الأربعاء ٩ أيلول (سبتمبر) ٢٠٠٩

أيام القدس العسيرة

بقلم: تامر المصري

في عسرة أيامنا، تبدو القدس عنوانا لكل حالات الترهل والتداعي العربي، وبيانا ينفي بواقعاته كل شروحات الأمل الموعود بتحقيق السلامات الكبيرة، ودليلا على سوء المنقلب الذي صار الجميع إليه، بعد أن بلغت في أحشائها يد الاحتلال مبلغها، دون أن تترك موطئا تحت الأرض أو فوقها إلا ونبشته، ملء أسماعنا وأبصارنا، بحثا عما يفي بإلغاء وجودنا العربي، بثوبيه الإنسانيين، الإسلامي والمسيحي، في المدينة المقدسة، بخلق نقيضه اليهودي، الذي تبرأ منه كل حجر فيها، بعدم التعرف على أثر يثبت منه الإدعاء.

ولأنها الندية في أوج عبثيتها، فقد بات الاستقواء الإسرائيلي على القدس، يستزيد لوثته يوما بعد يوم، بغياب النقيض العربي له، الذي يمكن أن يكون له رادعا، حتى آلت القدس إلى خارج ثوبها في عراء، لا يوازيه سواء عراء العرب من كل قوة، يمكن لها لو وجدت أن تكون حائط صد، يوقف الهجمة العبرية التي تودي بالقدس الشريف إلى نادي المدن الإسرائيلية بالتهويد والتهديد، بعد حين.

لم يكن يوم الأحد الواقع في الثاني من رمضان، الموافق الثالث والعشرين من آب الحالي، بقيام مجموعات دينية يهودية باقتحام المسجد الأقصى المبارك، وأدائها شعائر دينية وتلمودية، في أول سابقة تقوم بها مجموعات يهودية، في الشهر المبارك منذ احتلال القدس الشرقية عام 1967م، إلا وصالا مع المحاولة التي وقعت في ذات الشهر الميلادي، من أغسطس عام 1969م، بإحراق المسجد الأقصى، وما بينهما من أحداث استمرت في زيادة دونما نقصان، على مدار ما ينوف عن الأربعين عاما احتلاليا. وتلك من علامات الاستقدار الإسرائيلي، الذي يعكس قلة حليتنا العربية الإسلامية المسيحية، إلا من بيانات إدانة خجلاء أو عرجاء، فاقع لونها، ما لم تتحصن بإمكانية رد الفعل الاعتباري لتاريخ المدينة، التي تحفظ للمكان كينونته، بما تمثله لهوية العرب جميعا.

عند حريق المسجد الأقصى الأليم عام 1969م، ظن الناس إن إنشاء منظمة المؤتمر الإسلامي، الذي جاء ردا على جريمة الإحراق الغادرة، سيكون بمثابة الحاضنة لكل مقومات الرد، التي ستحفظ للمدينة قدسيتها وهيبتها، في مواجهة المخرز الإسرائيلي، المتحفز للطعن من ألف خلف سابقا، وألف أمام في يومنا، في ظل غيابنا عن الأمام نفسه... بيد أن ما تشهده المدينة اليوم من محاولات تهجير وتضييق وحصار وعزل وسرقة للتاريخ، واستماتة في الهجوم دون دفاع إلا من أهلها ومن استطاع الوصول إليهم سبيلا من أخوانهم مناصرا في مدن الضفة الغربية، التي تعاني فصلا جديدا من فصول الإقصاء الإسرائيلي، يؤكد ألا أحد يحمل حِمل المدينة وهمها، إلا الفلسطينيون.

ففي مسار القدس الاحتفالي بنكهته العربية في عرسها الثقافي بالإجماع، أبدعت احتفالية القدس كعاصمة للثقافة العربية في كي الوعي الجمعي العربي، بإعادة القدس الشريف إلى واجهة الاهتمام الذي تستحق، ولكنه بدا اهتماما منقوصا، ما لم يصاحبه تعزيز لآلية الصمود المقدسي في وجه محاولات السطو التاريخي المتكرر، على تراث المدينة الممتد منذ ما قبل كنعان الأول، وتعدد اقتحامات قطعان المستوطنين لدرة المدينة وتاجها الأعظم، متمثلا بمسجدها الأقصى، الذي بات يعيش ملحمة وجودية، يقابل فيها فكرة الهيكل المزعوم، في ذات المكان الأطهر.. وتلك من مفارقات الألم.

ليس بالشعارات والأشعار، نثبت أهلية القدس لنا أو أهليتنا بالقدس، فالمكاسرة اليوم في أوج الزبد، والمعركة لا علاقة لها بمحاججة الحق مع الباطل، بقدر ما هي في وصال واتصال، مع من يملك المطاولة على الصمود لصاحب زمام مبادرة الفعل. وإن كانت إسرائيل لا تنام ليلها تفكيرا وابتكارا لطرق تجعل حياة المقدسيين أكثر استحالة في حضرة الاحتلال، سعيا لقضم المدينة من كل ما حولها، فإن الواجب الديني والأخلاقي القومي والوطني الفلسطيني، يجعلنا أمام اختبار بحساب أيام القدس العسيرة، في عرف ما يجب أن تكون فيه المواجهة أساسا للتقابل، وهو ما ينبغي أن نكون فيه على قدر المسؤولية.

وإن بدا شهر رمضان المبارك، شهرا للمؤمنين في صلاتهم وصيامهم وتقربهم إلى الله تعالى، فلا أرحب من المسجد الأقصى، حتى لو ضاقت الطرق إليه، من أن يكون قبلة للمؤمنين العابدين بشد الرحال إليه، صلاة وصياما وقياما، علنا نعزز من صمودنا إذا ما اعتصمنا بالمكان، ونعزز من ثبات المكان بصمودنا، وهذا شرف لأهل الرباط في رباطهم إلى يوم القيامة.

بقلم: تامر المصري

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى