الاثنين ٣ آب (أغسطس) ٢٠٠٩
بقلم أحمد نور الدين

جابر

ماذا أخبرك يا جابر؟

وهل تسعفني معاني الكلام، لأرسم لك بها صورة للواقع الذي أحياه في غيابك؟

أشياء كثيرة تبدلت، في غيابك، وأشياء لا تزال على حالها. لكن الثابت الوحيد وسط كل الكائنات والعوالم هو أنت يا جابر! وسط كل الأشباح، والهياكل، والمعالم الهائجة والراكدة، أعيش أنا، وفي قلبي تسكن أنت. سكنت قلبي منذ زمن فلم أعد أميز بينك وبينه، وبت عاجزة عن تذكر ما إذا كنت أملك قلبا نابضا قبل أن تقع عليك عيناي.

ذكراك لم تعد تشبه الذكرى.. لقد تملكت عقلي وأحاسيسي، وعمت أماكن عيشي، وباتت تلون كل تفصيل من تفاصيل حياتي.. ولكم بائسة هي حياتي يا جابر؟!

حياتي البائسة لا يشفع لي امتزاجك فيها ولا من محصن لنفسي في وجه الحسرة والضجر فكل شيءفي غيابك له طعم خاص، وبعد إضافي من الحسرة العميقة المعبقة برائحة اليأس..أجل، وأي أمل أرتجي بعدك يا جابر؟ ألم تكن يوما غاية آمالي، وقمة شامخة من قمم الأحلام الزاهرة التي ما اهتزت روحي إلا لمرآها؟! ولا تنسى العمر يا جابر! العمر سريع جدا، سريع كالطائرة التي طارت بك الى خارج البلاد لتخلف في قلبي سحابة كثيفة من الهم واللوعة لا أظنها تبرحه ما دام نابضا. العمر يا جابر ينكل بي، يحفر في صفحة وجهي، والتي شبهتها أنت ذات ليلة بوجه البدر الذي يطل من فوق التل المجاور لبيتكم.. قلت بأنك كنت تنتظر إطلالة البدر في المساء لتذكر بها صورة وجهي فتسرح في البدر وفييَّ.

واليوم أتساءل، ترى ماذا عساه البدر يثير في خاطرك اذا البدر أطل، وهل لا يزال في مسائك من متسع لبدر يطل؟!

وعدتني بأن غيبتك في الخارج لن تطول، وأقسمت بأنك لن تقطع الصلة بيننا مهما وقع من أحداث.. وبفرحة ساذجة صدقت كلامك يا جابر.. تخيلت اللذة التي ستعمر قلبينا بفعل التواصل، تحسست دفئ الليل في حضرة الخطاب المرسل من البعيد.. ولكن الزمن السائر لم يحمل معه خطابا منك ولا كلاما، ولا صورة ولا خبرا.. ومضيت في حزن وصمت أكابد الحياة وأتجشم الصعاب. في صمت واصلت مسيرتي، ولست واثقة من قيمة السنوات المنصرمة، كما أنني لا أعرف ما اذا كان ثمة ما يستدعي الفخر فيها أو الاعتداد، لكنني تعودت أن أسمع أبي يقول في كثير من المناسبات بأنني بنت لا مثيل لها في البنات، أنني مضحية، مكافحة، وخير مثال يحتذى لمن هن في سني.. بيد أن الكفاح والتضحية لا يلجمان الزمن ولا يكبحان اندفاعته.

كبرت وجاوزت الأربعين، وظل أبي يقول عني "البنت".. وقد ساورني العجب ذات مرة، فتساءلت طويلا، ألم يفطن أبي يا ترى إلى تراكم السنوات فوق منكبييَّ؟ ألم يرعى انتباهه أنني أسير وحيدة في طريق لا أمل في نهاية سعيدة، أو مستقرة له؟ ألم يراوده حلم بتزويجي برجل يسعدني ويحميني؟ بيد أن أبي مات قبل أن تتضاعف حدة السؤال، قبل أن يصبح التجاهل عبثا مضحكا لا يستر عريا، فرحل ليسلم من نوبات عصبية تدهمني بشدة وقسوة في فترات متباعدة وبشكل مفاجأ..

فنجان القهوة يؤنس وحشة الأوراق، والسيجارة الرخيصة تزاحم القلم وتحرق الأعصاب في فوهة التبغ المشتعل، فيتصاعد الدوخان من أعماق الروح، أبخرة من الألم وأشباحا من التساؤلات الحائرة المحمومة.

لعل حديثي لا يسر لك خاطرا يا جابر! ولعله ينغص عليك فرحة عامرة وبهجة عميمة، لكن الألم ينهش صدري ولا قدرة بي علي تحمل المزيد.. وفي الكتابة أجد سلواي، أنتزع من داخلي معلقات الذكريات من جدار السيرة الملطخ باللوعة السوداء .

قد تكون الآن يا جابر في نعيم من السعادة والطمأنينة أو في جحيم من الخوف والقلق.. لست أدري الى أي حال صارت بك الأيام، لأنك تأبى التواصل معي، ولكنني لست تواقة في الوقت عينه الى معرفة التفاصيل، فذلك لم يعد يلح على مخيلتي كما هو الحال أيام كان الخيال المشبوب ملتهبا..

إن كان خبرك خيرا فسيشعل في نفسي نارا من الحسرة وينبش قبرا دفنت فيه حظي وأملي، وإن كان خبرك فيه البؤس والشقاء، فذلك عذاب زائد لي، وتعاسة مضاعفة تزيد من أثقال صدري وروحي.. لن أنجو من العذاب في شتى الأحوال، لذلك لا أريد المعرفة، ولا أشتهي تعديل صورتك المحفورة في عقلي وقلبي من قديم، فلتبقى الصورة الواعدة المشعة هي هي، وليبقى الأمل البعيد الباهت كما هو، ذاك الأمل الذي لوَّن أطراف الدنيا المرصودة من نافذة مخدعي القديم في حارة الصبى المنطوية في سحيق الذكريات.. فأمل باهت قديم خير من نار متوهجة مستجدة!

أما رغبتي الحقة، فهي أن أبوح لك بالكثير الكثير عما آلت إليه أحوالي.. رغم أنك دوما تعيرني الجهل بدل العناية، وتهمل كل رسالة أكتبها إليك، إلا أني أود أن أطلعك على شؤوني وشجوني، ولا متسع لي هنا للإتيان على ذلك كله مع بالغ الأسف، إذ لن تكفيني أطنان من الورق والأقلام لتدوين ما تئن به نفسي وتتوق الى لفظه رئتاي. بيد أنه لا مناص لي من كتابة بعض من ذلك، جزء يسير منه، لعلي أفلح في التخفيف عن كاهلي بعض الأثقال المضنية.
أرشف القهوة الفاترة ولا تلسعني مرارتها، فقد هجر الشعور أطراف اللسان، والتعب يدك أضلعي وعظامي بمطرقة من الحديد. ترتجف السيجارة المحتضرة بين أصبعين لا يعرفان إرتجاف الحياة بل تلفهما حياة الموت. وأجهد عينياي في ظلام الشمعة اليتيمة، لأبصر توهج الكلمات في صفحة موشاة بزهور خيالية فاقدة للطعم واللون والرائحة.
آه.. كم تشتهي عيناي رؤية الزهور البريئة، وكم تتوق رئتاي الى العبير المنبعث من أعماق يملؤها الرحيق.. وكم أروم بشوق حارق أن تردَّ عليي يا جابر!

لماذا لا ترسل إليي بخطاب؟ لقد أخذت معك الدنيا والأمل، فهل تضن عليي برسالة قصيرة تبث في جنباتي بعضا من حياة أسمع عنها في أقاصيص الأطفال والعشاق؟!

اليوم عدت الى البيت بعد يوم طويل من العمل. كان الوقت فجرا، والفضاء يصدح بالأذان، هفت على نفسي وأنا أبدل ملابسي رغبة مفاجأة قوية في تأدية صلاة الصبح، ولكني صحوت على حسرة مفجعة وواقع صادم أحاول عبثا تجميله من آن لآن. كيف أصلي ورائحة الخمر لصيقة جسدي لا تبارحه حتى بعد أن أستحم وأدعك جلدي بالصابون وأغتسل عدة مرات متتاليات؟! كانت الصلاة طقسا مقدسا من طقوس أبي، وكان يجلد أحدنا بحزامه إذا ما تهاون أو تجاوز فرض صلاة، فنشأت وسط إخوتي في جو يسوده وسواس الصلاة وهاجس الحزام الغليظ الذي يفرقع فوق جلودنا ككرباج!

إلا أنني هجرت الصلاة منذ زمن بعيد، حتى قبل أن يموت أبي، وكان في آخر أيامه قد انصاع مرغما لعجز الكبر، وغادرته حماوة الرجولة وشدة بأسها، فاستحال الى مخلوق هش ضعيف ينشد السلامة من أحقر المخلوقات وأوضعها! وشغلته علل صحته عني انشغالا تاما حتى غاب بوعيه عن الدنيا جميعا..

أحن اليوم الى الصلاة حنينا غريبا لا أعرف له سببا، وإذ يراودني الشعور لا يتستحضر عقلي ذكرى الحزام بأي صورة من الصور. ولكنني أرهب الصلاة بقدر ما أحن الى تأديتها، وليس بي من جرأة على اقتناء سجادة صلاة، فضلا عن الوقوف فوقها بكامل جثتي الملوثة. ونسخة من كتاب القرآن تربض فوق فاترينة في الرواق، لا أجسر على مجرد لمس غلافها أو إطالة النظر الى زخارفها الملونة..

ما يلسعني من حيرة في صدري يهتف في أذني صارخا: كان أبوك نديما قديما لموائد الخمر، فما الجامع بين شرب الكونياك والحرص على الصلاة؟!

الآن أضحك، أضحك من أعماقي.. ولا تسألني عن السبب.

يا جابر، إختفاؤك، وانقطاع أخبارك عني كانا من أهم الأسباب التي أدت بي الى عالم اليأس الذي لا رجوع منه. لن أخبرك عن أحلامي التي طالما تهت في بحورها، لن أخبرك عن الآمال العريضة التي علقتها عليك وعلى زواجي بك، لكن يجب أن تدرك مدى التأثير الذي تركه اختفاؤك على حياتي.. لقد دمرها، سد نوافذ البهجة فيها، وأقفل أبواب المستقبل الذي كنت أمني النفس به يوما.. كنت أشتري جرعات من المستقبل الوردي في صفحات قليلة تروي قصص الغرام والعاشقين، بيد أن إشراق المستقبل ظل حبيس الكتب الزهيدة وضاع وسط ركام الأحلام..

وكل ما أمر به اليوم، كل ما أعانيه وأكابده، ليس إلا نتيجة طبيعية، أو غير طبيعية وهو الأصح، لاختفائك. لأنه من غير الطبيعي أن تتحطم حياة إنسانة بسبب عزوف شاب عن الزواج منها.. أليس كذلك يا جابر؟! أسأل الآن نفسي، لماذا لم يتقدم أحد غيرك للزواج مني؟! هل كنت دميمة يا ترى؟ كنت تقول بأن وجهي أجمل من وجه القمر.. هل كنت فتاة سيئة السمعة؟ كنت تقول بأنك تعشق فيي العفة والطهارة.. فما هو السبب إذن؟ لعلها أسباب كثيرة لا قبل لي بحصرها، لكن المهم أن حياتي كانت معلقة على أملك ولم يكن لي من مرتجى سواك.. فلما ضعت مني ضاعت كل الآمال..

هل يتحرك الحنين في داخلك ذات يوم يا جابر؟ هل تراك تطفئ بعضا من نار تأكل أحشائي؟ هل ترسل إلي بخطاب طال انتظاره حتى أضناني؟

كثيرا ما يهتف بداخلي صوت يوعز إلي بالإمساك عن كتابة الرسائل، وقطع حبل الرجاء. ولماذا تكتبين إليه أيتها الحمقاء؟ لماذا تحرقين ذاتك على نيران الحسرة والتذكر؟ لماذا تُنهضين جثث الماضي أمام عينيك الكليلتين؟ فلا الأوراق تنهض من رعشتها وتؤنس وحشةً تسكنك، ولا الحبيب يرق قلبه ويجود عليك برحمة الجواب!
بيد أنني أقمع الصوت برشفة من فنجان المرارة الصامتة ونفخة من دوخان الروح العليلة.

وأمضي في الكتابة...

ما أخالني سأكف عن الكتابة في يوم من الأيام. مهما طال صمتك، وتمادى برودك وإعراضك. مهما امتد بك التجاهل لن أنثن ولن أحيد عن خط الحياة التي أحياها في حجرتي المعتمة كل حين، لن أترك القلم إلا اذا وقع احتمال من الإثنين: الموت، أو جواب الرحمة.

فما عساك تخبئ لي يا جابر؟ الرحمة أم الموت؟ وما هو الفرق؟!

أستميحك العذر يا عزيزي، فقد آن لي أن أختتم وأمضي..

إلى سبات قصير يفصل بيني وبين تجدد الحكاية.. الكأس والسيجارة والرجال.. وما أكرم الرجال!

لقد وصلت الى الرمق الأخير، فكفاني من الاحتراق ما نلته الساعة، وموعدي معك في جلسة الاحتراق القادمة.

أما الغد فنصيبي منه سهرة جديدة وزبائن جدد..

وهذه الأوراق تذهب إلى مصيرها المعهود، تلحق بسابقاتها المتراكمات.. فتأوي إلى جوف الخزانة حيث تقر القرار الأخير!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى