الثلاثاء ٢٨ تموز (يوليو) ٢٠٠٩

المسؤول وواجبه الشرعي والوطني (2)

بقلم: طالب الرماحي

ذكرنا في الحلقة الأولى أن قادتنا وهذا ما يهمنا، تميزغالبيتهم بخصيصة غريبة مرفوضة وهي انعزالهم عن الشعب، فلا أحد يمتلك مكتبا خاصاً في وسع المواطن أن يلجأ إليه، ولا هو يسمح بإعطاء رقم تلفونه، وهو بذلك كمن يعيش في برج عاجي يتمتع بنعيم المنصب وامتيازاته التي لاحد لها، تاركا المواطن يعيش حالات الفقر والبؤس والحرمان والمعاناة، وتساءلنا عن الأسباب التي أدت إلى وجود ذلك الجدار الأصم العازل بين الشعب وبين ومن يحكمه، ولا نريد أن نسوق أمثلة على وجود ذلك الجدار فالأمر أصبح ظاهرة يتكلم عنها الجميع، ومع ذلك وطيلة السنوات الست الماضية لم يغير (المسؤولون) أسلوبهم في معاملتهم لمن كانوا سببا في النعيم الذي يرتعون فيه. وهذا مما يدعونا جميعاً للتنبيه إلى أهمية عدم وصول عناصر لاتمتلك الشعور بالمسؤولية إلى مجلس النواب مستقبلاً، كما نعتقد أن على الجهات السياسية التي تشرف على عملية الانتخاب وقانون الانتخابات أن تنظر إلى هذا الأمر بجدية بعيدا عن المصالح السياسية والشخصية خلال الانتخابات التشريعية القادمة.

إن العرف والقوانين والدستور والدين يؤكدون جميعاً أن المسؤولية هي تكليف وليس تشريف، والوزير أو النائب وما شابههما، لايعدو أحدهم أن يكون شخصاً مكلفا من قبل الشعب لأداء بعض متطلبات الحياة السياسية أو الاجتماعية والتي تستوجبها إدارة الدولة، وهو بالتالي ليس أكثر من كونه خادما للشعب بكل ألأبعاد التي تنطوي عليه كلمة (خادم) وقد رأينا أن الأنبياء الذين شرفهم الله بتلك المواقع الجليلة، يسارعون في خدمة الناس وتفقد أحوالهم والتخفيف من معاناتهم، وأن الأئمة عليهم السلام كانوا يفعلون ذلك ولا يستنكفون، حتى أن الإمام علي عليه السلام وهو خليفة، يخرج في كل ليلة وعلى أكتافه الدقيق يتفقد به فقراء الكوفة، وما كان أحد يعلم بذلك حتى استشهد وراحت عندئذ تلك العوائل تتحدث عن شخص كان يزورها في كل ليلة قد توقف عن المجيء،) علي صاحب المنهج الإلهي يقول:(أأبيت مبطاناً وحولي بطون غرثى وأكباد حرى، ولعل بالحجاز أو باليمامة من لا طمع له بالقرص ولا عهد له بالشبع (كما أن بعض المؤرخين يستدلون بـ (لعل) التي وردت في كلام الإمام على أنها دليل على عدم وجود البطالة في ولايته، ومع ذلك فهو في غاية الحذر ويتعمد حرمان نفسه ليتأسى بأضعف رعيته في المأكل، والإمام السجاد عندما توفى رأى المسلمون عند تغسيله أن أكتافه (سوداء) وتبين فيما بعد أن ذلك بسبب استمراره على حمل المؤونة للفقراء وتوزيعها عليهم في الليل، لو أردنا أن نسقط هذه الخصيصة على قادتنا ومسؤولينا فسوف نجد تناقضاً رهيبا بينهم وبين من يتخذونهم (قدوة) في أحاديثهم وخطبهم، ونعتقد إن الذرائع التي يضعها البعض ليبرر فيها أمام الناس تفرده بالنعيم، هي من صنع الشيطان (وزين لهم الشيطان أعمالهم) (الشيطان سول لهم وأملى لهم)، فالله لايُخدعُ في جنته، لأن المسؤولية هي ذاتها عند جميع من يتصدى لها، وتوجب عليه أن يتأسى بضعاف من أؤتمن على رعايتهم وقيادتهم، وهو المسؤول عن رفع الفقر والحيف والظلم عنهم، وهي ليست امتيازات دنيوية يحق لمن تقلدها أن ينعم بها بعيدا عن الأمة ومعاناتها.. أين هذه الأخلاق ممن يحسبون على مذهب الإمام علي والسجاد، ويستلمون عشرات الملايين شهريا، ولا يراهم أحدا يقفون عند بيت فقير أو يسألون عن مريض، والأنكى من ذلك إن تلك الرواتب الكبيرة لم تكفهم فراح الكثيرون منهم يتحايلون على القانون أو يستغلون علاقاتهم الشخصية، ليقضموا من قوت الناس ما بوسعهم قضمه دون ورع أو خوف من الله، أما السفر الذي لا ينقطع تحت مسميات (العلاج) أو الإيفاد وهو يحرق في كل مرة الملايين من الدولارات، التي في وسعها أن تنقذ في كل سنة الآلاف من شبح الفقر والحرمان. وأتذكر أن أحد النواب جاء إلى بريطانيا تحت ذريعة العلاج وقد كلفت رحلته صندوق البرلمان 200 ألف دولار خلال اسبوع واحد، وتبين فيما بعد أنه متمارض ليس إلا. إن هؤلاء وبدل أن يكونوا سبباً في التخفيف من معاناة الوطن أصبحوا ومن خلال هذا (الخُلقِ الغريب) عالة عليه وعاما استنزاف لقوته، والأمر من ذلك هو أن المخلصين من أبناء شعبنا من الإعلاميين الذي جندوا أقلامهم وقابلياتهم الإعلامية لفضح النظام السابق ومن ثم مقارعة أذنابه من البعثيين أو المتملقين، وجدوا أنفسهم أمام ظاهرة لا تقل خطورة في تأثيرها على حاضر ومستقبل العراق من بقايا حزب البعث، وهي وجود أعدادا كبيرة من السياسيين (من علماء اللسان) الذي يرتدون عباءة الدين، ويتصرفون وفق ما تمليه مصالحهم الخاصة الحزبية والشخصية. وهم بذلك يستنزفون طاقاتنا التي نحن في أمس الحاجة لتوجيهها صوب أعدائنا الحقيقيين.

أن هؤلاء هم كثر ويشكلون الأخطر على مستقبلنا من الأعداء التقليديين، ولعله من النافع أن أذكر حديثا للنبي صلى الله عليه وآله وهو يحذرنا من (علماء اللسان) حيث قال: أنا لا أخشى على أمتي من مشرك ولا مؤمن فأما المشرك فيقمعه الله بشركه والمؤمن يمنعه إيمانه، ولكني أخاف عليكم كل منافق الجنان (عالم اللسان) يقول ما تعرفون ويعمل ما تنكرون. هؤلاء الذين يستحوذون على عقول البسطاء من خلال خطبهم المطعمة بنكهة الشيطان، هم سبب بلائنا، واستمرار معاناة الفقراء منا. أن أحد هؤلاء أعرفه منذ ربع قرن، إذا استمعت إلى أحاديثه لايأخذك الشك في أنه من أولياء الله، وهو يمطر اسماعك بعبارات الزهد والتقوى والأثرة التي يستقيها من كتاب الله وسنة نبيه وأخلاق أهل بيته، هذا الرجل اصبح بعد 9 نيسان 2003 مخلوقاً آخر، يسكن في بيت قرب نهر دجلة قيمته 3 ملايين دولار، ويتنقل بين المناصب الرفيعة حتى استقر به المقام مستشاراً دينياً لرئيس الوزراء، لقد غير حديثه عن الزهد قبل الفتح إلى الحديث عن الجهاد (الوهمي) الذي كان يمارسه ضد النظام السابق، وكأنه يريد أن يبرر من خلال أحاديثه الجديدة استحقاقه لتلك المناصب الرفيعة، كثمن لما قام به في غابر الأيام من بطولات.

إن طبيعة تصرف المسؤول المرفوضة دينيا وإنسانيا، لايمكن أن تردع إلا من خلال (القانون) وهذا مافعلته الأمم الأوربية، وخلاف ذلك فلدينا (كأسلاميين) مؤسستان كان المفترض عليهما أن يقوما بواجبهما في تهذيب المسؤولين وفرض القيم الإنسانية والإسلامية من أجل إصلاح المجتمع مادياً ومعنوياً، فالمؤسسة الأولى وهي (المرجعية) التي تمثل كل علماء الدين، وهذه المؤسسة عاجزة عن القيام في هذه المهمة أو حتى التأثير فيها، وخاصة أن (المعممين) الذين تقلدوا مناصب رفيعة في الدولة تمردوا ليس على المرجعية وإنما على تاريخهم الحوزوي والعلمي والجهادي، بعد أن تذوقا حلاوة المنصب، كما أن المرجعية لاتمتلك برنامجا واضحا ولا مؤسسات تحكمها قوانين تخضع منتسبيها إلى عقوبات في حال خروجهم عن الدين والعرف. والمؤسسة الأخرى هي (الأحزاب الدينية)، وكان المعول عليها في إصلاحات اجتماعية وأخلاقية كبيرة بعد أن امتلكت الآن مقومات ذلك الإصلاح، وكان في وسعها أن تفعل ذلك وتسطر لها تاريخاً مشرقا عندما توظف (السياسة لخدمة الدين) فتكسبهما وتكسب معهما الأمة، إلا أنها وظفت وبشكل صارخ (الدين لخدمة السياسة) ففقدت الإثنين معا ومعهما الأمة.. لنا إنشاء الله لقاء معكم في الحلقة الثالثة والأخيرة.

بقلم: طالب الرماحي

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى