الجمعة ٧ آب (أغسطس) ٢٠٠٩
بقلم مصطفى أدمين

السيد (ميلاخوف)

في تلك الأيام، كنتُ أعشق (وحشة).

من عشقي الفريد لها، كنتُ أنتظر على نار أنْ يحُلَّ الليلُ لكي أتأمّلَ فصولها الرائعة. فأطفئُ عين المصباح الكهربائي وأشعل اللمبة التي ورثتُ عن والدي، ثم أتناولُها بين يديَّ كآنسة لم يستطع الزمانُ أن يعبث بها؛ فابدأها للمرّة العاشرة من حيث بداَ الثلج الليلي يتساقطُ نُدفاً على مدينة بطرسبورغ الغابرة، وعلى أضوائها الكئيبة، وأخيرا على كتِفيْ الحوذي (أيونا بوتابوف) وعلى ظهر فرسه...

لأنهي قراءتها حيث يشرع (أيونا) بالتكلم مع فرسه عن مأساة موت ابنه (كوزما) لمّا لا أحد من زبائنه أراد الإصغاء إليه.

هذه الأقصوصة ُ التي ألَّفَها آنطون تشيكوف سنة 1886 ، جعلتني سنة 1976 أغرق في حب روسيا القيصرية وأجوائها الفنية والأدبية... دوستويفسكي، كوركي، تولستوي، بوشكين، كوكول...

و من عشقي لها، صرتُ أعشق بالامتداد؛ بولونيا، رومانيا، هنغاريا، وبلغاريا...

ولمّا أخبرتنا إدارةُ الثانوية بأنّ أستاذا من رومانيا سيجيءُ لتعليمنا مادّة الرياضيات، تملّكني الأرق لأسبوع كامل.

تخيّلته أستاذا بشارب ولحية مهذبين، وبقميصٍ ذي ياقة كبيرة، وكوستيم من كوستيمات القرن 19 ، وبِغـُليون لا يفارق فمه حتى أثناء حصّة الدرس.

وعلى الرغم من أنَّ (وحشة) ليستْ إلا أقصوصة من نسج خيال تشيخوف، إلا أنّني تمنّيْتُ بقلبٍ مراهق أن يجيبَني الأستاذ البلغاري:

 بالطبع أنا أعرف مأساة (أيونا)...

وكانتْ أمنيتي الحمقاء، هي أن لا يُدرِّسَنا الجبر والخوارزميات وأن يدرّسنا بدلها، تاريخ الأدب في البلدان الشيوعية.

أذكر أنّنا دخلنا قاعة الدرس بأمر من الحارس العام (؟) في انتظار قدوم الأستاذ، وأن نبضي تسارع وكأنّني على موعدٍ مع مراهقة في سنّي.

ثم دخل علينا مدير الثانوية صحبة رجل غريب.

وكان بحقٍّ رجلا غريبا، إذ كان طولُه يتجاوز المترين، ووزنُه يفوقُ المائة وعشرين كيلوغراما، حليقاً، وبكوستيمٍ رث.

وكان ما أدهشني فيه أكثر، فمُه الذي بِعَرضِ مسطرة وهو مزموم.

بعد انصراف الطاقم الإداري، أعربَ لنا ذلك العملاق عن ابتسامة عرضُها تسعُ بوصات، ولمْ ينفعْهُ لُطفُه في جعل التلاميذ لا ينفجرون ضحكا.

ومع ذلك استمرّ في تبسُّمِه العريض والتلاميذ يتلوّون من الضحك حتى خارتْ قواهم فهدأوا رغماً عنهم، فكانَ كلامُه الأول على هذا النحو:

 رجاءْ...قليلْ...سكوتْ...

بدافع الفضول أكثر من واجب الاستماع للدرس، هدأ التلاميذُ ليسمعوا المزيد من الكلام المضحك وليتفرّجوا على تلك الأعجوبة التي قادتها إليهم اتفاقية التعاون العلمي بين المغرب ورومانيا.

فرح الأستاذ للصمت المفتعل. وصدّقه. ثم استخرج من جيب بزّتِه العتيقة عدّة أوراق، فاختار منها واحدة، ثم انحنى ليلتقط من الأرض قطعة طبشور، ثم استدار إلى السبّورة ليكتبَّ شيئاً مّا خبّأتـْه جثتـُه الضخمة. ولمّا أزاحَها رأينا هذه الجملة:

(سيد ميلاخوف، أستاذ رياضة)

فلا أحكي لكم عن الصخب الذي انخرط فيه التلاميذ. أنا لمْ أفعل، إلا أن أوهامي في لقاء شخصية مميّزة، شرعتْ تتبدّد.

ومع ذلك، قلتُ للتلميذ الذي بجانبي:

 أعطوه فرصة !

فما سمع لي وواصل الضحك وهو يقول:

 أ لا ترى بأنّه (هَيْش) ولا فائدة منه؟

التلميذ ذاتُه سيصاب بالسل وسيشفى منه وسيصير مدرساً لمادة الرياضيات؛ ثم السكن، الزواج، الأطفال...

فاستخرج الأستاذ ورقة أخرى وراح يتهجّاها:

 رج ا ء...رجاء... قليل... سكوت...

فكتم التلاميذ ضحكاتهم الشيطانية، وتنفّسَ السيد (ميلاخوف) توتره:

 أوووف !

ثم استدار مرّة أخرى إلى السبّورة وكتب عليها شيئاً لم نقرأه حتى أزاح ضخامته:

(سلفوني ألف درهم)

فمَنْ يقفز على الطاولات، ومن يتمرّغ على الأرض من كثرة الضحك، ومن سكت متعباً من كثرته، ومن يستنجد بالهواء، ومن يبكي... دوما من الضحك.

ثم نهضتْ تلميذة كنتُ أعزها وكان اسمها (فاطمة) وصرختْ في الجميع:

 أعطوا الأستاذ فرصة وافهموا مشكلته !

ولأن (فاطمة) جميلة مثل خنفساء، وابنة مدير معمل، فلقد امتثل التلاميذ لأمرها في انتظار أن يتحسّن أداء السيد (ميلاخوف) أو أن يصبو خاطرُها لأحدهم.

مرّت حصة الدرس مبعثرة بين أوراق الأستاذ المتناثرة... ساعتان من الفذلكة اللغوية ولا شيء من الرياضيات. ولمّا دقّتْ نهايةُ الحصّة،تقدّم السيد (ميلاخوف) من تلميذين رآهما رجُليْن تامّيْ النضج (ولقد كانا بالفعل كذلك لأنهما كان متزوجين ولهما أولاد) وقال لهما:

 أريد... دار... كراء...

فردّ أحدُهما:

 ستسكن عندي مجّاناً إلى أن نجدَ حلاًّ نهائياً لمعادلتك الصعبة.

ولم تمرّ أشهر حتى انفكّتْ عقدةُ لسان الأستاذ، فصار يكلِّمُنا بلغة لا بأس بها، بل صرنا نفهم الرياضيات بشكل مدهش؛ والسببُ في ذلك (ربّما) يرجع لكيفية نطقه لمجاهيل المعادلات ولكِبر فمِه. كان الشرح يخرج من فمِه كبيراً، ضاحكاً، وواضحا؛ ولذلك كنّا نحلُّ المعادلات الرياضية بيُسر.

لم ينسَ السيد (ميلاخوف) وقفتنا معه لمّا كان بدون مال، وشكرنا على ذلك، وأخرج محفظة نقود ولائحة بأسماء كل التلاميذ الذين أقرضوه المال، وراح يعطي لهذا وتلك ويتشدّدُ مع منْ يرفضون استعادة أموالهم احتراماً له.

وفجأة (أهدي هذه العبارة لأنطون تشيكوف لأنها كانتْ تعجبه)، اغرورقتْ عيناه بالدموع ولم يتحرّج من البكاء صراحة...

إذاك شعرنا بالحزن، بل منّا من بكى لبكاء الأستاذ. فقال لنا:

 أحبكم... أحبّكم جميعا... وأحبّ بلدَكم المغرب، وأنتم لا تعون مقدار النعيم الذي أنتم فيه.

ولِكَيْ أجلو مسحة الحزن من على وجه الأستاذ، بادرتُ بالقول:

 قل لنا يا أستاذ، ماذا أعجبك في المغرب؟

فاسترجع بعضاً من أستاذيته لأجل الشرح وقال:

 عندكم في المغرب ما ليس عندنا في بلغاريا؛ عندكم الطبيعة المتنوعة والقلب الطيّب وروح التعاون، أمّا في بلدي، فلقد طغتْ النزعة الفردانية ولا أحد يهتمّ لأحد، وكثير من الأمراض الاجتماعية نخر البلاد؛ الرشوة، إدمان المخدرات والكحول، الطلاق، التشرّد، الانتحار...

ثم اكتأب.

فقلتُ له لأجل أن أخرجَه من حفرة الكآبة:

 وماذا أعجبك أيضاً؟ فقال:

 الدفء الإنساني، الأكل، والعُطل. وأضاف:

 لديَّ جيرانٌ يسألون عنّي عندما أمْرَضُ، ويقدِّمون لي الكُسْكُسْ والطـّاجين، ولي في هذا البلد الجميل، الكثير من العُطل وتلاميذ نُجباء يحصّلون في ثلاثة أشهر ما نحصّله نحن في عشرة.

عندما اقتربت السنة من نهايتِها وكنّا قد تمكّنّا من دروسنا استعداداً لامتحان الباكالوريا، جاءنا السيد (ميلاخوف) بآلة موسيقية تشبه آلة العود، لكن أصغر منه وقال لنا:

 اليوم لا مراجعة... اليوم موسيقى.

وشرع يلامسُ أوتار تلك الآلة بحنان وهي تصدر ألحاناً شجيّة جعلتنا نشعر بالاغتراب.

أذكر أن (فاطمة) - التي اكتشفتُ أنّها بدأتْ تعيرني نظرة خاصّة في أواخر شهر مايْ - جلستْ بجانبي في كسوة حريرية حمراء بأزهار مختلفة الأشكال والعطور. ونحنُ غائبان في شجو موسيقى الأستاذ، مدّتْ يدَها ببطء ورهبة وشدّتْ على يدي.

ثم انفجر حلق الأستاذ بأغنية رخيمة سمَتْ بنا إلى أعلى درجات الوجود.

لم نكن نفهم الكلام البلغاري الصادر من قلب رجل عظيم، ومع ذلك شعرنا وكأنّه يغني قصّة ً خاصّة به، موضوعها الحُب والفراقُ والأمل في اللقاء.

فهمستْ (فاطمة) في أذني:

 بعد حصولنا على الشهادة، هل تتزوجني؟

فهمستُ لها:

 إن شاء الله...

عندما أنهى السيد (ميلاخوف) موسيقاه وأغنيتَه، خيّم على قاعة الدرس صمتٌ دام عدّة دقائق، وفجأة نهضتْ (فاطمة) للتصفيق، ثم أنا، ثم التلاميذ جميعا...والأستاذ يبتسم، وينظر لكل واحد منّا نظرة إعجاب، حتى إذا ما عدنا إلى مقاعدنا، شرع يعزف مقطوعة مرحة.

كانت مقطوعة مرحة وسريعة، وكان يضربُ على الأرض إيقاعَها برِجلٍ كبيرة، ونحن نصفق و لمْ ندْر كيف أن ذلك الرجل الذي سمّاهُ أحدُنا ب(الهيشة) أي وحش البحر لضخامته، صار يقفز خفيفا مثل فراشة من هذه الزاوية إلى تلك.

في تلك الأجواء، استرجعتُ ثقتي بأدبية وفنّية الروس وجيرانهم، حتى أنني تخيّلتُ نفسي في مدينة بطرسبورغ، ولمْ أشعر حتى أوقفتُ الموسيقى بقولي:

 قل لي يا أستاذ ! لماذا يموتُ (كوزما) وهو شاب؟ ولماذا لا تريد روسيا سماع شكوى ( أيّونا بوتابوف)؟ ولماذا يموتُ آنطون تشيكوف بداء السل وهوطبيب؟...

فعمَّ صمتٌ.

وتقدّم إليّ الأستاذ (ميلاخوف) ببطء، وقال لي:

 (كوزما) لم يمتُ، إنه خالدٌ في (وحشة)، وروسيا الصمّاء ستستعيد القدرة على السماع، و تشيكوف لم يمت من السل، وإنّما قتله الأدب.

هل تزوجتُ (فاطمة)؟

لم أعدْ أذكر...


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى