الأربعاء ٢٢ تموز (يوليو) ٢٠٠٩
بقلم غزالة الزهراء

رحلة الشقاء

وقفت(منال) أمام المرآة الكبيرة لتتأمل نفسها كما يجب، لقد نحفت بعض الشيء، وغارت عيناها اللوزيتان كما أنهما فقدتا بريقهما الساحر، المعهود، وهذا الشعر الكستنائي الذي ينسدل على الكتفين لم يعد له بالغ الأهمية كما كان من ذي قبل، فلم لا تقصه، أو بالأحرى تنتزعه من جذوره حتى لا يكون سببا في تحريك أشجانها، وتأجج جذوة عذاباتها.

في خضم موجات الأسى الهالكة التي احتستها سما زعافا حدثت روحها الطيبة، المسالمة في ذهول: ستناديني الآن، ستناديني بلا شك.

سرعان ما تناهى زعيقها المزعج، الفظيع من أحشاء المطبخ إلى مسامعها، هرولت بلا وعي وقد انهملت فوق سياج قلبها الفتي زخات مؤلمة من الحيرة، والارتباك، وقبل أن تتفوه بكلمة تصد الأذى عنها صدا زمجرت كالعاصفة المريعة: بيعي أقراص الكعك كلها، وإلا.....

وأضافت وهي تهدر كالبحر الغضوب الذي لا تهدأ ثائرته: ماذا تنتظرين أيتها الشقية البلهاء؟ هيا احملي القفة، وانزلي بها إلى الشارع، هيا لا تسرفي الوقت هدرا.

نكست المغبونة رأسها طاعة وانصياعا، مالت على القفة لتحملها، انسلت من الباب والصوت الأرعن يسكن أذنيها الغضتين، ويأبى مبارحتهما.

هناك، في الطرف الآخر حيث الشجرة الهرمة التي شاخت بانتظارها، ذاك هو موقعها المعتاد الذي تركن إليه مهيضة الجناح، وضعت القفة أمامها بأدب، وأسندت ظهرها الموجع إلى جذع الشجرة هاتفة بصوت حان تمزق مآسي الدهر المغشوش رناته البكر: من يشتري الكعك؟ من يشتري الكعك؟

الساعات تمر كسولة، متخاذلة، تنفث عبئها القاهر في مسامات جسدها المنهك الذي لا يقوى أبدا على التحمل.
باتت تمقت نظرات الناس النارية المصوبة نحوها كالسهام القاتلة، وحتى نظرات زوجة أبيها لم تسلم منها هي الأخرى، عيناها بومتان مشؤومتان تمتلئان غلا، وأنانية، وسخطا، واستفزازا.

استفزتها عندما مزقت لها كراريسها وكتبها، وألقتها في سلة المهملات دون خضوعها لتأنيب الضميروهي تقول بإجحاف شديد: لا دراسة بعد اليوم، أتفهمين؟

هاجمها إحساس أعنف من الإعصار بأن جميع أحلامها الملونة بلون الفراشات الزاهية قد اغتيلت، ودفنت ظلما وعدوانا.

معلموها النزهاء الذين احتكت بهم بغية الاغتراف من ينبوع العلم صاروا يسألون عن غيابها الذي خلف بصمات مفجعة ارتسمت بوضوح على حيطان المدرسة.
قالت لها المرحومة ذات يوم: أود أن أراك في المستقبل مهندسة ناجحة، أو طبيبة متألقة، أو أستاذة جامعية ماهرة.
ــ سأحقق لك ما تأملينه ياغاليتي.
ولكن تجري الرياح بما لا تشتهي السفن، تموت الوالدة إثر مرض خبيث هتك خلايا جسدها، أما الفتاة فقد وقفت زوجة أبيها عائقا منيعا أمام طموحاتها المستقبلية، المنتظرة.
كل يوم صراخ، وضرب، وزعيق.

تقدم الليل زاحفا يختال في جلبابه الفضفاض، ويلهث نحو المدينة التي ستغرق في سباتها العميق، تحسست(منال) جيب مئزرها، أخرجت بعض النقود القليلة، هذا كل ما حصدته خلا ل يوم واحد، ثم ألقت نظراتها البائسة على القفة فتمثلت أمامها إنسانة من لحم ودم تتشكى من هذه الرحلة، رحلة الشقاء.

ما زال رأسها يوجعها بفظاعة لا تطاق، فكلما ألقت في يد زوجة أبيها بعض الدريهمات إلا وفتحت على نفسها أبواب جهنم، تجذبها من شعرها بكل قوة، وتسقطها أرضا، ثم ترفسها برجليها من غير رأفة وهي ترغد وتزبد: لماذا لم تبيعي أقراص الكعك كلها؟ لماذا؟

لقد فكرت كثيرا في قص هذا الشعر الطويل، ستقصه حتى لا تفعل بها تلك الماكرة ما تشاء، وتشتهي.
تكمشت(منال) على نفسها، تجمدت مع البرد القارس كقطعة ثلج، وضاعت تماما من أعماقها الكلمات.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى