الاثنين ٢٤ آب (أغسطس) ٢٠٠٩
بقلم مهند النابلسي

جنون العلماء ومخططات الساسة!

تخيل الروائي الفرنسي (بيير بول) في روايته الشهيرة (ألعاب العلماء) حكومة عالمية يقودها علماء فازوا بجائزة نوبل، حيث يسعى هؤلاء لتحقيق عالم أفضل خال من الأوبئة والمجاعات والفقر والبؤس!

فهل ينجح هذا العالم في صيغته الجديدة؟ كلا! فهناك كابوس جديد يهيمن على الناس يؤدي لزيادة حالات الانتحار بفعل الكآبة والضجر. فيبتكر العلماء ألعاب خطرة تنقل تلفزيونيا لأرجاء المعمورة، بهدف تسلية الناس وإثارتهم وإبعاد البؤس والكآبة والملل عنهم:

تبدأ هذه الألعاب بالمصارعة الحرة الشرسة، التي تفتقد لأية ضوابط وتنتهي بقتل المنتصر لخصمه بطريقة بالغة الوحشية والخشونة، ولا تفرق هذه المنازلات الوحشية بين الرجال والنساء، بل وتشجع دخول الجنسين، لما في ذلك من إثارة لغرائز القتل والجنس. وبعد حين، يضجر الناس من هذه المصارعات العنيفة، فننتقل إلى الجزء الثاني الذي يطرح مشاهد لفرق تتقاتل بالحراب مواجهة وهي تمتطي الجياد... كما في الأفلام التاريخية... ثم يسأم الناس من هذه اللعبة أيضا، فتتزايد حالات الانتحار وتنتشر...فيبتكر مجلس العلماء العالمي طريقة جديدة، تتخيل حربا مدمرة بين فريقين: ألفا وبيتا، تعيد عملية الهجوم (الشهيرة) على شاطئ النورماندي (الفرنسي) بصيغة جديدة، وتتولى فرق التصوير التلفزيونية مسؤولية رصد كافة دقائق هذه المعركة الرهيبة بين ألفا وبيتا والتي يجب أن تنتهي بانتصار فريق على الآخر!...هكذا تنقطع أنفاس الناس المتهيجين وهم يشاهدون على أجهزة تلفزتهم، مشاهد مثيرة لمعارك ضارية، تهدف لتركيز اهتماماتهم وتجديد وعيهم، ومنحهم "وجبة" من السعادة المؤقتة المزيفة!

السيناريو الأخير يتحدث عن معركة ضارية تدور بين البيولوجيين والفيزيائيين، متمثلين في الفريقين ألفا وبيتا، ويبدو للوهلة الأولى وكأن النصر حليف الفيزيائيين بفعل هجومهم الجوي الساحق، ثم يفاجئ البيولوجيون أعداءهم بضراوة السلاح البيولوجي الذي يتمثل بجرثومة الكوليرا القاتلة (للمفارقة فنحن نعاني الآن من أنفلونزا الخنازير!)، والتي تنتشر بسرعة وتبيد فريق الألفا بكامله...ولا يغفل المؤلف عن أدق التفاصيل:
ففريق البيتا يحافظ على جنوده، بواسطة مصل مضاد قوي المفعول... وبالطبع يعطى هذا المصل الفعال أيضا لأعضاء فريق التصوير (الحياديين) ليتمكنوا من إتمام نقل وقائع لعبة القتل المريعة هذه لكافة أنحاء كوكب الأرض!

...ولكن صوت محرك بعيد جعلهم يعدلون، ويرفعون أنوفهم نحو السماء، وسرعان ما ظهرت على الشاشة طائرة...طائرة واحدة، وهي الأخيرة لفريق الألفا (المهزوم)، وقد احتفظ بها في انجلترا بعيدا عن المعارك الكبرى...و كانوا مخطئين، فساده الذرة وامراء الطاقة، لم يكن بوسعهم قبول هزيمة مهنية كهذه...هكذا أبيد كل أفراد البيتا، كما أبيد أيضا باقي المحتضرين من فريق الألفا (علي وعلى أعدائي!)، ولسوء الحظ حرم مشاهدو التلفزيون من مشاهدة الإبادة النهائية، واستولى عليهم الخوف لحظة في أن تكون الصورة الأخيرة هي ذلك البريق الخاطف الذي تلا سقوط القنبلة لأن الشاشات انطفأت بعد ذلك! وهكذا يستمر بيير بول في سرد النهاية العنيفة لقصته المثيرة:انظر...انظر لقد انتحرنا، ورفع المهاجم الوحيد المتبقي ذراعيه، متوازيتين، نحو السماء، في تحية دولية ترمز في نفس الوقت إلى الانتصار النهائي! وذلك قبل أن ينهار ميتا بفعل تأثيرات الإشعاع النووي القاتلة (للمفارقة فان مطلق القنابل على هيروشيما وناجازاكي هرب ناجيا وصور إلقاء القنابل وعمر ليسرد غير نادما قصة الإطلاق ونجاحه في تدمير المدينتين!! كما أنه لم يعاني أبدا من عقدة الذنب!). ثم ينتقل لمشهد النهاية البالغ السخرية: فعندما استفسر العلماء من الفلكي عن سبب قناعته الكاملة بانتصار فريق الألفا، أجاب بثقة: كنت قد استشرت السماء..ولم يكن هناك أي شك ممكن..فقد كان الطالع الفلكي يؤكد انتصار الألفا! هكذا يستمر التنجيم ويهيمن حتى في عصر انتصار العلم وسيادته على العالم، ثم ألم يدعي جورج بوش أنه قد استشار "الرب" في حربه الغاشمة على العراق!

قد لا أبالغ لو قلت أن سيناريو لعبة العلماء قد بدأ بشكل ما على كوكبنا، فنحن نشهد مع انتهاء العقد الأول من القرن الحادي والعشرين عالما متحضرا استهلاكيا جشعا يحتوي على كافة أنواع الصراعات الدموية هنا وهناك، فنحن نشهد نظاما غريبا ماديا متطورا يميل لزرع الفوضى والتناقضات في أرجاء المعمورة بهدف الحفاظ على مكاسبه وسيادته المطلقة، وربما من حسن حظ البشرية انتهاء حكم بوش وقدوم أوباما، بعد أن عانت البشرية ثماني سنوات عجاف من الغطرسة والعدوان والظلم والغباء وانتهت بتسونامي مالي عالمي قاد ويقود للإفلاس والتخبط والبطالة! ولو أن هذا الأخير يبدو مكبلا ولا يستطيع التصرف بحرية في بعض الملفات ومنها الشرق الأوسط وإيران!

ثم إن هناك ما يسمى المفارقة "الشرق أوسطية" فإسرائيل تملك أكثر من مئة رأس نووي وهي كافية لتدمير العالم العربي برمته، والطرف الآخر (العرب وإيران...الخ) ممنوع أن يملك الأسلحة الذرية والفتاكة، هكذا يحرص الغرب على تجريد طرف من كافة إمكانات الردع ويزود الطرف المتغطرس المعتدي بكافة وسائل التدمير والقتل (ألم نشاهد ذلك في حربي لبنان وغزة!)، معادلة غير متوازنة! يقصد منها تمهيد المجال للهيمنة السياسية والاقتصادية على منطقة إستراتيجية غنية بالطاقة والموارد، ويبدو الأمر برمته وكأنه تكملة للحملة الصليبية الفاشلة وحرب ضارية بأدوات عصرية ضد الثقافة الإسلامية العربية!

هكذا يتجاوز دهاء الساسة والمخططين عبقرية العلماء في "ألعاب العلماء"، فيتم الإخلال بالتوازن الاستراتيجي بالمنطقة بحجة المحافظة على إسرائيل وتجنب تكرار أكذوبة المحرقة المزعومة، وربما تكون إسرائيل هي الدولة الوحيدة عالميا التي يجمع نظامها ما بين العلم والخرافة والميثولوجيا في خلطة شيطانية متماسكة ومرعبة! (بل ومقبولة من الغرب العلماني المنافق).

من سوء حظ هذه الرواية أن كتبها فرنسي وإلا لقدمتها هوليوود في شريط سينمائي مبهر مليء بالمؤثرات والاستعراض، وربما كان ذلك من حسن حظها لأن تحويلها لعمل استعراضي مبهر ربما كان سيفقدها النكهة الفكرية والإبداع الأدبي وسيحولها لمنتج استهلاكي سطحي، والحق أن "جنون العلماء" هو العنوان الأكثر ملائمة لهذه الرواية!

وربما نخلص بنتيجة مفادها أن العلم وحده لا يكفي وأن سيادة العقل والعدل والإنسانية والتسامح الديني وتقبل الثقافات الأخرى والحكمة هي القادرة على قيادة عالمنا لبر الأمان وللمستقبل البشري الواعد بعيدا عن الغطرسة والعنصرية والاستعلاء والعدوان الغاشم. "ومن أوتي الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا".


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى