الاثنين ٢١ شباط (فبراير) ٢٠٠٥
بقلم خلدون أحمد المختار

راحل إليك

راحل إليك
ترافقني سحب الظلام ,تنبض فوق شرفاتها النجوم…
راحل إليك…
شراعي الأسى وقلبي الدليل…
راحل إليك…
وتتراكض أمام عيني محطات العمر..

محطة بها درجنا ولفظنا الحروف إلا الراء..ومحطة بها لهونا مع العصافير وكل فراشة لعوب..ومحطة بها كدحنا لنملأ سلة الخبز..ومحطة أضنانا بها خفق الفساتين تزهو على الغيد الحسان..ومحطة بها فتحنا أعيننا على مشاعل الحرية تحملها اكف الرجال..
راحل إليك..
وتلوحين في عتمة الدنيا ربيعها الواعد,فيرتسم على محياك النرجس الولهان,ويستدير حول ثغرك الريان أحمرا لجوري . ثم يترامى من اردانك السكرى أريج القداح …

ولكم تمنيتك شمعة تطرد عن الروح شياطينها ووحشتها … وتمنيتك واحة ألوذ بنخلها الباسق من وهج الشموس … وأردتك ماء" أبل به شغف الريق إلى العذب النمير …

أردتك بيتا تعزف على سقفه الريح وزخات المطر في ليل شقائي بهيم … أردتك ملاذا يهبني السلام إذا ما اجتاحني القلق العين ،ويمنحني الدفْ إذا ما البرد أضناني ..ويطعمني لقمة الزاد بعد كدح النهار..
أردتك وطنا" تمخره السواقي جذلى بما جملت وروت ,وتأنس إليه جموح الطير ,وتستحم أغصانه بضباب من فضة ينثها قمر سهران..
أرتك الشاطئ الذي تتراقص أضواؤه في البعيد ،مبشرة" بالخلاص من صخب الأمواج وعاصف الريح..فيا أيتها التي لا أسمي،مدّي أناملا" لتضمها بالحنو كفّ يبستها برودة السلاح وغذاها بالنار قيظ الوطن …
أطلي بعينيك الرانيتين على بقايا العمر ومدّي اليّ إشعاعا" من الأمل الغض.

فلقد فكرت ليلة أمس فيما اكتب اليوم وعرفت أني آخذ الساعة بين أناملي ،وأن بين يديّ صحيفة" بيضاء تسود قليلا كلما أجريت القلم فيها ،ولكني لا أعلم هل يبلغ القلم مداه أو يكبو دون غايته..؟ وهل أستطيع أن أتمم رسالتي هذه ،أو يعترضني عارض من عوارض الدهر ؟لأني لا أعرف من شؤون الغد شيئا"،ولأن المستقبل بيد الله..

عرفت أني لبست أثوابي في الصباح ،وأني لا أزال ألبسها حتى الآن ،ولكني لا أعلم هل أخلعها بيدي أم تخلعها يد الغاسل ؟
فبالنسبة لي الغد شبح مبهم يتراءى للناظر من مكان بعيد ،فربما كان ملكا"رحيما"،وربما كان شيطانا" رجيما"،بل ربما كان سحابة سوداء إذا هبت عليها ريح باردة حللت أجزاءها ،وبعثرت ذراتها ،فأصبحت كأنما هي من عدم لم يسبق أن كان لها وجود.

وقفت متأملا" الغد فوجدته بحر خضم زاخر يرتفع موجه وتصطخب أمواجه ،فما يدريك إن كان يحمل في جوفه الدر والجوهر ،أو الموت الأحمر ..
لقد أصبح الغد في غموض عن العقول ، وصعب تشخيص الأنظار ،فأصبح الإنسان في حيرة ،أيضع قدمه عند خروجه من قصره على باب قصره أم على حافة قبره !!!!

فالغد صدر مملوء بالأسرار الغزار ،تحوم حوله البصائر ،وتتسقطه العقول ،وتستدرجه الأنظار ،فلا يبوح بسر من أسراره لأعز صديق له ،إلا إذا جاءت الصخرة بالماء الزلال..

تأملت الغد وهو كامن في مكمنه ،رابض في موضعه،متلفع بفضل أزراره،ينظر إلينا والى آمالنا وأمانينا نظرات الهزء والسخرية ويبتسم ابتسامات الاستخفاف والازدراء ،يحدث نفسه ويقول:
لو علم هذا الجامع أنه يجمع للوارث وهذا الباني أنه يبني للخراب ،وهذا الوالد أنه يلد للموت :ما جمع الجامع ولا بنى الباني ،ولا ولد الوالد.
كان الإنسان نشطا"فذلك كل عقبة في هذا العالم فأتخذ نفقا" في الأرض ، وصعد إلى السماء ، ومدّ الخيوط بين المشرق والمغرب بخيوط من حديد ونحاس، وانتقل بعقله إلى العالم العلوي،فعاش في كواكبه،وعرف أسرارها وسهولها وبطاحها ،وعامرها وغامرها،ورطبها ويابسها،ووضع المقاييس لمعرفة أبعاد النجوم ومسافات الأشعة ووضع أجهزة التصوير الدقيقة لمتابعتها لحظة بلحظة ،وغاص في البحار فعرف أعماقها وعرف من أسرارها وعبث في أعماقها وجمع من كنوزها وجواهرها…

وفعل كذا وكذا وفتح كل باب ولكنه سقط أمام باب الغد عاجزا"مقهورا"لا يجسر على قرعه ، لأنه باب الله ، والله لا يطلع على غيبه أحد.
فيا أيها الغد ،إن لنا آمالنا أين مكانها منك ؟وخبرنا عن أمانينا ماذا صنعت بها ، أأذللتها وتركتها ،أم كنت لها من المكرمين ؟

ولكن رجائي أن لا تكشف سرك في صدرك ،وأبق لثامك على وجهك،فأنت الحبيب الذي أحب منه سلامة قلبه وصفاء سريرته وصدقه ووفاءه في حالة بعده وقربه ،وغضبه وحلمه،وسخطه ورضاه،فأنت القمر الذي كنت أناجيه عندما تطل من علياء سمائه، وأنت العروس الحسناء التي تتشرف بها نافذة قصري،وهذه النجوم المبعثرة حواليك قلائد من جمان.

فيا غدي تصورتك ملك جالس فوق عرشه ،وأحيانا" مرآة" صافية"..وأحيانا"..

انك أنرت قلبي ونورت طريقي بسهلها ووعرها ،وعامرها وغامرها ،فهل لك أن تشرق في نفسي فتنير ظلمتها ،وتبدد ما أظلها من سحب الهموم والأحزان ؟

إن بيني وبينك عهودا"..أنت وحيد في سرك وأنا وحيد في أرضي كلانا يقطع أشواطه صامتا" هادئا"منكسرا" حزينا"،لا يلوى على أحد ،ولا يلوى أحد عليه ،وكلانا يناجي الآخر في جوف الليل..

أتذكر عندما حدثتني بهمس كيف بنى فلان في روضة من بساتينه الزاهرة قصرا"فخما" يتلألأ في تلك البقعة الخضراء تلألؤ الكوكب المنير في البقعة الزرقاء ،ويطاول بشرفاته الشماء أفلاك السماء،كأنه نسر محلق في الفضاء أو قرط معلق في أذن الجوزاء،وكأن شرفاته آذان تفضي إليها النجوم بالأسرار ،وطاقاته أبراج تنتقل فيها الشموس والأقمار.

ولم يدع ريشة لمصور ولا ليقه لرسام إلا أجراها في سقوفه وجدرانه وأركانه ليخيل إلى السالك بين أبهائه وحجراته ،ومحاريبه وعرصاته أنه ينتقل من روضة تزهو بالورود الحمراء ،والأنوار البيضاء ،إلى بادية تسنح فيها الذئاب الغبراء ،والنمور الرقطاء ،ومن ملعب تصيد فيه الظباء الأسود إلى غاب تصيد فيه الأسود الظباء،وأنشأ في كبرى ساحاته ،وأوسع باحاته :صهريجا" من المرمر مستديرا"يضم بين حاشيته نافورة ينفر الماء منها صعدا" كأنه سيف مجرد ،أو سهم مسدد ،فيخيل إلى الرائي أن الأرض تثأر لنفسها وتتقاضاها ما أراقت منها من الدماء ، تلك تقاتلها بالرجوم والشهب ،وغرس حول دائرة الصهريج دوائر من شجرات مؤلفات ومختلفات ،وأغصان صنوان وغير صنوان.

إذا رنحتها نسائم الأسحار ،رقصت فوق بساط الأزهار وتحت ظلال الأثمار،فغنت على رقصها الأطيار،غناء الأغاريد لأغناء الأوتار ،وجمع من الوسائد والمساند والعربات والطيور وجياد صافنات ،وخدم حسان تنتقل في الغرف والجنان.لكن في ليلة من ليالي الشتاء حالكة الظلام أفاق صاحب القصر من غشيته فتحلاك في سريره وفتح عينيه فلم ير أمامه غير خادمه((مؤمن)) كان قد رباه صغيرا"وكفله كبيرا" وكان يجمع بين فضيلتين :الذكاء والوفاء ،فأشار إليه الواله المتلهف أن يأتيه بجرعة ماء ،فجاء بها،فتساند على نفسه حتى شرب ،وكأن الماء قد حل عقدة لسانه…

فسأله:في أي ساعة من ساعات الليل نحن يا مؤنس ؟!
فأجابه:نحن في الثلث الأخير من الليل سيدي ، فقال :ألم تعد سيدتك الآن؟قال:لا .فأمتعض امتعاضا" شديدا" وزفر زفرة" كادت تخترق حجاب قلبه ، ثم أنشأ يتكلم كأنما يحدث نفسه ويقول :إنها تعلم أني مريض وأني في حالة إلى من يسهر بجانبي ويتعهد أمري… ثم ردد قائلا":
أين وفاؤها الذي كانت تزعمه وتقسم لي عليه ؟أين حبها الذي كانت تهتف به في صباحها ومسائها وبكورها وأصائلها.أين النعيم الذي كنت ألبها في أعطافه والعيش الرغد الذي كنت أرشفها كؤوسه ؟
منذ أن علمت أنني أصبحت بين حياة لا أرجوها وموت لا أجد السبيل إليه ، رمتني وأستثقلت ظلي واستبطأت أجلي واستطالت ضجعي ،فهي تفر من وجهي كل ليلة إلى حيث تجد لذات العيش ومواطن السرور ،وآه من الموت ما أبعده.

ما زال يحدث نفسه بمثل هذه الأحاديث ،حتى هاج ساكنا" واضطربت أعصابه ،فعاودته الحمى وغلى رأسه بنارها غليان القدر بملئها فسقط على فراشه ساعة تجرع فيها الموت جرعة مريرة بيد أنه لشقائه لم يأت على الجرعة الأخيرة منها.

أفاق من غشيته ثانية ،فلم ير بجانبه تلك التي تسيل نفسه حسرات عليها ،فسأل الخادم :ألا تعلم أين ذهبت سيدتك يا مؤنس ؟
قال :خير لك ألا تنتظرها يا مولاي ،وألا تلومها في بعدها عنك ،ثم مرر بجانب المرآة فلمح في رأسه شعرة بيضاء ،تلمع في تلك اللمة السوداء لمعان شرارة البرق في الليلة الظلماء.

فلما رأى الشعرة البيضاء في مفرقه تخيل إنها جرد القضاء على رأسه ، أو علم أبيض يحمل رسول جاء من عالم الغيب ينذره باقتراب الأجل ،أو يأس قاتل عرض دون الأمل ،أو جذوة نار علقت بأهداب حياته علوقها بالحطب الجزل ،ولا بد لها مهما ترفقت في مشيتها وتأنت في مسيرتها من أن تبلغ مداها ،أو خيط من خيوط الكفن الذي تنسجه يد الدهر وتعده لباسا" لجثته عندما تجردها من لباسها يد المغاسل.

بدأ يحدث نفسه :أيتها الشعرة البيضاء !!أما رأيت بياضا"أشبه بالسواد من بياضك؟ولا نورا" أقرب إلى الظلمة من نورك ،لقد أبغضت من أجلك كل بياض حتى بياض القمر وكل نور حتى نور البصر ،وأحببت فيك كل سواد حتى سواد الغربان وكل ظلام حتى ظلام الوجدان.

وما زال يحدث نفسه ويطلب العادة بين جوانب النفس الفاضلة ، وإلا فهو أشقى العالمين ،وان أحرز ذخائر الأرض وكرم السماء…
فكانت بين الأمنية والرجاء كلمات أخيرة ينطق بها :لا تحزني إنني راحل إليك فمنك ابتدأت واليك أعود.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى