الخميس ١٧ أيلول (سبتمبر) ٢٠٠٩
بقلم فؤاد اليزيد السني

الخليل والحب الممتنع

الخليل..! وما أدراك يا صاح وما بك داء، ما الخليل..! بل وما أدرانا نحن من هوهذا الذي اسمه، الخليل..!

دعوني إذن أخبركم كراوية لقصته الفريدة. فهذا المخلوق، أي هذا الكائن البشري، ينتمي إلى حينا، من حيث الميلاد والنشأة. وهوينتسب من ناحية الاقتصاد الطبقي، إلى فصيلة هذه المخلوقات المغربية التي تولد على الفطرة الأمية وتنشأ على حليب "ميزيريتها" وتموت عليها. ومن ناحيتنا، أومن ناحيتي أنا، فلقد ولدت ونشأت ولم أمت بعد مقهورا بالعروبة، لأني أعيش في بلد لا عربي. على كل حال والحق يقال، لقد ولدت ونشأت في بيت ميسور وتمتعت بكل الامتيازات التربوية العائلية الخاصة. وهكذا تطورت في هذا الحي، وكذلك كان قدره الخليل، الذي كانت أمه بائعة للخضر لضمان حياة عائلة يتجاوز عدد أفرادها العشرة. وهكذا نشأ الخليل في أحضان الأمية، أمّيا ونشأت أنا في أحضان عائلة ميسورة متعلما وتلميذا مدرسيا. وفي حرم هذا الحي المختلط، كثيرا ما كنا نلتقي ونختلط نحن الأطفال المغاربة مع كل باقي الأطفال. إلا أننا في مرحلة المراهقة وما بعدها، كنا قد كثيرا ما نتلقى تربية طبقية، عنصرية. تربية كانت توصينا بعدم الاقتراب من أبناء الفقراء وأبناء المتعاطين للكيف، والحشيشة والخمرة المغربية المحلية الصنع، من ذوي أبناء الطبقة الجاهلة. وهكذا حصل ذات يوم، أن انفصلنا نحن الحاسبين أنفسنا من فصيلة المتعلمين، ورحنا لا نجتمع بهم ولا نكلمهم إلا في حالات نادرة.

وحدث ذات يوم من أيام العطل المدرسية، وكان ذلك عند مقتبل فصل الصيف، أن قررنا نحن النخبة المُمَدْرسة والميسورة نسبيا، أي المستورة والمتعلمة من هذا الحي، أن نقوم برحلة ترفيهية إلى القصر الصغير. وهذا الميناء يقع على الشاطئ الشرقي لمدينة طنجة بنحوثلاثين كيلومترا. وهومصطاف يقع على واجهة المضيق الفاصل ما بيننا وبداية التراب الأوروبي الإيبري. وهومصطاف يتألف من قرية صغيرة وواد صغير يخترق غابة اصطياف، تعد آية من الرونق الطبيعي، ومطعم وحيد وبضعة مقاهي جبلية تقع على مرتفع يحرس الميناء القروي. ومن الغريب في هذا الأمر أن هذا المصطاف، لا يخلوطوال السنة من الزوار القادمين من كل الأراضي المغربية، بل وحتى الأوروبية منها.

وهكذا حدث أن اجتمعنا ذات مساء من أجل برمجة الرحلة، حين تسلط علينا وبنا، الخليل فجأة، وطلب منا مستهزئا بنفسه، إن كان له مكانا ما لمصاحبتنا في رحلتنا. ومن جهتنا لم نرفض، لأنه مهما كانت هذه أوتلك الفوارق الطبقية، فإنه لم يكن بيننا ولا في أنفسنا، أي فارق طبقي. وأخذنا الخليل معنا وذهبنا إلى القصر الصغير. وكان اليوم حين وصولنا في أبهى إشراقاته، وكانت الأوادم منتشرة هنالك من مختلف الطبقات، وكانت الشمس وكان البحر وكانت السماء الزرقاء، وكان الحب في كل حبة من مسبحة شاطئ القصر الصغير.

وانتهى بنا المطاف إلى طرف الغابة الغربي، ذاك المحاذي لشاطئ البحر، والذي يقع على يسار الوادي الصغير الفاصل ما بين السهل الشاطئي والمرتفع السكني والاقتصادي للقرية. وثبتنا خيمتنا وكلنا مرح وسرور، بهذا الفضاء البحري الجديد.
وصبيحة اليوم التالي، استيقظنا على إشراقة شمسية تضيء بقية المعمورة من حواليها. وتناولنا الفطور الصباحي معا، ثم مضى كل منا على غايته. مضى أخي الحسن السني إلى الميناء لاصطياد السمك رفقة حمودة العوام، ومضى لاشتراء مستلزماتنا الغذائية جارنا عبد اللطيف مزور بصحبة حسن "الروبيو" ابن "الخُلْطِيّة" الذي كان ينوي متابعة دراسته الطبية في "السوريون" بفرنسا. ومضى من بعدهم المهدي الحسابي الذي يعتبر من بيننا نموذجا فريدا وعبقرية رياضية نادرة. وبقيت من بعد انصراف الكل، مع الذي لا هوية ثقافية له، وأقصد رفيقنا الخليل. وانصرفنا بدورنا لسقاية الماء من بئر الغابة. وحين فوجئنا بكثرة الأوادم المنتظرة عند حافة البئر جلسنا على مقربة في انتظار دورنا. ولست أدري كيف حصل ذلك بالتدقيق. وكل ما أتذكره وهوأن مراهقة في قمة الجمال الأنثوي كانت واقعة تحت جميع الأنظار. وأذكر بأن الحادثة كانت في الثمانينات أي قبل عودة موضة الحجاب، بحيث أن حوريتنا كانت ترتدي "بيكيني" من أشهى ما يكون، وأن المسائل الحجابية والشواطئ الفاصلة للجنسين لم تكن قد ظهرت بعد. قد وقفت على رأس الخليل وطلبت منه بإلحاح شبقي أن يلاعبها بمضارب "التّنيس". وتلاعبا، وتبادلا النظرات وتوسمت الأنثى العريانة في صاحبنا عبقرية نادرة. ومن جهته رأى فيها خلينا أول أنثى تلاعبه بمَِخافي الغرام والعشق من أول نظرة. وهكذا تبادلا النظرات والأشياء الخفية، ووصلت اللعبة إلى نهايتها وتواجدا رأسا لرأس في محادثة خاطفة، وقالت الأنثى الجميلة للخليل مبتدرة:

 آه عييت. أنا سْميتي جميلة! وأنت شنّوسْميتْك؟
وأجابها متلعثما من شدة المفاجأة، لأنه لم يكن قد سئل عن اسمه من قبل، من طرف أنثى:
- الخليل.. وحق الله العظيم.. الخليل الحَوّ... ات.!
وراجعت الأنثى جميلة تصوراتها في رمشة عين وتابعت قائلة لاكتساب المعركة:
 أنا طالبة بالليسيه "رنيه ديكارت " بالرباط، السنة الرابعة، أدب فرنسي.
وأنت؟:
 أنا كَنْصاد الحوت..!
واعتقدت المخلوقة الجميلة بأن الخليل لشدة ذكائه قد دخل معها في لعبة مجاز جميلة العذراء والوحش البريء. وعاودت ضربتها الثقافية قائلة:
 شمن سِكْسْيون؟
واختلطت حبال الخليل بقصبات صيده، لأنه لم يكن قد سمع بهذه الكلمة من قبل، وأجاب بكل سذاجة وعفوية:
 أنا كنضراب الحشيش لكن لا أمس قط " السليسيون ".
سيلسيون.. سكسيون.. أفيون.. رددت الريح..

وابتسمت جميلة فضحكت ثم انفجرت بقهقهة أنثوية عميقة الصدى.

وهكذا فطنت جميلة بعد لأي، وبعد محادثة مطولة لها مع الخليل، بأن هذا الأخير، ليس سوى مخلوقا أميا، بئيسا وفقيرا من أبناء هذه الأمة. ووعدته بلقائه مساءا اليوم نفسه، وفي نفسها راحت تلعن كل الصدف "المضربية" التي لاقتها به. وسقط المساء كنصيف قرمزي على حاشية الغابة السمراء، ثم مضى منمحيا في الزرقة البحرية الشاطئية وفي ثنايا الرمال البلورية، وقد قدم من وراءه ليل صيفي أزرق لا مثيل له. واجتمع الأصحاب لكنهم افتقدوا الخليل، خصوصا وأن غيابه قد تجاوز حدود الانتظار. وراحوا يدورون عليه لغاية ما لقوه قاعدا كصقر قريش على مرتفعات أطلال القصر العتيق. قصر مضت كل آثاره الأثرية، سوى بضعة مقاعد حجرية منه ظلت تطل على باقي المخيم الواقع بحذاء الغابة. وفي فراغه التاريخي الهائل، كان الخليل قابعا وعصا " السبسي " كأداة سحرية بين يديه. وقف عليه عبد الحميد" الطاكسيستا " قائلا له:

 وا صَحبي سْحابْنا ادّاكْ البْحار..!

وأجابه الخليل المذهول:
 ورا.. هِيَ..!

والتفت عبد الحميد، وقد التحقت به كراوية وشاهد، وجذبه من عنقه قائلا له:
 ويا الله أصحبي قبل ما يْطيروبك القُمان يا فلان!

وفي هذه الأثناء التحق بنا باقي الرفاق وجرجرنا الخليل وحملناه بعد لأي لخيمتنا. ومن بعدها راح كل إلى راحته وسقط الليل فجأة ثقيلا.. ثقيلا.. ومحملا بكل آمال الصبا.. ونمنا وكل منا يحلم بليلاه.

وعاد الصباح التالي من جديد، واستفقنا من نومنا، وتفرقنا كل منا إلى غايته، وحين قدمت الظهيرة بمنتصف النهار، كنا جميعا عند مدخل الخيمة إلا هو.. وأعني الخليل، فإنه كان عند القصر المهجور يزمزم في اتجاه خيمة جميلة التي اختفت من محلها:

 وعْلاشْ تْخابّعتي..؟

وفهمنا فيما بعد، بأن ملاعبته " جميلة " كانت قد رحلت مع أهلها صبيحة اليوم نفسه. قد تكون صدفة أوما يشابهها، لكن هذا التفسير لا يعنينا نحن، بل ما يهمنا مبدئيا، وهوأن المخلوق "الخليل" قد راح يكلم الأشباح والعفاريت والشياطين والجن المؤمنة منها والكافرة. بل راح يتعرى من ملابسه ويجري كملاك " مَعَرِّي " إن شئت أو" دانْتيّ " بل " مِلْتوني " على رمال شاطئ القصر الصغير مُصَيِّحا:

 أنا الهوى.. أنا الهوى سِلِسْيون.. جميلة.. نون وسَرْدين وتون!

ولست أدري كيف حصلت المعجزة حين جرينا من ورائه، ومجموع المخيم الشاطئي يعدومن ورائنا، حتى قبضنا عليه وألبسناه لباس البني آدم وعدنا به إلى المدينة وسرحناه بالقرب من باب بيته. ولم يمر سوى يوم واحد، إذا به من جديد يعدوفي أزقة الحي عاريا، كآدم قبل اكتشافه للأفعال الجنسية ومناديا:

  وا جميلة..! أنا الهوى..

لكن خلله النفسي وانهياره العصبي إذا صح القول أوهذا التعبير، لم يدم إلا قليلا وإذا بالسلطات المحلية تلقي القبض عليه وتسلمه إلى مستشفى المجانين، الملقب عندنا ب" سيدي برشيد. "

ومكث في ذاك المِصَحّ ما شاءت السلطات، ونسيناه خلالها أوكدنا ونسيه معنا هذا الزمن العربي المعطوب، وإذا به يطلع علينا ذات يوم في هيأة رجل وقور، مبيض الشعر، لا يكلم أحدا ولا يكلمه أحد


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى