الجمعة ٢٥ أيلول (سبتمبر) ٢٠٠٩

الشاعر يحيى السماوي والحدث متواتر الصور

بقلم: سردار محمد سعيد

الحدث متواتر الصور: مصطلح أطلقهُ على حدث واحد بعينه، يزخر بمجموعة صور تدخل في صلب الحدث، ولعل غيري يرى انه هو نفسه مصطلح (مسرحي ـ درامي ـ..الخ.....) فليكن، إلا أنني أرى أن تسميتي مناسبة ملائمة.

لا شك أن التقاط مثل هذا الحدث، وإدراك صوره ليس بمهمة يسيرة إلا لمن امتلك الموهبة والصنعة، هنا لا أغمط حق من يرسم لنا صورة شعرية واحدة لا سيما إذا كانت برؤية جديدة وبعين نافذة، لكنها على وفق رأيي لا ترقى إلى الحدث ذي التواتر الصوري.

الحدث ذو التواتر الصوري واحد من أسرار الصنعة الشعرية، يجدر بأبنائنا الشعراء أو من هم مشاريع شعراء أن يتنبهوا له، لذلك سأ سهب في هذه الديباجة قليلا.

قال الحارث بن حلزة اليشكري:

اجمعوا أمرهم بليل فلما أصبحوا أصبحت لهم ضوضاء

فمن مناد ومن مجيب ومن تصهال خيل خلال ذاك رغاء

الحدث: التأهب للحرب.

الصور الشعرية:

الصورة الأولى: اجتماع رؤساء القبيلة ليلا وقد أجمعوا على الحرب.

الصورة الثانية: صباحا، بدء الإستعداد مصحوب بالضوضاء والجلبة.

الصورة الثالثة: أصوات المنادين والمجيبين ـ بشر ـ، تصهال الخيل ورغاء الجمال ـ حيوان ـ،

عند التأمل في هذا الحدث أجد أن الشاعر جمع الأنسان ـ من خلال المناداة والرد ـ والجماد ـ من خلال قعقة السلاح التي اثارت الضوضاء ـ والحيوان ـ من خلال الصهيل والرغاء، وهذا الإدراك للصور المتتابعة المتواترة دليل مقدرة شعرية فذة.

قال آخر:

ومما شجاني أنها يوم أعرضت تولت وماء العين في الجفن حائر

ولما اعادت من بعيد بنظرة الي التفاتا اسلمته المحاجر

في هذا الحدث وهو حدث الوداع تلاحظ الصور الآتية:

صورة الشجن الذي سببه الوداع،و اعراض الحبيب، وصورة الدمع المترقرق في العيون، وصورة الإلتفات من بعد بنظرة الوداع الأخيرة، وينتهي الحدث بصورة الدموع التي انهملت من المحاجر وليس بالمستطاع ايقاف تدفقها، فوظف الشاعر لفظة ـ أسلمته ـ.

وقال آخر:

ولما قضينا من منى كل حاجة ومسح بالأركان من هو ماسح

و شدت على دهم المهارى رحالنا ولم ينظر الغادي الذي هو رائح

أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا وسالت بأعناق المطي الأباطح

الحدث: مغادرة الحجيج.

سأنقل النص الآتي من كتاب الإيضاح في علوم البلاغة للخطيب القزويني ويمكن مراجعته فهو يبين الحدث وصوره المتواترة:

(قال ولما قضينا من منى كل حاجة فعبر عن قضاء جميع المناسك فرائضها وسننها بطريق العموم الذي هو احد طرق الإختصار ثم نبه بقوله ومسح بالأركان من هو ماسح على طواف الوداع الذي هو آخر الأمر ودليل المسير الذي هو مقصوده من الشعر ثم قال وشدت البيت فوصل بذكر مسح الأركان ما وليه من زم الركاب وركوب الركبان ثم دل بلفظ الأطراف على الصفة التي تختص بها الرفاق في السفر من التصرف في فنون القول وشجون الحديث أو ما هو عادة المتطرفين من الإشارة والتلويح والرمز والإيماء وأنبأ بذلك عن طيب النفوس وقوة النشاط وفصل الإغتباط كما توجبه ألفة الأصحاب وأنسة الأحباب ويليق بحال من وفق لقضاء العبادة الشريفة ورجا حسن الإياب وتنسم روائح الأحبة والأوطان واستماع التهاني والتحايا من الخلان والإخوان ثم زان ذلك كله بإستعارة لطيفة حيث قال وسالت بأعناق المطي الأباطح فنبه بذلك على سرعة السير ووطأة الظهر.....). من النص السابق يمكن استيضاح الصور في الحدث.

آمل أن يتلمس الشعراء الواعدين هذا الإلتقاط النبه للحدث وإقتناص صوره التي قد تمرق قدام أعينهم.

لقد تلمس هذا التواتر الصوري للحدث الشاعر المجيد ـ يحيى السماوي ـ ولم يغفل عنه و أشك انه نتاج موهبته الشعرية فقط، بل بالتفحص والترصد، وبعد جهد وصبر، و أرى أن ـ السماوي ـ يوظف الحدث التواتري في شعره حيثما كان الحدث مناسبا للوقفة الشعرية فهو واع لدلالة هذا التوظيف أيما وعي.

الأمثلة التي اخترتها للسماوي يحيى، توضح لنا الحدث التواتري الصور عنده.

من قصيدة مهاتفة من امراة مجهولة:

حتى اذا شق الضحى غبشا وجلوت درب الجسر بالنظر

بكرت يسبقني لمنهلها شغف الضمي لكوثر خصر

جاءت يحف بورد روضتها نهران من حسن ومن خفر

كاد الرصيف لفرط نشوته يمشي وراء قوامها النظر

الحدث: هو لقاء المحبوب.

الصور:

الصورة الأولى: طلوع الصباح وزوال الظلمة وتبين له ذاك من رؤيته الدرب المفضي إلى الجسر إذ أن الرؤية دليل على انحسار الظلمة.

الصورة الثانية: اندفاعه وهرعه للقاء الحبيب ليس وحده إنما كأن هناك آخر وهو الشغف يسابقه اليها لذلك قال ـ بكرت ـ لتوكيد انهما إثنان هو والشغف. وهذا البيت يذكر ببيت البحتري:

وبي ضمأ لا يملك الماء دفعه إلى نهلة من ريقها الخصر العذب

الصورة الثالثة: قدوم الحبيبة، ومن حبه العارم وصفها بالروضة وأي روضة تلك التي تـُحف بنهرين، هنا انا أتصور أن الروضة ما هي إلا الوطن وهو العراق و قد أوحى له ذلك، فدجلة والفرات هما نهرا الروضة، كما أن الوصف القرآني الجليل له تأثيره فرب العزة يصف بالمثنى (لقد كان لسبأ في مسكنهم آية جنتان عن يمين وعن شمال) سبأ 15، وكذلك قوله تعالى (و من دونهما جنتان) الرحمن 62.

الصورة الثالثة: نقلة سريعة تـُصـوّر الرصيف، حتى الرصيف انتشى لقدومها وهو الجامد، وهو معجب فراح يسير في حين أن حقيقة الأمر أن الناس تسير وهو واقف، فأي حب يكنه الشاعر لمحبوبته أدى به لتخيل تحرك الرصيف.

وفي قصيدة أهلوك أهلي يا ديار:

فهمست في مكر: خذيني أيكة لهديلك المغناج فهو طلابي

فاحمر تفاح الخدود وداعبت بمياسم الشفتين طرف حجاب

غافلتها ولثمت من زنبق خدها وهمت بالأخرى لإطفيء مابي

فتعثرت بي فارتبكت وراعني خطو ونظرة عابر مرتاب

في تفاح الخدود شعر كثير، ويمكن مراجعة كتاب ـ الموشى للوشاء ـ لدراستها والتلذذ بها، لكنها تبقى في جميعها وصف جميل ليس إلا، ومن جميل وصف الخدود على ما أرى قول القائل:

يا ظالم التفاح في وجناتها لو ذقت بعض شمائل التفاح.

وهنا يبدو في النصين السابقين أن ثمة تفصيل في كل نص جعله يبدو فضفاضا، لكنه لم يخلو من جمال الصور ورائعها، ومن الواضح أن السماوي متمكن من تكثيف النص، لكنه يبدو أن قريحته الشعرية المنسابة كسيل متدفق من معين لا ينضب، وتمكنه من التواصل، وقابليته على الإستمرارية أخذا منه هذا البعد، ودليل ذلك ما يصل اليه من ابداع مكثف في قصيدة يا صابرا عقدين الا بضعة إذ يقول:

كانت تمشط شعرها في شرفة خضراء..تنسله إلى خصلات
رفعت يدا منها تشد ستارة لتصد عن احداقها نظراتي

وهذا يذكرني بقول المتنبي:

حاولن تفديتي وخفن مراقبا فوضعن ايديهن فوق ترائبا

وقول النابغة المعروف:

سقط النصيف ولم ترد اسقاطه فتناولته واتقتنا باليد

هنا اراد السماوي أن يبرز معنى الإتقاء باليد وهو صورة جميلة، والإتقاء عامة و في بيت النابغة تناوله الكثير ويمكن مراجعة جملة من الكتب مثل الرسالة الموضحة لسرقات المتنبي للحاتمي، فقال:
(فأخذ هذا المعنى ابو حية النميري فأحسن كل الإحسان لزيادة لطيفة زادها في قوله:

فألقت قناعا دونه الشمس واتقت بأحسن موصولين: كف ومعصم
فوجبت له المساواة بهذه الزيادة، ولم يعط الفضل على النابغة لتقدم النابغة في الإختراع لهذا المعنى). وكذلك ما ورد في معاهد التنصيص في شواهد التخصيص للعباسي بهذا الشأن.

وفي قصيدة لماذا تأخرت دهرا عليا يقول:

وأنت على السطح: طفل
يغازل عند المساء النجوم
ويغفو يغطيه ضوء الثريا

هنا قمة الحدث التواتري في عليّ كثافته، وقد أكثر الشعراء في وصف الثريا (فأغربوا) كما في التذكرة الحمدونية لإبن حمدون. يقول يزيد بن الطثرية:

إذا ما الثريا في السماء كأنها وشاح وهي من سلكه فتبددا

وقال ابن الرومي:

طيب ريقه اذا ذقت فاه و الثريا في جانب الغرب قرط

وقال ابن المعتز:
فناولنيها والثريا كأنها جنى نرجس حيا النديم بها الساقي

كأنما السماوي في توظيف ـ الثريا ـ يريد أن يقول: على الرغم من هذا التناول الكثير و ـ الإغراب ـ الذي اغربه الشعراء فإنني قادر على أن آتي بالجديد وقد أفلح في أن يجعل من الثريا لحافا لينا ناعما لا يخدش حتى جلود الأطفال.
ان المقطع الشعري السابق للسماوي فيه كثافة شعرية قلما يستطيعها شاعر دون مواربة، وهو ما يسمى بالتقصير، وذكر عن فضل التقصير الكثير وهذا مثال:
قال طرفة:
لعمرك أن الموت ما أخطأ الفتى لكالطول المرخى وثنياه باليد
فاخذه النميري وقصر فيه فقال:

وأعلم أن الموت يا ام عامر قرين محيط حبله من ورائيا

وفي هذا كثير يمكن مراجعته في المصدر الأخير.
نص أختتم به هذي الدراسة المبسطة التي آمل أن اتوسع فيها يوما، أرى أنه جدير بالإهتمام، إذ يكشف لنا عن قابلية الإلتقاط الصورية عند يحيى السماوي، فهو لاينفك يستغل اللحظة والموقف لينسجه شعرا، أرى أنه قد ركبت في عينيه عدستي تصوير حساستين:

كشفت لترشف قهوة فإذاالدجى صبح طري الضوء غض المنهل
وجه يفيض عليه نهر انوثة ونسيم غابات وشقرة سنبل
صاف كمرآة الصباح نعومة فيكاد يجرحه الوشاح المخملي
ـ لا أدري هل تلمسه السماوي أم لا فإذا كان (لا) فيعني أنني مصيب في كشف سر تركيب العدستين الطبيعيتين في عينيه ـ.

آمل أن أكون أنا ايضا قد أفلحت ولم أحمل النصوص ما لا تحتمل.

بقلم: سردار محمد سعيد

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى