الخميس ١٠ أيلول (سبتمبر) ٢٠٠٩

(أرابيسك) لعلي عبد الأمير صالح لعبة التخفي

بقلم: د.ثائر العذاري

حين يتطابق الراوي وبطل الرواية، فيُعرض تيار السرد بضمير ((أنا))، فسنكون نحن القراء قد وقعنا في أسر أفكاره وتصوراته، لأننا سنرى الكون برؤيته هو وبعينيه، وهنا يكون علينا توخي الحذر وعدم التسليم بكل ما يقول البطل، إذ – لكي نفهم رواية من هذا النوع- علينا أن نكون متشككين كما لو كنا قضاة.

وهكذا يلعب (علي عبد الأمير صالح) معنا هذه اللعبة في روايته (أرابيسك) – صدرت عن دار أزمنة 2009، فالبطل، وهو ذاته الراوي، شخصية لا يمكن الوثوق بها، وما لم نشك بكل ما يقول لن نستطيع فهم بنية الرواية وجمالياتها.

تحكي الرواية حكاية طبيب أسنان عراقي مشبوه السيرة بسبب علاقاته الشاذة الكثيرة بالنساء ممن يترددن على عيادته، والرواية مبنية بما يشبه كتابة المذكرات، فهو في خمسينات عمره يحاول تسجيل أمجاده وفتوحاته النسائية، معربا عن رغبته في نشرها:

((...نعم أنا أكتشفها ثانيةً، لأن بعضها ضاع في تلافيف مخي.. لكنها لم تضع إلى الأبد، على أي حال.. هو ذا قلمي الرصاص يوقظها من سباتها، ويسطرها على الورق.. وها أنا ذا أجمعها لكم على ما فيها من تناقض وتباعد وتنافر وتشظي..))

وإذا صدقنا بطل الرواية بكل ما يقول فسنؤمن بوجود رجل أسطورة قادر على إغواء كل نساء العالم في وقت واحد، فهو يحاول أن يعرض في مذكراته كل نماذج شخصيات المرأة الممكنة (شذا وياسمين وبان وداليدا وسوزان وغيرهن) اللائي سقطن كلهن أسيرات الهيام به وسلمنه أنفسهن متوسلات أن يفعل بهن ما يريد.

غير أن لغة الرجل تكشف عن حقيقة شخصيته، فهو رجل انطوائي يحب الاعتزال عن الناس والحياة في عالم خاص يكشف عن انسحابه من المجتمع وتبرمه به، فهو في غير موضع من مذكراته يشير إلى حبه لمدينته ومواطنيه:

((...أبذل قصارى جهودي كي أنجز عملي بإتقان ومهارة وأحقق سمعةً طيبةً بين الناس في مدينتي...))

وفي موضع آخر

((..بل أريد أن أعيش حياتي بالطول والعرض.. وأن أشارك أبناء مدينتي حياتهم، أفراحهم وأحزانهم.. لأنني جزء منهم وهم جزء مني.. الناس جميعاً مرتبطون مع بعضهم بنحو لا ينفصل....))

غير أننا في كل مذكراته لم نقرأ عن أية شخصية من أبناء مدينته، ولم نلحظ مشاركته في أية فعالية اجتماعية، فالرجل لم يعش حياته التي تحدث عنها الا في مكانين، العيادة والشقة التي يسكنها. ويبدو أنه كان يهرب من المجتمع بسبب سوء سمعته الاجتماعية، الذي يتضح من عبارات عرضية وردت في الرواية:

((..ذلك أن بعضهن يترددن كثيراً قبل المجيء الى عيادتي مع إنني كنت ذا سمعة طيبة بين أبناء مدينتي.. أنا أقصد تحديداً السمعة الطبية ولا شيء غير ذلك...))

وفي موضع آخر يكشف عن أزمته تلك صراحة:

((أنا بريء كل البراءة من كل الأقاويل والشائعات التي لاكتها الألسن بحقي، وهي كثيرة على كل حال؛ مع إنني لا انفي كوني قد أعجبت بالعديد منهن...))

فمن الواضح هنا، أنه كان يشعر بهزيمته أمام الرأي العام في مدينته، الأمر الذي فرض عليه العزلة عن الناس، بل حتى وصوله إلى حافة العقد السادس وهو لما يتزوج بعد، ويعيش عازبا في شقة طالما صارت محل شبهة لسكان العمارة.

يرسم (علي عبد الأمير صالح) في هذه الرواية شخصية مأزومة، لكن بريشتها هي، وأي إنسان طبعا لا يحب الكشف عن أزماته ومساوئه، أو في الغالب لا يعترف بها حتى لنفسه، وهكذا يكون على القارئ أن يلزم جانب الحذر ويحاكم لغة البطل محاكمة صارمة، فثمة مواقف تكشف كذبه وزيف ادعاءاته الراسبوتينية، ومن تلك المواقف موقفه مع (ياسمين) لاعبة التنس التي قال أنها وصلت في عشقه حد أن جثت على ركبتيها بين يديه متوسلة أن يطفئ نار عشقها مقابل أن تهبه ثروتها الطائلة التي ورثتها عن أهلها.. فبعد هذا الموقف:

((قاطعتني ياسمين قائلةً: عجباً، أنت تتحدث كما لو كنت شاعراً.. هل تكتب الشعر؟

أجبتها باسماً: لا أدري.. ربما.. لئن كان ما أكتبه شعراً فإنني لا أدونه إلا من أجل الفاتنات..أنا اكتب لهن أرق الكلمات على ورق الوصفات الطبية.. أنا أنتقي كلماتي كما ينتقي الصائغ أحجاره الكريمة، أداعب الكلمات كما يداعب الموسيقي أوتار آلته.))

ليس من المعقول طبعا أن يقول هذا الكلام رجل يدعي أنه خبير في التعامل مع النساء في حضرة امرأة فاتنة يدعي أنها تذوب فيه عشقا. والمشكلة الأكبر رد فعل ياسمين على هذا الكلام، فهي لم تغضب ولم تشعر بالغيرة بل اكتفت بالقول بلغة طبيعية ليس فيها أي انفعال:

((هذا كلام رائع.. لم أسمع مثيلا له من قبل..))

هذا الموقف يكشف عن كذب ادعاءاته ومثله مواقف أخرى كثيرة، وهذا الكذب ليس الا نتيجة طبيعية لمجموعة من العقد النفسية والضغوط المركبة التي يعاني منها، فهو ليس شخصية سوية، وأبرز تلك العقد، الفتيشية التي كشف عنها بوضوح بتعلقه بمشابك الشعر ومرايا الفم التي كان يمارس معها لذته الحقيقية:

((أنا، عادةً، أحتفظ بمرايا العذارى في حقيبة خاصة، حقيبة جلدية خصصت أصلا لحفظ أدوات منزلية صغيرة كالملاعق والشوكات.. كنت أضع رمزاً أو رقماً بالقلم (الماجك) على كل مرآة أستخدمها في فم كل عذراء من العذراوات..))

لقد وصف بإسهاب علاقته بتلك المرايا، وكيف كان يصفّها على منضدة ثم يتعامل معها كما لو كانت هي النساء الحقيقيات، فيحدثها ويضمها ويقبلها، وربما كانت هذه هي التجربة الحقيقية الوحيدة التي يعيش فيها اللذة.

وفي آخر الرواية يكشف طبيب الأسنان عن حادثة مهمة في طفولته، ففي المرة الأولى التي يلتقي بها سوزان آخر خليلاته كما يسميها، قال:

((حكيت لها عن قسوة أبي.. قلت لها إن أبي كان يضرب أمي ضرباً مبرحاً إن هي تباطأت في تلبية طلباته.. وظلت تحمل أثر الجرح البليغ في ذقنها.. أمي لم تذهب الى المستشفى أو المستوصف، كما كان يدعى آنذاك.. بل وضعت قطعة قماش متفحمة على الجرح....))

هذه الحادثة تكشف عن مكمن عقدة الرجل ومشاكله النفسية، فهو يحب النساء بحبه لأمه وتعاطفه معها، لكنه أيضا يحسدهن لما يمتلكن من قدرة على السعادة ويريد الانتقام منهن لأمه، أمه التي عاشت مقيدة بسلطة الزوج التقليدي الذي يريدها خادمة مطيعة طيلة الوقت، وهذا وحده يفسر ظاهرة مهمة في الرواية، هي أن كل شخصيات النساء التي أسهب في الحديث عنها، كانت شخصيات متحررة، تفعل ما تريد من غير سلطة قامعة توقفهن عن تلك الأفعال، وهن بهذا يستأهلن الانتقام، فلماذا يعشن هذه الحرية وتحرم أمه منها؟ ولهذا أيضا وضع لهن نهايات مأساوية، فشذا تجن وبان تنتحر وأخريات يتشردن في بلاد الله ويختفين من الحياة.

هذه الرواية تمثل دراسة نفسية تفصيلية لشخصية مأزومة، اختار الروائي أن يكتبها بطريقة التداعي الحر، فلم يكن البطل قد خطط بدقة لما سيكتب في مذكراته، ولذلك جاءت لغته مليئة بالاستطرادات الطويلة والجمل الاعتراضية، التي تمثل مادة غنية للمحلل النفساني لتحديد ملامح الشخصية، وبسبب توظيف أسلوب التداعي الحر كان لابد أن تكشف مذكرات البطل عن عقده، التي ليس آخرها خوفه من المجتمع والرأي العام الذي بدا في ظاهرة أخرى واضحا هي امتناع طبيب الأسنان عن ذكر اسمه رغم أنه ذكر أسماء كل الشخصيات التي وردت في مذكراته.

بقلم: د.ثائر العذاري

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى