الاثنين ٢١ شباط (فبراير) ٢٠٠٥
بقلم مجاهد ريان

ذاكرة الناي

( ليسَ كلُ الحكايا نكتُبُها ، بعضَها يكتبُنا بجدارة . وباختصارٍ مُمِل ، نحنُ نهربُ منها لنجدَها على أوراقِنا المُعشبة .) المؤلف .

... واستيقظَ ذاتَ صباحٍ فَرِحاً .. صوتُ عصافيرٍ دغدغَ أحلامَهُ الطفوليةَ . لبسَ حذاءَه الذي اشتراهُ له والدُه لاستقبالِ العامِ الدراسيِّ الجديدِ ، وبنطالَهُ الذي رقّعَتْهُ مآسيْ الغروبِ . نسيَ أنْ يشربَ شايَ الصباحِ ، وأخذَ حقيبتَهُ التيْ يريدُ أنْ تمتلِئَ اليومَ بالكتُبِ التيْ يُحِبْ.. فيْ الطّريقِ صَعَدتْ خيالاتُهُ إلى السّماءِ ففي الجوِّ طائرةٌ كُتِبَ عليها أحرفاً عربيّةً ، فسألَ نفسَه : " كيفَ يسمحُ العدوُّ بمرورِ طائرةٍ عربيّةٍ في أجوائه ِ؟ يا لَلْمفارَقة! " . لمْ ينتظرْ الجوابَ مِنْ نفسهِ التيْ تتوقُ للمدرسةِ . وجد مديراً مُقَّوسَ الظهرِ ، كبيراً في العمرِ يُمسكُ عصىً قطعَها عنْ نخلةٍ زُرِعتْ في الحديقةِ المجاورةِ . طويلٌ هذا الممرُ المزدحمُ بالأفكارِ والخوفِ .. يمنعُ الكلامَ هنا وحكِّ الأطرافِ . " كلُ مَنْ لمْ يصلْ عُمْرُهُ سبعَ سنواتٍ فليغادرْ فوراً " قالَها المديرُ بغضبٍ . عادَ الولدُ حزيناً باكياً ، يسبُّ يومَهُ الذيْ فيهِ وُلِدْ.. لكنَّه تذكَّرَ والدَهُ الذي ذهبَ[ للعينِ] منطِقتِهِ البكرِ التيْ أحبَّ . . ألقى الحقيبةَ التيْ عادتْ مليئةً بالحُزنِ وسافرَ حذوَ الرياحِ الغربيّةِ ، مبتعداً عنْ أسئلةِ الجدةِ المرهقةِ ، وأشعلَ أجهزةَ التذكُّرِ " .الآن َسأجلسُ في المكانِ المعهودِ على صخرةٍ قربَ النبعِ قربَ نفسيْ أراقبَ المِحراثَ .. وأستمعُ إلى مواويلِ أبي قالها وردَّدَ الموالَ معَ أبيهِ :

أنا اللّيْ خانّْيْ دربِيْ وْزمانِيْ
مِثْلِ الرّيْح ْبِتْقَلَّبْ زمانِيْ
مَتىْ بِتْعودْ أمجادَكْ زمانِيْ
ويِجْمَعْ شَمِلِنا ربِّ السَّما "

...في الطريقِ لمْ يُردْ الالتفاتَ إلى الوراءِ سيجدُ الماردَ الذي قصَّتْ الجدّةُ عليهِ حكايتًهُ " يكونُ على شكلِ بقرةٍ عيناها تبدوانِ هادئتينِ ، تعبِّرانِ عنْ حنانٍ ، وما أنْ تركبها ، حتى ترتفعَ إلى أعلىْ فأعلىْ فأعلىْ ثُمَّ تُلقيكَ مِنَ السماءِ السابعةِ ، وإنْ لمْ تحمِلْ مِسماراً وتغرسْهُ في ظهرها سيكونُ مصيرُكَ الموت ! " أوْ سيجدُ الضبعَ الذي ـ كما أخبرتْهُ الجدَّة ـ " يأخذُ عقلَ الصِبْيَةِ حتى يركضوا خلفَهُ ظانّيْن أنَّهُ أبوهُمْ ، وما أنْ يصطدِمَ رأسُ أحدِهِمْ بصخرةٍ حتى يستيقظَ . وإلاَّ فإنَّهُ سيستمرُ في لحاقِهِ إلى مغارتِهِ حتىّْ يأخذَ عقلَهُ " ... حاولَ أنْ يمنعَ الأفكارَ المرعبةَ من التسلُّلِ إلى رأسهِ، فوجدَ ُمتعتَهُ في ملاحقةِ الفراشاتِ، هذهِ سوداءُ مُنقَّطةٌ تلكَ حمراءُ مثلَ زهرةِ رُمّانٍ في نيسانَ، وأخرى بيضاءُ، وأخيراً لونُ الشمسِ الذي يحبُ. " ما أقبحَ الأشياءَ عندما تبدو كلُهُا جميلةً " لمْ يدرِ أينَ سمعَ هذه العبارةَ ، ربما قرأَها في كتابهِ المفضلِ كولدٍ في السابعةِ إلا شهراً " كليلة ودمنة " كان يسألُ والدَهُ دوماً :لماذا هذه الحيواناتُ أذكى منَ البشرِ وأخلصُ كذلك ؟ . ما أجملَ الأزهارَ، والربيعُ طلْقٌ بابتسامةٍ عريضةٍ، لكنَّ العصافيرَ لها صوتُ الناي في قريةٍ من الريفِ لا تبعدُ عن القدسِ سوى عشرةَ الكيلو مترَ شمالَ غربَ، لكنَّها أبعدُ مِنْ زُحَلَ بالنسبةِ لأهلها.

متى جئتَ ؟ سألَ أبوهُ . سألهُ الصبيُ بالمقابل : لماذا لا يختارُ الإنسانُ لحظةَ ولادتهِ ثمّ يسمى اسماً

دونَ أخذِ مشورتهِ ينسبُ ابنٌ آخرَ لهذا الاسمِ باسمٍ ليسَ له‘ دخلٌ فيهِ هوَ الآخرْ؟ لكنهُ اسمٌ جميلٌ على

أيّ حالٍ . أسماكَ بهِ عمكَ وأنا في السجنِ. أخذَ يحاورهُ عنْ سنواتِ الاعتقالِ وأسبابِها ، عنْ حالةٍ منَ

التمردْ ! لماذا يتركُهمْ اللهُ يغتصبونَ مسرى نبيهِ،ألا يراهُمْ ؟ أنتَ صغيرٌ على هذهِ الأسئلةِ يا بنيَ . أجابَ والدهُ ، ولحقَ حمارِهُ ممسكاً بالمحراثِ .. اللهُ يسترنا منكمْ وَمنْ أسئلتِكم . في هُتافِ الصبيِّ ولعبهِ ورصدهِ للنغماتِ وحفيف الأشجار ، وركوبِ المحراثِ سعادةٌ لا تنطفئْ
.. في المساءِ سمعَ الناسَ يتحدثونَ عن القصفِ المكثَّفِ على بيروتَ ، حربٌ لا هوادةَ فيها ـ يسمع الآنَ أنينَ الناسِ في الحارةِ المتراصّة ، وبكاءَ العجائزِ .. كان كثيرَ الأسئلةِ حول المنظمةِ، المليشياتِ، لبنانَ، العربِ، المسلمينَ، اللاجئينَ وعن قصفِ لا ينقطعْ... سألَ أخاهُ البكرَ مرةً " لوْ لمْ يكنْ في لبنانَ فلسطينيينَ أكنتمْ تتعاطفونَ معها إلى هذا الحدِّ ؟ ...
خوفٌ يخرجُ منْ تلفازٍ بالأسودِ والأبيضِ يجتمعُ حولَهُ جمعٌ منَ الناسِ... تأوُّهاتٍ وشتائمَ، توقعاتٍ ، كفرٌ كثيرٌ سمعتْهُ أذناهُ . وتفاؤلٌ أكبرُ كانَ يصدرُ عنْ أحدهمْ بدا مثقفاً : لا يمكنُ أنْ تُتركَ بيروتُ وحدَها والكل يتفرجُ ، ولو تركت وحدَها فالإنسانُ الذي يدافعُ عن أرضهِ وشرفِ أمّته ِلهُ قوةُ الملائكة .... وانتصرتْ بيروتُ ... وحدها ... بقدرٍ لمْ يُحسبْ حسابُهُ.
للصّورِ حكايا منَ الوجعِ الساهرِ في العظامِ ، قليلٌ من المونتاجِ .. كثيرٌ منَ الواقعيَّة .. هكذا مرتْ عليه الانتفاضة بكل جبروتها وعنفوانها .. هُنا لا يكونُ الشابُّ شجاعا ما لمْ ينغرسْ بلحمهِ وعظمهِ وروحهِ.. الانتفاضةُ سيّدةُ عرائسِ الجنّةِ، تسلبُ الشبابَ من محبوباتِهم.. والصبايا من عشاقهنَّ .. ووقع بأيدي جيشِ الفُخّارِ ، ألقى أحدهمْ سيلاً من اللكماتِ على وجههِ النّاعمِ فطرحهُ أرضاً ولما سألهم عنْ السببِ قالَ لهُ الضابطُ المسؤولُ: ألقيتَ علينا الحجارةَ يومَ السبتِ الذي سيأتي. !!

وقهقهَ الجندُ ، لكنهُ نظرَ إليهم نظرةَ تحدِّ وقال : ستضحكون قليلاً وستبكون أكثرَ .. وأكثرَ مما أراد بكوا .. ! يا لخوفهم ! ويا لموتهم خوفاً ! جميلٌ هو الفعلُ الشعبيُّ .. جميل ٌهو التمردُ الثوريُّ .. لكن بحساب الخسارة والربح لا شيءَ يبدو جميلاً.. لا شيء مما نطلبُ يتحققْ ، جمودٌ كالجليد وَقْعُ قضيتنا في المجتمع الدولي .. وهنا يرتقي الشهداءُ بصمتٍ .. تتراجعُ الهتافاتُ في الشوارعِ ... تُمسحُ بقايا الشعاراتِ عن الجدرانِ ... والشهداء ُيمضونَ ، بصمتٍ أكثرَ وجنازاتٍ أقلَّ ... وبينما هو يسير في شوارع رام الله التي تغطي سماءَها رائحةُ الكبريتِ في التاسع منْ رمضانَ لعام تسعينَ وأربعَ بعد الألف الأولى للميلاد ...إذا بجمعٍ منَ الناسِ حولَ طفلة ٍتمسكُ بثوبِ أبيها ... وجهٌ ملائكيٌ يطلُّ من حلقةِ الفضوليين ، وفارسُ الجريمةِ ، أبٌ أرهقته سنينُ العيشِ الضنكِ وثلاثةُ أمراض مستعصيةٍ ، وملاءتُه تجرُّ خلفها عجزاً . وسأله أحد الذين أُوكلَت إليهمْ مصائرُ الناسِ قبل تسلم السلطلةِ الرسميةِ المدينةَ : لماذا تريدُ أن تتركها هنا في الشارع ؟ ألا تلتفتُ للطفلةِ تبكي ؟ ألم تتحركْ لديكَ مشاعر الأبوّةِ ؟ وفي الطريق ضاحكَ الطفلةَ ، مسح دمعَها بيدين ترتجفان قال لصديقهِ : لو كانت ابنتي لمكثتُ الليالي أداعبَ شعرها الحنطيَّ الناعمَ وأقبلُ وجهها الملائكيَ كل ثانيةٍ . ضحك قائلا: بلا أمراض فتّاكةٍ ، وبلا بطالةٍ لأنك حينَها ستُقبلُ اليدَ التي ستمنح ابنتك يوماً آخر لتعيش .وجالسهم في المقرِ العامِ في المدينةِ .. المدينة التي ترى مصايفَها من بعيدٍ فتظن أن الجنةَ ونعيمها هنا ، على هذه البقعة من الأرضِ .. صُعقَ المحقق المسؤولُ حين سمع الوالد يتحدثُ عن سببِ إلقاءِ ابنتهِ في الشارع :"أنا مريضٌ بالسرطان ِ، معي مرضُ السكري كذلك ، وأوجاعٌ في الظهر تكادُ تكونُ ناراً " والشؤونُ الاجتماعيةُ لا تمنحني سوى القليلِ ، وعندي خمسُ إناث وصبيٍ يا سيدي عمرهُ سنتان ، ولقد قررت أنْ ..أنْ .. قاطعهُ قائلا: أنْ تتخلصَ منهن ؟ ألا تخجلُ مِنْ نفسكَ ؟ اكتبوا عليهِ تعهداً ." خذ ابنتك يا هذا وتوكّلْ على الله واعمل ولو بائع ترمس .. "أما هو فصعقتْهُ القصّةُ وأصعقه الحلُّ أكثر، كيف استطاعوا أن يبعدوا عنهم مسؤولية متابعته؟ يا إلهي كيفَ ستعيش ُ هذه الطفلةُ؟ : قال لهم :

على الأقل إعرضوهُ على المؤسساتِ الإنسانيةِ ، ربما يساعدونهُ في العلاجِ ، أوجدوا لهُ مخرجاً لن تعجزوا : لكنهم اكتفوا بمنحه أجرة المواصلات واشتروا له قليلاً من الفواكهِ والخضراواتِ. أوصلوه إلى المحطة ، حيث كل شيء يغيبُ حتى الهواء النظيف هنا يغيب ، هنا في مدينة المصايف ..وتغيب الطفلةُ ، في المقعد الخلفي من السيارة .. ما زال هذا المشهد حاضراً في ذهنه وكلما مرَ من هناكَ ، تذكرَ الحادثة ، ولأنهم منعوه من نشر القصة والتكتمِ عليها ، ولأنّه شعر أنهُ مشاركٌ في الجريمة ، هو ابن الثورة .. وابن الجامعة .. وابن الأصل والفصل ... عاد إلى المكان نفسهِ بعد شهرٍ من الحادثة وسألَ الرجل المهم الذي كان يتربع على عرشهِ : ما هي أخبار الرجل .. وقبل أنْ يكملَ قاطعهُ قائلاً : قلت لك لا تتدخلَ في هذا الموضوعِ ، أنتَ لا تعرفُ أمثالَ هؤلاء النصابين ..!! لقد ترددت الكلمة في أذنيهِ رافقته سنين " النصابين " .. كأنكَ في بلد غير بلدك ووطن غير وطنك وأهل غير أهلك ، أو ربما كما قال أبي الطيب " غريب كصالح في ثمود " كأنك لست أنتَ والشهداء والأسرى عملية تزوير ، والجرحى صفقة واحتيال " لعن الأفكار الخبيثةَ وأطلّ على رجلٍ يدعو من كوَّةٍ في المنزل : رحم الله من ارتقى ، أعاد الله من أُبعِدْ ، وشفى كل جريحٍ ومصابٍ ، اللهم إلى متى يحفر الناي عميقاً في جراحي !! هنا أيقن أن لا شهادةَ تستحقُ التعليقَ على جدرانِ القلب سوى شهادةٍ واحدةٍ ، ومهما يكن من أمرٍ ففي ابتسامة الأطفالِ ، وتغريدِ الدوريِّ والبلابلَ ما يستحقُ أنْ نعيشَ منْ أجلهِ.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى