الجمعة ١٨ أيلول (سبتمبر) ٢٠٠٩
بقلم لطفي زغلول

الشارع السياسي العربي

شهد العالم العربي أحداثا خطيرة منذ بدايات العقد الأخير من القرن العشرين المنصرم ومثالا لا حصرا حرب الخليج الثانية وما أفرزته من تداعيات على العراق والأقطار العربية ما تزال قائمة، تلتها حرب الخليج الثالثة التي أسفرت عن احتلال قطر عربي هو العراق، وسقوط عاصمته بغداد في أيدي القوات الأميركية، وحدوث انتفاضة الأقصى.

ومن قبلها ومن بعدها مسلسلات الاجتياحات والاغتيالات والاعتقالات والاستيطان وتهويد القدس التي ما زالت مستمرة. وهذه الأحداث وغيرها الكثير الكثير في مجمل الساحتين الفلسطينية والعربية. وقد كان من المفترض أن تكون هذه الأحداث قومية عربية وتنطلق من اخطر القضايا العربية المعاصرة، وكان من المفترض أن تحظى بمساحة شاسعة من المشاركة العربية بصورة أو باخرى. الا أن شيئا من هذا القبيل لم يحدث، وان حدث فانه لم يرتفع إلى مستوى هذه الأحداث.

فيما يخص هذه المشاركة التي نتحدث عنها، والتي يفترض أن يؤديها العالم العربي فهي منوطة ومتعلقة بجهتين اولاهما الانظمة السياسية العربية التي تقلصت مساحة مشاركتها حتى وصلت إلى حدود نقطة الصفر المئوي. وهذا ما اصطلح عليه مؤخرا " بالصمت العربي الرسمي " الذي قيل في دوافعه وأسبابه الشيء الكثير، ومثالا لا حصرا " فاتورة الحماية للبعض "، والتلويح للبعض الآخر ببطاقة المعونا ت الاقتصادية الحمراء. وكلا الفريقين محكومان للاملاءات المبطنة بالتهديد والتحذير.

ويفترض أن الجهة الثانية في المشاركة هي الجماهير العربية أو ما يحلو للبعض أن يطلق عليها الشارع السياسي العربي. وقبل الخوض في مفهوم هذا الشارع، وفيما اذا كان موجودا أو انه معدوم، لا بد من التذكير ببعض الاجواء العامة التي تتفيأ هذه الجماهير العربية ظلالها.

وباختصار شديد، وبداية فانها تفتقر إلى قدر كبير من الحريات الاساسية ووسائل التعبير عن مكنونات تفكيرها. ونظرا لمركزية الحكم وسلطته الابوية، وانعدام الديموقراطية والتعددية السياسية، فان هذه الجماهير تعيش حالة من الكبت السياسي تفرض عليها السمع والطاعة والسير على صراط انظمتها. وهي بحكم تاريخ طويل من التجارب مع هذه الانظمة اصبحت تدرك يقينا ما يمكن أن ينتظرها من عقاب جراء "جناية " التفكير المعاكس لتفكير انظمتها السياسية أو توجيه الانتقاد لممارساتها.

وبرغم كل هذه الظروف غير المواتية، فالجماهير العربية والتي يفترض انها هي الشارع السياسي العربي قد أبدت منظورها في الرأي والمشاركة من خلال مسيرات خرجت في هذا القطر العربي أو ذاك نصرة لقضية عربية أو اخرى. الا أن هذه المشاركة لم تكن ترقى إلى سقف المطلوب منها، وظلت اما مشرذمة ليس بين أقطارها أي تنسيق، أو انها هبة عاطفية اندفاعية لحظية لم يترتب عليها أية نتائج.

وفي أحيان كثيرة كانت تمنع قبل حدوثها، أو تقمع في بدايتها، وفي احيان معينة كانت الانظمة تسيرها وفق هواها واتجاهاتها ومنظورها. وملاحظة أخيرة وخطيرة، فمنذ فترة طويلة التزمت الجماهير العربية التي سميت بالشارع السياسي العربي الصمت هي الاخرى لسبب أو لآخر. والاكثر غرابة أن مجموع التحركات التضامنية مع القضية الفلسطينية في العواصم والبلدان غير العربية تفوق في عددها وتأثيرها نظيرتها في الاقطار العربية.

ان هذا كله يدفعنا للاعتقاد أن الشارع العربي السياسي بكل اتجاهاته غير موجود كونه مصطلحا حديثا نسبيا، وعلى ما يبدو سابق لأوانه ردده اعلام الاقطار العربية وجرى على ألسنة الاعلاميين والمثقفين والمحللين السياسيين في هذه الاقطار. ومما لاشك فيه أن اصل هذا المصطلح يعود إلى قواميس السياسة والاعلام الغربية التي تتفيأ بلدانها ظلال أجواء الحريات الانسانية، والديموقراطية والتعددية السياسية التي يفترض انها قائمة على احترام الرأي والرأي الآخر.

ومصطلح الشارع السياسي بمعناه الاشمل والاعم يجسد كونه نبض الجماهير واحاسيسها واتجاهاتها ورؤاها والتي في مجملها تشكل الرأي العام الذي تفرزه مؤسسات قياس هذا الرأي وآلياتها حيث يمكن اعتباره البنية التحتية لأية ديموقراطية حقيقية. وهو في ذات الوقت يشكل واجهة صلبة رصينة لحماية هذه الديموقراطية أن وجدت من أية تحديات سلبية قد تواجهها.

ولا يقف دور الشارع السياسي في بلدانه عند هذه الحدود كونه يتمتع اصلا بدينامية التحرك وحريته في الاتجاهات التي يريدها، علاوة على انه يملك الوسائل والآليات للتأثير في صنع القرار أيا كانت وجهته أو تعديله أو حتى القدرة على الغائه، اضافة إلى ما له من قدرات تمكنه من رسم الهيكلية السياسية الحاكمة والمساهمة في تحديد لونها السياسي،وأكثر من ذلك التحكم في مدة بقائها على سدة الحكم. وهو في النهاية حاضر في كل زمان وفاعل ومتابع ومراقب.

وهذه باختصار هي الملامح الاساسية للشارع السياسي في البلدان التي تتمتع بقسط وافرمن الديموقراطية والتزام تطبيق منظومة الحريات الانسانية الاساسية تحركه اطياف سياسية متعددة الالوان تحظى بقسط وافر من التناغم فيما بينهما وان اختلفت في بعض اهدافها واتجاهاتها ومراميها. الا انها وبرغم ذلك لا تتداخل في بعضها أو تتدخل، بمعنى لا يسيطر لون على آخر الا بمد جماهيري شرعي وبتفويض منه.

ولكي تتحقق مثل هذه الاعتبارات على أرض الواقع، فان الشارع السياسي في بلدانه يستند في قوته وفاعليته وتأثيره ويستمد هذه المنظومة الثلاثية من قاعدة عريضة من المؤسسات الاهلية الناشطة. فهناك النقابات المختلقة من خلال اتحاداتها،وهناك الطلبة والاكاديميون، وهناك الاحزاب السياسية بكل ألوان أطيافها، وهناك الاندية والمنتديات الثقافية والفنية والادبية والسياسية والاجتماعية والدينية مضافا إلى كل هذه الفسيفساء الانسانية المنظمات الاهلية بكل ما تمثله من أهداف وغايات. وأخيرا وليس آخرا ثمة الوسائل الاعلامية المقروءة والمرئية والمسموعة التي وصفت بحق أنها السلطة الرابعة.

وعلى ضوء هذه المقدمات والمعطيات نعود إلى مصطلح الشارع السياسي العربي. وحقيقة الامر أن هذا الشارع الذي يحمل الصفة القومية من خلال وصفه بالعربي غيرموجود. فهو اذا صح التعبير" شوارع" ليس بينها أي اتحاد أو تنسيق، وتعاني نسبة عالية من الغياب على ساحة الأحداث السياسية القومية. واذا كان لا بد من تسميتها فانها تكون أدق وأكثر مصداقية اذا ما ألصقت بها صفات اقليمية أي باسمائها القطرية.

كلمة أخيرة، فانه لو وجد فرضا شارع سياسي عربي، أو شوارع عربية قُطرية فليس هناك في سدة الحكم من يقيم لها وزنا أو يكترث لمتابعة تفاعلاتها أو يهتدي في ضوء منظورها إلى الايمان بضرورة التلاحم معها بدل الالتفاف عليها أو تجاهلها أو قمعها بوسيلة أو باخرى كون قيادات الانظمة العربية من وجهة نظرها هي وحدها الآمرة الناهية، وهي صاحبة صنع القرار والتقرير والاقرار، ساعية على الدوام إلى أن تظل " الشوارع " معبدة خالية من أية حواجز جماهيرية رغبة منها في تذليل الصعوبات أمام مشاوير سياساتها وخطاها.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى