السبت ٢٩ آب (أغسطس) ٢٠٠٩
بقلم محمد جمال صقر

الشُّعَراءُ وَالنَّحْويّونَ

الخلاف بين الشعراء والنحويين (علماء النحو) قديم مستمر: يُخَطِّئُ النحويون أقوال الشعراء، ويُسَفِّهُ الشعراء أحلام النحويين، والغاوون مذبذبون بين هؤلاء وهؤلاء!

ولا يعرف الشوق إلا من يكابده!

وقد كابدت بحياتي طلب الشعر والنحو، وطلب علمي الشعر والنحو ؛ فلا أحكم هنا إلا بما عانيت، في مسألة مطروحة دائما وكأن طرحها فرض كفاية على مثقفي كل زمان ومكان ؛ وهل أشرف مما نقوم جميعا فيه الآن من زمان ومكان!
ولقد خطرت لي في هذه المسألة، أفكار أربع، يمكنني بها أنا وأنتم أن نتجاذب أطرافها ؛ عسى أن نركن من فهمها إلى ركن وثيق:

• الشِّعْرُ وَالنَّحْوُ:
- حقيقةُ وجود كل منهما في الكلام، وما يجتمعان عليه، وما يفترقان فيه.
• عِلْمُ الشِّعْرِ وَعِلْمُ النَّحْوِ:
- منهجُ البحث عن حقيقة كل منهما، المفضي إلى نظريات ضابطة.
• الشّاعِرُ وَالْفَصيحُ:
- حقيقةُ وجود كل منهما في المتكلمين، وما يجتمعان عليه، وما يفترقان فيه.
• عالِمُ الشِّعْرِ وَعالِمُ النَّحْوِ:
- حقيقةُ وجود كل منهما في الباحثين، وما يجتمعان عليه، وما يفترقان فيه.
إننا إذا تأملنا كل فكرة من هذه الأفكار حق تأملها، واتفقنا في نقدها على قول فصل - وضعنا علاقةَ بَيْنِ الشعراء والنحويين (علماء النحو)، في موضعها الصحيح ؛ فعَرَفَ كلٌّ حَدَّه، فَوَقَفَ عِنْدَه!

1
حدثنا أبو تميم عبد الحميد بسيوني وكان مستشار جابر الصباح أمير الكويت الأسبق، أنه شهد مجلس أستاذنا محمود محمد شاكر، وقد أقبل محمود حسن إسماعيل - وكلهم معاصرون ماتوا في أثناء هذا القرن الهجري الخامس عشر ؛ رحمهم الله جميعا رحمة واسعة، ولم يَفْتنّا بعدهم، ولم يحرمنا أجرهم! - ينشد من شعره المجلسَ الجليل، وفيه الحسّاني حسن عبد الله - عفا الله عنه! - يَتَسَقَّطُ له، حتى لَقَطَ شيئا صاح به عليه ؛ فغضب محمود حسن إسماعيل.
قال أبو تميم: فلما كان المجلس التالي، بَدَرَ إسماعيلُ بقصيدته من الشعر الحر " الوَهَجُ وَالدّيدانُ "، يقول:

" تَفْعيلَتانْ
ثَلاثُ تَفْعيلاتْ
وَسَبْعُ تَفْعيلاتْ
وَأَحْرُفٌ تُعانِقُ الْأَلْحانَ بِالْأَحْضانِ وَالرّاحاتْ
تُدَفِّقُ النّورَ عَلى حَفائِرِ الْأَمْواتْ
شَلّالَ موسيقا بِلا قَواعِدٍ مَرْسومَةِ الرَّنّاتْ
مَعْصومَةِ الْإيقاعِ دونَ حاسِبٍ مُزَيَّفِ الْميقاتْ
يَعُدُّها مِنْ قَبْلِ أَنْ تَجيءَ بِالْأَسْبابِ وَالْأَوْتادِ وَالشَّطْراتْ
تَشُقُّ بابَ الرّوحِ لا تَسْتَأْذِنُ الْإِصْغاءَ وَالْإِنْصاتْ
وَلَيْسَ في إِعْصارِها سَبّابَةٌ تُعَذِّبُ الْهالاتْ
وَلا فُضولُ الْمَوْتِ وَهْوَ يَسْأَلُ الْحَياةَ عَنْ تَوَهُّجِ السّاحاتْ
وَلا فُضولُ اللَّيْلِ وَهْوَ يَسْأَلُ الْفَجْرَ لِماذا تَنْسَخُ الرُّفاتْ
ضَجَّ الْبِلى مِنْ صَيْحَةِ الْإِشْراقِ في تَشَبُّثِ الْمَواتْ
وَانْتَفَضَتْ هَياكِلٌ مَرْصوفَةُ الطُّقوسِ مِنْ تَناسُقِ الْأَشْتاتْ
وَكُلُّ ما فيها قَرابينُ تُقَدِّسُ الرِّمامَ في كُلِّ حَصادٍ ماتْ
مَصْلوبَةُ الْجُمودِ وَالرُّكودِ وَالْهُمودِ وَالسُّباتْ
عَلى مَطايا زَمَنٍ مُهَرَّأِ الْأَكْفاتْ
تَحَرَّكَتْ في غَبَشِ الْكُهوفْ
جَنائِزًا في لَحْدِها تَطوفْ
مَشْلولَةَ الْمَسيرِ وَالْحِراكِ وَالْوُقوفْ
كَأَنَّها لِتُرَّهاتِ أَمْسِها رُفوفْ
أَوْ أَنَّها لِكُلِّ نورٍ شَعَّ في زَمانِها حُتوفْ
تُريدُ شَلَّ الْوَهَجِ الْعَصوفْ
بِأَعْيُنٍ ضِياؤُها مَكْفوفْ
وَأَلْسُنٍ نِداؤُها مَعْقوفْ
تَهاتَرَتْ مَخْدورَةً مِنْ سَمْتَةِ الْعُكوفْ
وَراعَها تَمَزُّقُ السُّجوفْ
وَخَيْبَةُ التَّكْرارِ وَالدُّوارِ في الْقيعانْ
فَأَنْشَبَتْ هُذاءَها في الْقَشِّ وَالْعيدانْ
وَالْحَبُّ عَنْ عَمائِها مُغَلَّفٌ نَشْوانْ
وَوَعْيُها مِنْ غَشْيَةٍ غَفْلانْ
وَطَرْفُها مِنْ عَشْيَةٍ ظَمْآنْ
لِكُلِّ ما لَمْ يَبْقَ فيهِ قَبَسٌ لِخُطْوَةِ الْإِنْسانْ
سُبْحانَ رَبِّ النّورِ مِنْ تَحَرُّكِ الْأَكْفانْ
سُبْحانَهُ سُبْحانْ
مَنْ أَيْقَظَ الدّيدانْ
أَنْغامُ هذا الطَّيْرِ ما لَقَّنَها بُسْتانْ
وَلا حَداها حارِسٌ يَقْظانْ
وَلا بِغَيْرِ ما تَجيشُ نارُها تَحَرَّكَتْ بَنانْ
مِنْ ذاتِها وَوَحْيِها رَحيقُها الصَّدْيانْ
الرّافِضُ الْإيماءَ لِلْوَراءِ يَمْتَصُّ خُطا الرُّكْبانْ
الرّافِضُ الْقِياسَ في الصَّدى وَفي الْمَدى وَفي اللِّسانْ
وَفي هَوى التَّنْغيمِ وَالتَّفْخيمِ وَالتَّرْنيمِ وَالْإِرْنانْ
تَدَفَّقَتْ لا تَعْرِفُ التَّطْريزَ في تَوَهُّجِ الْأَلْحانْ
وَلا خِداعَ السَّمْعِ في تَبَرُّجِ الْحُروفِ لِلْآذانْ
وَلا لِخَطْوِ اللَّحْنِ قَبْلَ سَكْبِهِ مِنْ نايِها ميزانْ
أَسْكَرَها خالِقُها قَبْلَ انْبِثاقِ اللَّحْنِ بِالْأَوْزانْ
تَحَرَّرَتْ فَما بِها لِلْقالَبِ الْمَصْبوبِ قَبْلَ كَأْسِها إِذْعانْ
زَخارِفٌ مَطارِفٌ مَتاحِفٌ لِقِشْرَةِ الْأَكْوانْ
قَواقِعٌ بَراقِعٌ بَدائِعٌ زَيّافَةُ الْأَلْوانْ
جَلَّ عَزيفُ النّايِ أَنْ يَقودَهُ إِنْسانْ
وَجَلَّ روحُ الْفَنِّ عَنْ تَناسُخِ الْأَبْدانْ
فَالشِّعْرُ شَيْءٌ فَوْقَ ما يَصْطَرِعُ الْجيلانْ
روحٌ تَرُجُّ الرّوحَ كَالْإِعْصارِ في الْبُسْتانْ
بِزَفِّها وَحَرْفِها وَنورِها الْمُمَوْسَقِ النَّشْوانْ
وَخَمْرِها الْمَعْصورَةِ الرَّحيقِ مِنْ تَهادُلِ الْأَزْمانْ
لِكُلِّ جيلٍ كَأْسُه لا تَفْرِضُوا الدِّنانْ
مَلَّ النَّدامى حَوْلَكُمْ عِبادَةَ الْأَكْفانْ
فَجَدِّدوا أَرْواحَكُمْ لا تَظْلِمُوا الْميزانْ
فَالشِّعْرُ لَحْنٌ مِنْ يَدِ الرَّحْمنْ
سُبْحانَهُ سُبْحانْ

مُلْهِي النُّسورِ عَنْ خُطَا الدّيدانْ ". (ديوانه)
ومن تأمل هذه التعبيرات حق تأملها: " حاسِبٍ مُزَيَّفِ الْميقاتْ "، " سَبّابَةٌ تُعَذِّبُ الْهالاتْ "، " فُضولُ الْمَوْتِ "، " فُضولُ اللَّيْلِ "، " تَشَبُّثُ الْمَواتْ "، " تَناسُقِ الْأَشْتاتْ "، " تَحَرُّكِ الْأَكْفانْ "، " تَناسُخِ الْأَبْدانْ "، " عِبادَةَ الْأَكْفانْ "، " خُطا الدّيدانْ " - رأى كيف عَرّاهُ للملأ، ثم سَلَحَ عليه! بل كيف زَلْزَلَه، وأَضَلَّه عن نفسه، ثم تركه في بَيْداء! فأَيَّةُ مَذَمَّةٍ لم يَصُبَّها عليه! وأَيَّةُ مَحْمَدَةٍ لم يَسْلُبْها منه!
فتُرى كيف اختلفا اختلافا شديدا وكان ينبغي أن يأتلفا، حتى إذا أخطأ إسماعيل خَطَأً انْتَهَزَه الحَسّانيُّ نُهْزَةً باردةً؟ وماذا كان ذلك الخطأ ولا مَصْلَحَةَ في التَّشْنيعِ به، حتى أَكْمَدَه عليه هذا الكَمَدَ، واستعداه هذه العَداوة؟

قال المظفر العلوي المتوفى سنة 656 الهجرية: " يَنْبَغي لِلشّاعِرِ أَلّا يُعادِيَ أَهْلَ الْعِلْمِ، وَلا يَتَّخِذَهُمْ خُصومًا ؛ فَإِنَّهُمْ قادِرونَ عَلى أَنْ يَجْعَلوا إِحْسانَه إِساءَةً، وَبَلاغَتَه عيًّا، وَفَصاحَتَه حَصَرًا، وَيُحيلوا مَعْناهُ، وَيَنْتَقِضوا ما بَناهُ! فَكَمْ مِنْ أَديبٍ أَسْقَطَ أَهْلُ الْعِلْمِ حُكْمَ أَدَبِه، وَأَخْمَلوا مِنْ ذِكْرِه ما تَنَبَّلَ بِه! وَلَوْ عَدَدْناهُمْ لَأَفْرَدْنا لَهُمْ كِتابًا! وَلِلّهِ عَمّارٌ الْكَلْبيُّ حَيْثُ يَقولُ:

ماذا لَقيتُ مِنَ الْمُسْتَعْرِبينَ وَمِنْ قِياسِ نَحْوِهِم هذَا الَّذِي ابْتَدَعوا
إِنْ قُلْتُ قافِيَةً بِكْرًا يَكونُ بها بَيْتٌ خِلافَ الَّذي قاسوهُ أَوْ ذَرَعوا
قالوا لَحَنْتَ وَهذا لَيْسَ مُنتَصِبًا وَذاكَ خَفْضٌ وَهذا لَيْسَ يَرْتَفِع
وَحَرَّضوا بَيْنَ عَبْدِ اللّهِ مِنْ حُمُقٍ وَبَيْنَ زَيْدٍ فَطالَ الضَّرْبُ وَالْوَجَعُ
كَمْ بيْنَ قَوْمٍ قَدِ احْتالوا لِمَنْطقِهِمْ وَبَيْنَ قَوْمٍ عَلى إِعْرابِهِمْ طُبِعوا
ما كُلُّ قَوْلِيَ مَشْروحًا لَكُمْ فَخُذوا ما تَعْرِفونَ وَما لَمْ تَعْرِفوا فَدَعوا
لِأَنَّ أَرْضِيَ أَرْضٌ لا تُشَبُّ بِها نارُ الْمَجوسِ وَلا تُبْنى بِهَا الْبِيَع

وَلَعَلَّ أَهْلَ الْعِلْمِ يَأْتونَ إِلَى الْمَعانِي الْمُسْتَحيلَةِ وَالْأَلْفاظِ الْمُخْتلَّةِ، فَيُقَوِّمونَ أَوَدَها بِعِلَلِهِمْ، وَيُصْلِحونَ فاسِدَها بِمَعْرِفَتِهِمْ ؛ وَمَنْ هذِه سَبيلُه فَما يَحْسُنُ أَنْ يُغْضَبَ وَلا يُقْشَبَ ؛ فَرُبَّ داهِيَةٍ وَقَعَ عَلى مَنْ هُوَ أَدْهى مِنْهُ ".
(نضرة الإغريض)

ولو قد حضر المظفر العلوي مجلس أستاذنا ذاك، لعرف كيف يَقْدِرُ الشعراء من النَّحْويّين (علماء النحو) على أكثر من ذلك، ولَعَطَفَهُمْ عليهم بإغرائهم بخِدْمَتِهِمْ لهم كما فعل أخيرًا ببعض كلامه، لا بتَهْديدِهم وهم المُمْتَلِئون بأنفسهم، بأن يَهْتِكَ النَّحْويّونَ أستارَهم ظُلْمًا وعُدْوانًا ويَفْضَحوا أسرارَهم بَغْيًا وبُهْتانًا! ثم العجبُ له يستشهد بشعر عمارٍ ينعى فيه على النَّحْويّينَ (علماء النحو) تَعْنيتَهم له، من غير استكانة لهم ولا إقرار بسلطانهم! أم تُراه يُخَوِّفُ الشعراء بالكَمَدِ الذي وَجَدَه عَمّارٌ، من حيث كان السعيدَ منهم من وُعِظَ بأخي صَنْعَتِه - حتى يُقْرّوا ويَسْتَكينوا!
لقد كان ينبغي للمظفر العلوي، أن يشتغل بجوامع ما بين طائفتي الشعراء والنَّحْويّينَ (علماء النحو) تَرْغيبًا ومُؤالَفَةً وإِصْلاحًا، أكثرَ منِ اشتغاله بفوارق ما بينهما تَرْهيبًا ومُخالَفَةً وإِفْسادًا!

2

مَثَلُ اللغة المعينة مَثَلُ بنيان الإنسان المعين، ومَثَلُ شِعْرِ اللغة المعينة مَثَلُ بنيان إنسانٍ وُلِدَ من ذلك البنيان السابق، ومَثَلُ نَحْوِ اللغة المعينة مَثَلُ جِهازٍ مُعَيَّنٍ في البنيان السابقِ الوالد مُسْتَمِرٍّ إلى البنيان اللاحقِ المولود.

ومَنْ تَأَمَّلَ بُنيانَ الشعر وَجَدَ بُنيانَ اللغة: جِهازَ أَصْواتِها وَمَقاطِعِها الصَّوْتية ومعانيها، وجِهازَ صِيَغِها الصَّرْفية ومعانيها، وجِهازَ مفرداتها المُعْجَميّة ومعانيها، وجِهازَ تَراكيبها النَّحْويَّة ومعانيها - ورأى كيف تمتزج في الجهاز الواحد مبانيه ومعانيه، وفي البنيان الواحد أجهزتُه كلُّها - امتزاجَ الأشباح والأرواح، لِتُؤَدِّي رسالةً واحدة لا تُؤَدّى إلا بذلك امْتِزاجًا فامْتِزاجًا، مثلما يُؤَدّي عَمَلَه الإنسانُ نفسُه صاحبُ هذه اللغة ؛ وكُلُّ عَمَلٍ مُوَفَّقٍ يعمله الإنسان - واللغة عَمَلُه الفَذُّ - ففيه طَبيعَتُه البُنْيانيَّة ؛ " لَعَنَ اللّهُ مَنْ هَدَمَ بُنْيانَه "!

وإذا جمعنا تُراثَ لغة ما، استطعنا أن نميز الشعر منه، لأنه جزء محدد - ولم نستطع أن نميز النحو، لأنه عنصر مُتَأَصِّلٌ في مُرَكِّب هذا التراث كله ؛ ومن ثم يعمل النحوُ في بُنْيان الشعر وغيره من البُنْيانات اللغوية المولودة، ويَتَكَوَّنُ بُنْيانُ الشعر من جهاز النحو وغيره من الأجهزة اللغوية المستمرة ؛ فبين الشعر والنحو عُمومٌ وخُصوصٌ مُطْلَقانِ!

3

وكذلك نستطيع أن نميز بالعموم والخصوص المطلقين، الشاعرَ والفَصيحَ بعضَهما من بعض ؛ فأولهما المشتغل بإنتاج الشعر، والآخر المشتغل بإنتاج النحو، والشاعرُ يجب أن يكون فَصيحًا، أي أن يستعمل جهاز النحو من اللغة التي يقول فيها شعره، والفَصيحُ يجوز أن يكون شاعرًا، وأن يكون غير شاعر، ولكن يجب أن يكون أيَّهما، ليقول من اللغة ما يستعمل فيه جهاز نحوها.

وإنما يكون الشاعرُ والفَصيحُ - ويَبْرَعان، ويَفْرَعان - بمَلَكَةٍ فَنّيَّةٍ يستوعب بها كل منهما تُراثَه على منهج من مناهج الارتياح الإيحائي، سَعْيًا إلى مَيْلٍ وُجْداني من مُيول التَّرْجيحات الذَّوْقيّة - ويجري مجراه اتِّباعًا فابْتِداعًا ؛ فتتحول مَلَكَتُه الفنّيَّةُ من مرحلة الاستعداد، إلى مرحلة القدرة، حتى مرحلة المهارة، أي من مرحلةٍ يُتْقِنُ فيها عمله واعيا أنه يتقن أو يحاول الإتقان، حتى مرحلةٍ يتقن فيها عمله غافلا عن أنه يتقن أو يحاول الإتقان!

كلامُ الحق - سبحانه، وتعالى! - ورسولِه - صلى الله عليه، وسلم! - وصحابتِه - رضي الله عنهم! - ثم كلامُ سحبانِ وائلٍ وقُسِّ بن ساعدة وأكثمَ بن صيفيٍّ وغيرِهم، ثم كلامُ الشافعي والجاحظ وعبد الحميد وابن المقفع والأصفهاني والتوحيدي وغيرِهم، ثم كلامُ الطبري وعبد القاهر الجرجاني والمعري وغيرِهم، ثم كلامُ ابن خلدون وابن تيمية وابن القيم والقاضي الفاضل والصفدي وغيرِهم، ثم كلامُ الجبرتي والسبكي وابن عبد الوهاب وغيرِهم، ثم كلامُ المنفلوطي والعقاد والمازني وسيد قطب والرافعي ومحمود شاكر وحمد الجاسر والطنطاوي والبهبيتي وغيرِهم، ثم كلامُ المسعودي ويحيى حقي وعبد الحليم عبد الله ونجيب محفوظ ويوسف إدريس وفتحي غانم ومصطفى محمود وزكريا تامر وعبد الرحمن منيف وعلي أبو المكارم وغيرِهم!

وكلامُ شعراء المعلقات والمفضليات والأصمعيات والحماسات والجمهرات وغيرِهم، ثم كلامُ شعراءِ رسول الله - صلى الله عليه، وسلم! - وشعراءِ صحابتِه، ثم كلامُ جرير والفرزدق والأخطل والكميت وغيرِهم، ثم كلامُ أبي العتاهية وصالح بن عبد القدوس وبشار وأبي نواس وغيرِهم، ثم كلامُ ديك الجن وعلي بن الجهم وأبي تمام والبحتري والعَكَوَّك وابن الرومي والمتنبي وأبي فراس والمعري وغيرِهم، ثم كلامُ التطيلي وابن خفاجة وابن سهل وغيرهم، ثم كلامُ ابن حمديسَ والبهاء زهير وابن سناء الملك وغيرِهم، ثم كلام ابن غنام وابن عثيمين والساعاتي وغيرِهم، ثم كلام البهلاني وأحمد شوقي وحافظ إبراهيم والزبيري وغيرِهم، ثم كلام الشابي وإبراهيم ناجي وعلي طه ومحمود إسماعيل ومحمود شاكر وحمزة شحاتة والنجفي والجواهري وغيرهم، ثم كلام عمر أبو ريشة والسياب ونازك وأمل دنقل ومحمود درويش ومحمد الفيتوري وحسن قرشي ومهران السيد وعبد اللطيف عبد الحليم وغيرِهم.

مادة بعضها من بعض، وبعضها يدل على بعض مشهورًا ومغمورًا، لا يرضى إلا أن يُحْشَر معه - ينبغي لكلٍّ من طالِبَيِ الشعر والفَصاحَةِ العَرَبيَّيْنِ، أن يبحث عنها، ويستوعبها، ويتحقق بها، ويلهج بذكرها ؛ فيلتبس بها ظاهرا وباطنا، حتى يقَلِّدها عفوًا، أو يتَناساها قصدا! فإن قلدها انضاف إلى مذهب أصحابها، وإن تناساها انطلق إلى مَذْهَبٍ ينفرد به حتى ينضاف إليه فيه غيرُه!

4

ونستطيع أن نميز بالعموم والخصوص المطلقين كذلك، عالمَ الشعر والنحويَّ (عالمَ النحو) بعضهما من بعض ؛ فأولهما المشتغل بالبحث عن حقيقة وجود الشعر ضَبْطًا لنظرياته، والآخر المشتغل بالبحث عن حقيقة وجود النحو ضَبْطًا لنظرياته، وعالم الشعر لا يستغني عن علم النحو، والنحويُّ (عالم النحو) لا يكتمل إلا بعلم الشعر.

وإنما يكون عالمُ الشعر والنحويُّ (عالم النحو) - ويَبْرَعان، ويَفْرَعان - بمَلَكَةٍ عِلْميَّةٍ يستوعب بها كل منهما تراثَه العلميَّ على منهج من مناهج التأمل الظاهرية أو الباطنية، سَعْيًا إلى نظرية ضابطة من نظريات ترتيب المقدمات والنتائج - ويجري مجراه كذلك اتِّباعًا فابْتِداعًا ؛ فتتحول مَلَكَتُه العِلْميَّةُ كذلك من مرحلة الاستعداد، إلى مرحلة القدرة، حتى مرحلة المهارة.

كتبُ البيان والتبيين والحيوان والأغاني وغيرِها، ثم كتبُ الصناعتين والوساطة وأسرار البلاغة ودلائل الإعجاز وشرح الحماسة وشرح ديوان المتنبي وغيرِها، ثم كتبُ العمدة والموازنة وعيار الشعر والمثل السائر ومنهاج البلغاء وغيرِها، ثم كتبُ الديوان وفي الميزان الجديد ورسالة في الطريق إلى ثقافتنا ونمط صعب ونمط مخيف وأباطيل وأسمار والنقد الأدبي الحديث وغيرِها، ثم كتبُ قراءة الشعر والصورة في الشعر العربي والرمز والرمزية في الشعر المعاصر وواقع القصيدة العربية وحركة الشعر الحديث في سورية وعن بناء القصيدة العربية الحديثة وتشريح النص وغيرِها!

وكتبُ الكتاب والمقتضب ومعاني القرآن والأصول وشرح القصائد السبع الطوال الجاهليات وشرح المفضليات وغيرِها، ثم كتبُ الخصائص وسر صناعة الإعراب والمقرب والبحر المحيط وغيرِها، ثم كتبُ الأمالي وشرح المفصل وشرح الكافية وخزانة الأدب ونتائج الفكر وغيرِها، ثم كتبُ الاقتراح وهمع الهوامع والألفية وشرح الأشموني وحاشية الصبان وحاشية الشهاب وشرح بانت سعاد والمغني وغيرِها، ثم كتبُ النحو الوافي واللغة العربية معناها ومبناها والبيان في روائع القرآن وخصائص الأسلوب في الشوقيات وبناء الجملة العربية والنحو والدلالة والجملة في الشعر العربي ومدخل إلى دراسة الجملة العربية ونظام الجملة في شعر المعلقات وغيرِها!

مادة بعضها من بعض كذلك، وبعضها يدل على بعض مشهورًا ومغمورًا، لا يرضى إلا أن يُحْشَر معه - ينبغي لكلٍّ من طالِبَيْ علم الشعر وعلم النحو العربيين، أن يبحث عنها، ويستوعبها، ويتحقق بها، ويلهج بذكرها ؛ فيلتبس بها ظاهرا وباطنا، حتى يقَلِّدها عفوًا، أو يتَناساها قصدا! فإن قلدها انضاف إلى مذهب أصحابها، وإن تناساها انطلق إلى مَذْهَبٍ ينفرد به حتى ينضاف إليه فيه غيرُه!

5

بهؤلاء جميعا وأمثالهم على مسيرة التاريخ الثقافي، تكون فنونُ اللغة وعلومُها دائما، وتحيا حياة طيبة، ثم على آثارهم يسعى غيرُهم من أصحاب اللغة، إِكْبارًا لهم، ووُثوقًا بهم، ولا يقبلون فيهم لَوْمَةَ لائِمٍ!

وأنى لهم أن يُخْطِئوا مَرامِيَهُمْ اللغوية بأعمالهم على أيِّ وجه كان الخطأ، فيُليموا وهم الموهوبون المُوَفَّقون إلى تثقيف مواهبهم، المشتغلون دائما بأعمالهم، المُتَطَوِّرون من حال إلى أحسن منها!

ولكننا نتكلم من ذلك في مسألة خطأ الشاعر والفصيح ؛ فخطأُ عالم الشعر ربما ينبني على خطأ الشاعر نفسه، وخطأُ النحوي (عالم النحو) ربما ينبني على خطأ الشاعر والفصيح كليهما! بل نستطيع أن نكتفي من هذا بالكلام في خطأ الشاعر ؛ فالفصيحُ نفسه ربما يكون هو الشاعر نفسه، كما شرحت فيما سبق!

6

لقد رأى بعض العلماء المعاصرين أن الشاعر يخطئ أحيانا مَرْماه اللغوي، وأن خطأه حَدَثٌ واقعي، يدل على غفلة تفكيرية بأثر اضطراب أو شرود أو جهل. وأبى ذلك غيرُهم من المعاصرين، بأنَّ خطأه وَجْهٌ مُهْمَلٌ من الصواب، يَدُلُّ على خَطْرَةٍ فكرية طارئة لم تتمكن من العادات الجماعية بعد!

وليس المذهبان بجديدين ؛ فلقد كان عبد الله بن أبي إسحاق المتوفى سنة 117هـ - وهو وابنه زيد هما المذكوران في شعر عمّار السابق ذكره - وتلميذُه عيسى بن عمر المتوفى سنة 149هـ، وأبو عمرو بن العلاء المتوفى سنة 154هـ، وتلميذُه يونس بن حبيب المتوفى سنة 182هـ - كلُّهم من أئمة النحويين (علماء النحو)، وكان الأَوَّلانِ أَمْيَلَ إلى تخطئة الشاعر إذا خالف القاعدة، وكان الآخِران أَمْيَلَ إلى تصويبه واعتماد ما خالفهما فيه والقياس عليه. ولقد دَرَجَ البصريون مَدْرَجَ الأَوَّلَيْنِ، ودَرَجَ الكوفيون مَدْرَجَ الآخِرَيْنِ ؛ " وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلّيها "!

قال القاضي الجرجاني المتوفى سنة 392هـ: " دونَكَ هذِهِ الدَّواوينَ الْجاهِليَّةَ وَالْإِسْلاميَّةَ ؛ فَانْظُرْ: هَلْ تَجِدُ فيها قَصيدَةً تَسْلَمُ مِنْ بَيْتٍ أَوْ أَكْثَرَ لا يُمْكِنُ لِعائِبٍ الْقَدْحُ فيهِ، إِمّا في لَفْظِه وَنَظْمِه، أَوْ تَرْتيبِه وَتَقْسيمِه، أَوْ مَعْناهُ، أَوْ إِعْرابِه؟ وَلَوْلا أَنَّ أَهْلَ الْجاهِليَّةِ جُدّوا بِالتَّقَدُّمِ، وَاعْتَقَدَ النّاسُ فيهِمْ أَنَّهُمُ الْقُدْوَةُ وَالْأَعْلامُ وَالْحُجَّةُ - لَوَجَدْتَ كَثيرًا مِنْ أَشْعارِهِمْ مَعيبَةً مُسْتَرْذَلَةً، وَمَرْدودَةً مَنْفيَّةً! لكِنَّ هذَا الظَّنَّ الْجَميلَ وَالِاعْتِقادَ الْحَسَنَ، سَتَرَ عَلَيْهِمْ، وَنَفَى الظِّنَّةَ عَنْهُمْ ؛ فَذَهَبَتِ الْخَواطِرُ فِي الذَّبِّ عَنْهُمْ كُلَّ مَذْهَبٍ، وَقامَتْ في الِاحْتِجاجِ لَهُمْ كُلَّ مَقامٍ! وَما أَراكَ - أَدامَ اللّهُ تَوْفيقَكَ! - إِذا سَمِعْتَ قَوْلَ امْرِئِ الْقَيْسِ:

يا راكِبًا بَلِّغَ إِخْوانَنا مَنْ كانَ مِنْ كِندَةَ أَوْ وائِل
فَنَصَبَ بَلِّغْ - وَقَوْلَه:
فَالْيَوْمَ أَشْرَبْ غَيْرَ مُسْتَحقِبٍ إثْمًا مِنَ اللّهِ وَلا واغِل
فَسَكَّنَ أَشْرَبُ - وَقَوْلَه:
لَها مَتْنَتانِ خَظاتا كَما أَكَبَّ عَلى ساعِدَيْهِ النَّمِرْ
فَأَسْقَطَ النّونَ مِنْ خَظاتانِ لِغَيْرِ إِضافَةٍ ظاهِرَةٍ - وَقَوْلَ لَبيدٍ:
تَرّاكُ أَمْكِنَةٍ إِذا لَمْ أَرْضَها أَوْ يَرْتَبِطْ بَعْضَ النُّفوسِ حِمامُها
فَسَكَّنَ يَرْتَبِطَ وَلا عَمَلَ فيهِ لِلَمْ - وَقَوْلَ طَرَفَةَ:
قَدْ رُفِعَ الفَخُّ فَماذا تَحْذَري
فَحَذَفَ النّونَ - وَقَوْلَ الْأَسَديِّ:
كُنّا نُرَقِّعْها وَقَدْ مُزِّقت وَاتَّسَعَ الْخَرْقُ عَلَى الرّاقِع
فَسَكَّنَ نُرَقِّعُها - وَقَوْلَ الْآخَرِ:
تَأْبى قُضاعَةُ أَنْ تَعْرِفْ لَكُمْ نَسَبًا وَابْنا نِزارٍ وَأَنْتُمْ بَيْضَةُ الْبَلَد
فَسَكَّنَ تَعْرِفَ - وَقَوْلَ الْآخَرِ:
يا عَجَبًا وَالدَّهْرُ جَمٌّ عَجَبُهْ
مِنْ عَنَزيٍّ سَبَّني لَمْ أَضْرِبُهْ
فَرَفَعَ أَضْرِبْهُ - وَقَوْلَ الْفَرَزْدَقِ:
وَعَضُّ زَمانٍ يَا ابْنَ مَرْوانَ لَمْ يَدَعْ مِنَ الْمالِ إِلّا مُسْحَتًا أَوْ مُجَلَّف

فَضَمَّ مُجَلَّفًا (...) ثُمَّ تَصَفَّحْتَ مَعَ ذلِكَ ما تَكَلَّفَهُ النَّحْويّونَ لَهُمْ مِنَ الِاحْتِجاجِ إِذا أَمْكَنَ، تارَةً بِطَلَبِ التَّخْفيفِ عِنْدَ تَوالِي الْحَرَكاتِ، وَمَرَّةً بِالْإِتْباعِ وَالْمُجاوَرَةِ ؛ وَما شاكَلَ ذلِكَ مِنَ الْمَعاذيرِ الْمُتَمَحَّلَةِ، وَتَغْييرِ الرِّوايَةِ إِذا ضاقَتِ الْحُجَّةُ ؛ وَتَبَيَّنْتَ ما راموه في ذلِكَ مِنَ الْمَرامِي الْبَعيدَةِ، وَارْتَكبوا لِأَجْلِه مِنَ الْمَراكِبِ الصَّعْبَةِ، الَّتي يَشْهَدُ الْقَلْبُ أَنَّ الْمُحَرِّكَ لَها وَالْباعِثَ عَلَيْها، شِدَّةُ إِعْظامِ الْمُتَقَدِّمِ، وَالْكَلَفُ بِنُصْرَةِ ما سَبَقَ إِلَيْهِ الِاعْتِقادُ وَأَلِفَتْهُ النَّفْسُ (...) شَكَكْتَ في أَنَّ نَفْعَ هذَا الْحُكْمِ عامٌّ، وَجَدْواهُ شامِلٌ، وَأَنَّ الْمُتَقَدِّمَ يَضْرِبُ فيهِ بِسَهْمِ الْمُتَأَخِّرِ، وَالْجاهِليَّ يَأْخُذُ مِنْهُ ما يَأْخُذُ الْإِسْلاميُّ، وَأَنَّه قَوْلٌ لا حَظَّ لَه فِي الْعَصَبيَّةِ، وَلا نَسَبَ بَيْنَه وَبَيْنَ التَّحامُلِ ".

(الوساطة)

لقد أراد القاضي الوساطة بين المتنبي وخصومه، فاقتص آثار الشعراء مُخْطِئينَ، حتى يُبَرِّئَ المتنبيَ بعُموم البَلْوى، ثم يَحْكُمَ بضرورة الاعتماد في تقدير الشاعر المُخْطِئِ، على الغالب عليه ؛ فإن غلب عليه الصوابُ وَجَبَ تَصْنيفُه في طائفة المُصيبين، وإن غلب عليه الخطأُ وجب تَصْنيفُه في طائفة المُخْطئين، فأما عِصْمَتُه فَرَأْيٌ فائِلٌ لا يراه لنفسِه الشاعرُ نَفْسُه إلا أن يكون مَهْووسًا، وهو الإنصافُ!

7

ولكنْ فات القاضيَ الجرجانيَّ أنه ينبغي ألا يرى لنفسه العصمةَ كذلك النحويُّ (عالم النحو) نفسُه - وأنا أَرُدُّ عَجُزَ كلامي هنا على صَدْرِه - فربما خَفِيَ عليه مرادُ الشاعر اضطرابًا أو شُرودًا أو جَهْلا كذلك ؛ فاستعجل التخطيء كما استعجل الشيخ القاضي نفسُه تخطيء بعضِ ما أورد على الشعراء!

قال ابن رشيق القيرواني المتوفى سنة 463هـ: " حَكى الصّاحِبُ بْنُ عَبّادٍ في صَدْرِ رِسالَةٍ صَنَعَها عَلى أَبي الطَّيِّبِ، قالَ: حَدَّثني مُحَمَّدُ بْنُ يوسُفَ الْحَمّاديُّ، قالَ: حَضَرْتُ بِمَجْلِسِ عُبَيْدِ اللّهِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ طاهِرٍ، وَقَدْ حَضَرَه الْبُحْتُريُّ، فَقالَ: يا أَبا عُبادَةَ، أَمُسْلِمٌ أَشْعَرُ أَمْ أَبو نُواسٍ؟ فَقالَ: بَلْ أَبو نُواسٍ، لِأَنَّه يَتَصَرَّفُ في كُلِّ طَريقٍ، وَيَبْرَعُ في كُلِّ مَذْهَبٍ: إِنْ شاءَ جَدَّ، وَإِنْ شاءَ هَزَلَ، وَمُسْلِمٌ يَلْزَمُ طَريقًا واحِدًا لا يَتَعَدّاهُ، وَيَتَحَقَّقُ بِمَذْهَبٍ لا يَتَخَطّاهُ. فَقالَ لَه عُبَيْدُ اللّهِ: إِنَّ أَحْمَدَ بْنَ يَحْيى ثَعْلَبًا لا يُوافِقُكَ عَلى هذا. فَقالَ: أَيُّها الْأَميرُ، لَيْسَ هذا مِنْ عِلْمِ ثَعْلَبٍ وَأَضْرابِه مِمَّنْ يَحْفَظُ الشِّعْرَ وَلا يَقولُه ؛ فَإِنَّما يَعْرِفُ الشِّعْرَ مَنْ دُفِعَ إِلى مَضايِقِه. فَقالَ: وَرِيَتْ بِكَ زِنادي، يا أَبا عُبادَةَ! إِنَّ حُكْمَكَ في عَمَّيْكَ أَبي نُواسٍ وَمُسْلِمٍ، وافَقَ حُكْمَ أَبي نُواسٍ في عَمَّيْهِ جَريرٍ وَالْفَرَزْدَقِ ؛ فَإِنَّه سُئِلَ عَنْهُما، فَفَضَّلَ جَريرًا، فَقيلَ لَه: إِنَّ أَبا عُبَيْدَةَ لا يُوافِقُكَ عَلى هذا، فَقالَ: لَيْسَ هذا مِنْ عِلْمِ أَبي عُبَيْدَةَ ؛ فَإِنَّما يَعْرِفُه مَنْ دُفِعَ إِلى مَضايِقِ الشِّعْرِ ".
(العمدة)

وهذه عادةُ الشعراء التي يُدافعون بها عادةَ النحويين (علماء النحو) تلك، ويُؤَرِّثُ نارَها طلابُهما الغاوونَ المُذَبْذَبون بينهما كليهما جميعا معا، حتى إذا سَكَتَ عن كل منهما الغضبُ خالصةً نيَّتُه للحق، وبَرِئَ من التَّسَرُّع صافيةً نفسُه من الغُرور - قال في الآخرِ غيرَ ما قال ؛ فقال فيه الآخرُ غيرَ ما قال ؛ فاجتمع الشمل في خدمة اللغة فَنًّا وعِلْمًا: يعتمد الشاعرُ من النحوي (عالم النحو)، على أَرْضٍ قَويَّةٍ راسِخَةٍ، فيُؤَصِّلُ بنيانَ فَنِّه، ويتعلق النحويُّ (عالمُ النحو) من الشاعر، بِسَماءٍ قَويَّةٍ سامِقَةٍ، فيُفَرِّعُ بنيانَ عِلْمِه!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى