهم معاً حول طاولات مستديرة وتجاذبهم أطراف الحديث وتداولهم للنكات.

يأتي الجرسون (حَسَنْ) الطويل بصينية عليها قناني سندسية ويطوف عليهم بالسُّكْر: كلٌّ علِم مشربَه وعبادتَه ووحدتَه.

في زاوية، جلس أربعةٌ من الأنصار على بوصلة الجهات الأربع من الوجود، وراحوا يبعثرون الكلام في قصة (الرجل الذي كان يحلم باحتلال الكويت وهزم أمريكا).

 إنّه كافرٌ. قال الشرقي.
 إنّه أحمق. قال الغربي.
 إنّه ديكتاتورٌ واهمٌ. قال الشمالي.
 هاتِ البيرّة يا حَسَنْ! قال الجنوبي.

و في حديث آخر، عند طاولة الزوال، جلستْ بقيةٌ من الأنصار تلوكُ خطابَ الإقصاء وتتألّم:

 نحنُ من حارب الاستعمار ومع ذلك لمْ ننلْ شيئاً من الاستقلال.
 نحنُ من أسّس المركز فما حصّلنا إلا على التهميش.
 نحن من ناهض الظهير البربري ومع ذلك فالأعرابُ يضطهدوننا.
 هاتِ البيرّة يا حَسَنْ! قال رابعهم.

و جلس (خوسي أولبيدار) الإسباني لصْقَ (جان فيليب) الفرنسي مقابلين ل(شي شْوان) الياباني و(موشي ميناحييم) الذي أعرفه كذلك باسم (موسى المراكشي) ليناقشواْ همساً مصير مراكش إذا ما آلتْ لهم:

 في ما مضى كان المغاربةُ يحتقرون (البسّيطة). قال الإسباني.
 سنشتري من المراكشيين مائة رياض وعرصة ببضعة يُورهات. قال الفرنسي.
 سنغزو السوق المغربية. قال الياباني.
 المغرب بلدٌ آمنٌ. قال اليهودي.

و في زاوية ظلّ بعيد من شجرة الكاوْتشو، كان هنالك رجلٌ يشبهني... كان يكتب بطريقة عصبية على الورق الأصفر الكبير المتساقط من ذات الشجرة. بقلم حبر جاف أسود وكان - من حين لآخر – ينظر إليَّ وأنظرُ إليه وكأنّنا في مرآتين متقابلتين.

فقمتُ من مجْلِسي لكيْ أتلصّصَ على مجْلِسِه، فرأيته كاتباً: الشرق في الغرب/ الغرب في الشمال/ الشمال أسود/ الجنوب امرأة/ المرأة جنون/ الجنون حكمة/ الخرق ممنوع/ المنع اختيار/ الاختيار التزام/ الالتزام حريّة/ الحريّة عبودية/ العبودية أمن المستضعفين/...

و عندما هممتُ بالانصراف، سألني من أكون. فاستخرجتُ من جيبي ورقة بيضاء مخطوطة وأريتُها له، فما إن اطّلعَ على ما كُتِبَ عليها حتى عانقني وقال:

  أنتَ أنا. وانصرف.

لحظتئذ حلَّ الليل وضجَّ المكانُ بالكثير من الكلام الأخرق وصِرْتَ لا تسمعُ سوى:" أين النساء؟...أين النساء؟... نحن نطالبُ بوجود النساء في هذا البار وبتغيير اسمِه..."

فخرجتُ منه في شهر شعبان لأجد في وجهي شهر الانتظار شاهراً في وجهي سيف الحرمان، فما خفتُ منه ولا ارتهبتُ وإنّما قلتُ له:

 متى تنقضي سأعود إلى هذا المكان والحمد لله الذي جعل فيه شجرة الكاوتشو ظلاًّ لمن لا ظِلَّ له في هذا الوجود وعاشتِ الأنصار على الرغم من كونها مائتة.

و كان عليَّ لزوماً أن أتصعَّدَ الطريق المؤدِّية إلى ساحة جامع الفناء، لآكُلَ من (حريرة) ها وتَمْرٍها و(صوصيطِ) ها ولكي أرقص مع قردتها وثعابينها ولكي أتفرَّجَ على لصوصِ جيوبِها وأحتكَّ بأجسادِ زائراتها القادمات من فرنسا وإسبانيا واليابان وأتلذذ بعطرهنّ الخفيّ؛ ذلك العطر الذي يبدّدُ الوجود: فلا شرق ولا غربٌ ولا شمالٌ أو جنوب، إنّما الكونُ جهةٌ واحدة؛ جهة الحرية والإنسانية والحب والأدب.

مهداة إلى الأخت الصديقة زهيرة عقل

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى