الجمعة ١٨ أيلول (سبتمبر) ٢٠٠٩

العزف على أوتار بشرية

بقلم: محمود الديدامونى

منذ أن قرأت هذه المجموعة القصصية (العزف على أوتار بشرية) للقاص د/ محمد نجيب عبدالله، وأنا تتواتر على عقلى جملة من الأفكار تتعلق بشخصيات وتقنيات السرد والكتابة لما فيها من قدرات قصصية عالية، وليس ذلك بغريب على الكاتب فقد نال عدة جوائز كبيرة فى هذا الفن المراوغ والذى يحتاج لقدرات خاصة لا تتوفر لكثير من المبدعين، كما يقول إدجار ألن بو وهو يتحدث عن القصاص الأمريكى (هوثورن):(تقدم القصة الحقة، مجالا أكثر ملائمة، دون شك لتدريب القرائح الأكثر سموا، مما يمكن أن تقدمه مجالات النثر العادية الأخرى، فالقاص القدير هو الذى يبنى قصة،لن يشكل فكره ليوائم أحداثه إذا كان فطنا، إلا بعد أن يدرك جيدا أثرا ما، وحيدا ومتميزا، عندئذ يخترع الأحداث ويركبها بطريقة تساعد فى إحداث الأثر الذى أدركه

الزمن عنصر فاعل فى البناء السردي

والسؤال هل فعل هذا الدكتور محمد نجيب عبدالله فى قصصه، الحقيقة أن القاص فعل الكثير من تلك الرؤية التى ساقها ألن بو وكانت قصص المجموعة بداية من (يوم جمعة) والتى جاء كنكرة وبغير تحديد مقصود من الكاتب ليدل على براعة لغوية ترمى إلى دلالة الاستمرار والتمييع إن جاز القول.. لنشير إلى أي يوم من أيام الجمعة دون تحديد لزمنيته الضيقة، وليقدم للقارئ قصة زمنية فى المقام الأول، مدركا حقيقة الزمن فى البناء السردي لتلك القصة الجميلة وسر جمالها يكمن فى إصرار الكاتب على الضرب على زمنية القصة وكأنه يريد أن يقول للقارئ أقدم لك قصة زمنية وأنا أعى ذلك، ورغم حالة الوعي التى كتبت بها القصة إلا أن هذا الوعى كان له ما يبرره فقد جاي الأمر كله على لسان البطل ومن خلال سلوكه وأفعاله، فقط أتحدث عن أليه السرد كأداة طيعة فى يد الكاتب يقول فى قصة"يوم جمعة"فى أول عبارة بها :(حين جاء الصباح..) بداية زمنية استهل بها الكاتب قصته ليضعنا على عتبة الحدث فى إطار الحيز/ المكان منطلقا بالبطل عبر فضاءات السرد ليدرك البطل ان هذا اليوم/ الزمن – عطلة – (وللمرة الأولى يدرك أن اليوم عطلة) ص9.. ينتقل البطل من مكان إلى مكان عبر زمن هو لا يرد أن يعرفه، فما زال البطل يصر فى قرارة نفسه الانتصار على هذا الزمن وراح يكرر السؤال الذى لايود أن يجد له إجابة فيقول عبر نقلات القصة النوعية (كم الساعة الآن.. ؟ ص10، 12، 15، 17 20، 21،) ثم أحس بضرورة الرجوع إلى الزمن فكان السؤال (أين هى الساعة الآن.. ؟) ص18 عبر تلك الأزمنة التى عاشها البطل فى يوم... هى على مستوى السرد تمثل يوم جمعة، لكنها تمثل حزمة من الأزمنة داخل هذا الزمن الضيق، فود لو قاسم الشحاذ فى ماله الذى اكتسبه بعد صلاة الجمعة من المصلين الذين هم أكثر منه عوذا وفاقة، لذلك كان الفعل منه معبرا عن ضرورة اللجوء أحيانا إلى العبثية للتغلب على كل ما يقابله المرء من عقبات (قام الشحاذ يهتف فى المصلين.. ذكر كثيرا من قبيل الزوجة الميتة والأطفال المرضى..، العملية اللازمة... الخ انهالت عليه صدقات المصلين، وهو يراقبه فى حسد........) حتى يصل إلى... (انفجر ضاحكا متخيلا نفسه بدلا من الشحاذ... يلاحقه سخط رهيب من جموع المصلين وإمام المسجد..) حتى من الشحاذ نفسه الذى سخط من فعلته تلك لأنها شتت ذهن الناس عن التبرع.. ثم الاستمرار فى الحدث واللجوء إلى التطواف عبر الزمن وعقد المقارنة بين الأشياء من خلال رؤية زمنية أيضا فكل شئ فى هذه القصة يحدث فى زمن ويعالج فى زمن ويخرج من زمن وهذا سر ثراء هذا النص، فلم يهرب الخيط من القاص، وكم كانت النهاية رائعة لأنها جاءت حسبما رأيت بفعل التأثير الإيجابي للزمن على تلك العلاقة بين البطل وزوجته، تلك التى تركها منذ الصباح الباكر وعاد إليها بعد يوم طويل من التطواف خارج حدود المكان الذى اعتاد أن يقضى فيه يوم عطلته وكأنه مشهد سينمائى يختتم القاص تلك القصة قائلا :(أمر السائق بالإسراع.. وما أن توقف حتى كان يلقى له بالنقود ويسرع كما لو أن قطارا سيفوته... ولج الحارة.. وأخذ يجرى ويجرى ويجرى.. تماما كما فى الصباح) ثم يدخل فى حالة الفلاش باك لهذا اليوم، حتى ينتهى قائلا :(وفى مشهد ظل عالقا فى ذهن كل أهل الحى كنموذج للغرابة..

تلقف زوجته بين ذراعيه.. واحتضنها فى قوة أدهشتها هى.. وسربت الحمرة من عينيها إلى خديها.. غالبت دموعها وهى تقول :قلقتنا عليك... خير ؟) ولعل هذه الجملة الحوارية الوحيدة داخل هذا النص لتدلنا على أن القاص أحكم طريقة السرد فلم يلجأ إلى أداة من أدوات السرد إلا فى حينها..

المكان:

بعيدا عن الكلام التنظيرى عن أهمية المكان فى البناء القصصى حيث لا يتم حدث إلا فى إطار مكانى أو حيز سردي، وما يلزم ذلك من الاهتمام بالأفعال الدالة على ذلك.. لكن نذهب مباشرة إلى قصة المحطة :وكأن القاص يريد أن يخبرنا أيضا أن المكان هو حاضر بقوة فى هذه المجموعة، فكما قدم قصة زمنية"يوم جمعة"يستطيع أن يقدم قصة مكانية أيضا"المحطة"بحيث يلعب المكان دور البطولة.. وللحق فقد قدم القاص لوحة مشحونة بالمشاعر وكأنها لوحة سريالية لتلك المشاعر، منطلقا من المحطة كمكان لأحداثه، ليدخلنا إلى مكان آخر هو معنوى أكثر من كونه إطارا ماديا، النفس البشرية هنا – بما تحمله من متناقضات – (بدأت أتشاغل بمراقبة السيارات فى الطريق – تطورت المراقبة إلى حسد لهؤلاء الذين يركبون السيارات الواحد تلو الآخر... الخ) ص94

بينما الراوى البطل يبرز لنا سيطرة هذه المشاعر على بقية المشاعر الأخرى، وكأن المرء يستطيع أن يتحكم فى توجيه مشاعره فى زمن كهذا وظروف كتلك التى يرويها البطل، ثم ينطلق من المكان المعنوى – إلى المكان المادى مرة أخرى بما يحويه تلك الطفلة التى تداعبه ويداعبها من نافذة سيارتها على اعتبار أنها نقطة الضوء الوحيدة التى أطلت عليه لتخرجه عن عالمه المعنوى المشحون بالضغينة، (نظرت لى مباشرة.. فى عيني.. ولكنى لم أملك أن أغير من الإجهاد البادي على وجهى شيئا.. فضحكت.. ثم خبأت وجهه الصغير بكفيها الدقيقين.. فأخذت أحرك حاجبىّ ألاطفها..) ص95.. تلك اللوحة الفنية الجميلة التى رسمها الأديب محمد نجيب عبدالله بعناية لتنتهى بتحقيق الأمل المركب الذى طرحه فى بداية القصة بوصول الأتوبيس (تبتعد وقد برزت من شباك السيارة وهى تلوح لى فى سعادة...

فوجدت أمامي الأتوبيس فجأة... !!)ص96 وكأن الطفلة أو هذا العالم الجميل البرئ يأتي ومعه كل مفاتيح الحياة ومباهجها الجميلة القابلة للتحقيق..

ولعل ما قاله"سارتر"عن الكتابة كونها كشف للعالم، حيث يلجأ الكاتب إلى ضمير الآخر بغية الاعتراف به عاملا جوهريا فى مجموع الكون وهى رغبة الكاتب فى أن يحيا معترفا له بذلك على يد وسطاء من الناس

وما نجده فى قصة"غربة"يدلنا على حميمية القاص بواقعه الاجتماعي متناولا ذلك فى إطار من المزاوجة بين الواقعى والفنتازى حيث يتعرض فى أولا :صعودا لمشكلة ضيق ذات اليد عند الشباب دون اللجوء إلى الدخول فى المنمنمات الصغيرة أو اللجوء إلى الوصف فيندفع بالمتلقى مباشرة عبر كلمة أو عبارة دالة موحية جاعلا بذلك المتلقى على أعتاب النص من منطلق المشاركة من المتلقى فى تخيل الواقع (لم يجد عملا للمرة الألف..) وينطلق إلى الحدث يستسلم فيه للواقع ممنطقا ذلك وقد يكون ذلك المنطق لا يقبل الرفض...

ثم من منطقية الاستسلام إلى عبثيته نجد الفقرة الثانية"هبوطا"والتى يستسلم فيها البطل لطقوس الموت متلذذا بما آل إليه، ليعلن فى خبث محمود أن الموت أضحى أفضل من الحياة.. وهى مطابقة لا تخلو من فلسفة جميلة..

ثم ينطلق بنا القاص إلى المحاورة بين الواقع والحل (صعودا)، فالشباب يرى فى الغربة حلا، والضابط المسئول بالجوازات يتعارض كونه لا يدرك الواقع لذلك لم يكن ثمة نتيجة من الحوار (لماذا تسافر ؟ ! نظر إلى الأرض مطرقا وقال :غربة ص88

ويهبط بنا أخرى نحو فكرة الموت باعتبارها الخلاص.. ثم يصعد فى لوحة شعرية راقية.. تتوحد فيها المشاعر ويعزف فيها على وتر الانتماء فيقول :(سماع أغنية مصرية بمثابة الكنز بالنسبة إليه.. وحين يشترى جريدة من الوطن يقرأ كل سطر فيها.. حتى صفحة الوفيات.. وبعد أن يفرغ منها يتغطى بها مؤملا أن تتسرب كلماتها داخله، وتقتل غربته.. لكنها أبدا لم تفعل.. ولسانه يلهج بالحنين فى كل موضع..) ص 89

ثم يهبط للمرة الثالثة ليخبرنا بنفس المفهوم العبثى فى أن الغربة إرثها.. يكاد – بل يمثل عبئا – ثم يصعد للمرة الأخيرة ليهبط إلى الأبد، حيث يعجز فى الدفاع عن نفسه مختتما تلك الغربة بمأساة حقيقية وهى التجارة فى جثث الموتى ليصبح جثة مباعة بأبخس الأثمان لطالب يدرس التشريح، وكان القاص نسج هذا العالم بين المعقول والامعقول والمزاوجة الزمنية والمكانية بين الصعود والهبوط المتكرر لنصل فى النهاية إلى نقطة فارقة من العبث الذى صار واقعا أو الواقع الذى تخطى حدود العبث

إننا بصدد مجموعة قصصية ثرية، لقاص يدرك ماهية الكتابة، ويمتلك طاقة كبيرة للإبداع الجميل

بقلم: محمود الديدامونى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى