الاثنين ٢٨ أيلول (سبتمبر) ٢٠٠٩
قراءة في كتاب
بقلم نازك ضمرة

(أقصر قصص قصيرة جداً في العالم)

ما هو أقصر نص لقصة مع مراعاة أن تكون قصة متكاملة؟ يجيب تشارلز شولتز على هذا التساؤل في كتابه (حب الفستق) والصادر قبل سنوات عدة بمثال يقول فيه: ألح لينوس على جدته العجوز لوسي مرة قائلاً: أرجوك! أرجوك يا جدتي أن تحكي لي قصة، لم تكن الجدة مهيأة، بل وتحس بمتاعب، لكنها اضطرت لتلبية طلب حفيدها في ضيق (وُلٍد رجلً، وعاش ثم مات النهاية)، كانت تلك أقصر قصة قرأتها في حياتي، لكنني غير مقتنع ولا مكتفٍ بما سمعت، ثم يعود شولتز ويقول: لماذا لا يكون السؤال بصيغة أخرى :
إلى أي حد يمكن تقصير القصة، مع المحافظة على بقائها قصة جيدة؟ أو ماهو أقصر نص لقصة يمكن أن ترضي القارئ؟

ونجد إجابة على هذه التساؤلات في قصص كتاب (أقصر قصص قصيرة جداً في العالم) والذي بين أيدينا، وكتب القصص كتاب وأفراد مختلفون جمعها ونسقها الأديب الأمريكي القاص: ستيف مووس، فكل قصة من قصصه لا تتعدى مفرداتها 55 كلمة، إنه عدد قليل من الكلمات لقصة، بل هو قليل لدرجة تقارب الاستحالة لقصة قصيرة جداً وجيدة، والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن كيف يمكن أن يستوعب هذا العدد البسيط من المفردات قصة ذات نوعية وموضوعية؟ وقصص هذا الكتاب الذي نحن بصدده مصنفة تحت عناوين مختلفة، ولا تدور كلها في دائرة واحدة أو محصورة، فاحتوى الكتاب على مجموعة قصص قصيرة جداً تتعلق بالجريمة والقتل، ومجموعة تتعلق بالرعب والمكائد، ومجموعة تحت عنونة الحب والخيانة، وكل قصة من القصص ال 150 التي ضمها هذا الكتاب، تتحدد مفرداتها ب 55 كلمة.

قرر سـتيف مووس [1] صاحب الفكرة نشر إعلانات عن مسابقة في القصة القصيرة جداً في أمريكا، وكان شرط ال 55 كلمة للقصة أساساً في قبولها، ولا شك أنه تجمع لديه الآلاف من القصص، وساعده آخرون ذكر أسماءهم في إهداء الكتاب، واختاروا ال 150 قصة التي احتواها الكتاب الذي قرأناه، وقام ستيف مووس بتنسيقها لنشرها في كتاب تحت مسمّى (أقصر قصص قصيرة في العالم) والناشرون هم شركة (رننج برس بوك في مدينة فيلادلفيا بولاية بنسلفانيا)، ورقم التسجيل الدولي للكتاب هو 4-0300-7624-0، وأبيّن هذه التفاصيل لمنفعة الأدباء والمختصين والمكتبات في العالم العربي، لاقتناء الكتاب أو قراءته وتفحصه، وسأعمل على ترجمة قصصه حسب ظروفي وكلما أتيح لي ذلك، وربما تنشر الجريدة خمس قصص من هذا الكتاب في ملحق ثقافي آخر، أوقد نتمكن من نشر كل قصصه خدمة لمن لا يستطيع الحصول على الكتاب، ولمن لا يتمكنون القراءة باللغة الإنجليزية، وسيجد قارئ هذه الدراسة بعد انتهائها نموذجين مترجمين من قصص هذا الكتاب القصيرة جداً.

وهناك نقطة أخرى مهمة، وهي أن قارئ القصص المتأمل والنقاد يعرفون نمطية الفكر الأمريكي وهموم مجتمعه ومشاكلها منتقاة بشكل ملخص، هذا إذا قبلنا فرضية الكثير من الدارسين والمحققين وحتى المؤرخين، وفي هذا يقول الدكتور طه عمران وادي أستاذ الأدب بجامعة القاهرة أن القصة هي ديوان العرب، وقد أخرج مجلداً ضخماً قبل ثلاثة أعوام يحمل عنوان (القصة ديوان العرب) بين فيه أثر القصة في حياة الإنسان العربي وعلاقتها بحاضره وماضيه، ومعاناته وألمه وفرحه، وبنفسيته وبطبيعته وبنمط تفكيره، وكل ما يؤثر عليه في حياته، وتضمن ذاك السفر القيم نماذج من القصة العربية من كل إقليم عربي.

يقول ستيف موس جامع القصص ومنسقها، والتي وردت له بالبريد من كل أنحاء أمريكا:

كانت مغامرة أو مقامرة منه، حين اشترط الرقم 55 كلمة للقصة الواحد على كل من أراد الاشتراك بهذه المسابقة مراعاة هذا العدد من الكلمات، وبدأ العمل بجمع القصص منذ العام 1989 حتى تمت طباعة الكتاب ونشره عام 1997/1998. ويمكن لمتصفحي الانترنت الاطلاع على عنوان هذا الكتاب النادر وبعض الكتب الأخرى التي لا تلتزم بهذا القصر في القصة القصيرة جداً.

وحتى تحمل القصة مسمى القصة بمواصفاتها وخصائصها المعروفة لا بد من اختيار مفردات ذات دلالات تخدم الحدث وبتركيز، تاركة في القارئ أعمق الأثر في هذا الحجم الصغير من النص، وتصوّر أنك تريد أن تكتب قصة قصيرة على ظهر بطاقة (فيزيت كارد) يحمل اسمك وعنوانك على وجهه الآخر، قصة تقرؤها في دقيقة أو أقل . . . ويعترف الناشر أن هناك قصصاً قصيرة جداً غيرها سبق وصدرت من قبل، وله مآخذ عليها لأنها ربما كانت شبه خواطر، أو إعلاناً خبرياً،
(لكن حصر كل قصص الكتاب في 55 مفردة لكل منها يجعل تلك النصوص تزخر بالخيال وبمجهود سردي منهك، تضطرك للتأمل وتلمس عمق الإحساس الوحشي وتتبعه والتحذّر له.)

لكن معظم هذه القصص القصيرة جداً هي إبداع وفن ومتعة وأنت تقرؤها إو حين تستوعبها وأنت تتأمل ذلك الومض الخاطف.

اعتاد الكثير من الكتاب على الإسهاب وإطالة الصفحات، ولذا وجد معظمهم الكثير من الخيبة والفشل حين أرادوا التقيد بشروط 55 كلمة لقصة قصيرة جداً وجيدة، أما الذين قبلوا ذاك التحدي ونجحوا، فلا شك أنهم شعروا بالزهو، وبرضاء عميق في أنفسهم، وأجمع أغلبهم على أن حصرهم بهذا العدد القليل من المفردات المطلوبة، جعلهم ينقبون ويختزلون ويركزون، ليجعلوا من المفردات القليلة للقصة لفافة، تحمل في ثناياها قوة البيان والدلالة المختزنة المضغوطة، تحمل القارئ وتضعه في أعماق القصة وزمانها ومكانها، مما يحفزه ويمكنه من استيعاب ما أراد كاتب القصة قوله، وباستخدام الإيحاءات والمؤثرات والأدوات المحددة جداً، والتي تغني السرد، وتثبت القص في موقع الحدث، وتساعدنا في تصور الموقف وفهمه، بل ونستمتع بهذا النوع الأدبي المتفوق، وكتابة هذا النوع من الفن الأدبي يتطلب إحساساً مرهفاً، نشغل كل حواسنا فيه حتى تنتج قصة بشكل مرض أو جميل، مع تذكر الاقتصاد والترميز والدلالات النابضة بالحياة، بحيث تحمل كل مفردة أعمق المعنى والأثر والدلالة، لتؤدي دروها المطلوب، ولتكون في مكانها الصحيح، لدرجة تقارب الإعجاز في الإيجاز، وتزيد متعتنا ونحن نشارك في نسج خيوط القصة أثناء قراءتها أو في تحليل تلغيزها.

وتحديد 55 كلمة لكل قصة جعل جامعها يواجه اتهامات منها أنه يسعى لإنتاج قصص تكون بمثابة أحجيات عصية على الفهم أو ألغاز، ولكن بتأمل قصص هذه المجموعة، نجد أن الهدف كان هو الحصول على عصارة أفكار وملخصات أحداث أو خيالات (فيكشـِن) في قصص جميلة ممتعة، تشكل إضافة نوعية لهذا الفن الجميل. ومن الصعب إقناع من لم يتعود على كتابة مثل هذا النوع الأدبي، عن مدى إحساس الكاتب بالفرح والسعادة بعد مجهود يفرخ قصة وبجمال مهيج، قريبة للقلب والمشاعر وبهذا الحجم (الميني) وبصياغة حسنة، مستوحاة من خيال متخيل أو واقع متخيل، وأشبه تلك القصة حسنة الحبك بإيحاءاتها وبجمالها المهيج، كموقفك حين تلمح جزءاً محرماً من جسد أنثى صارخ الجمال، فتتحرك حواسك ومشاعرك بتصور ما يلي ذلك، تنسج حوله الخيالات تأويلات واحتمالات، أو من هو سعيد الحظ الذي هناك، أو ما الذي يكمن وراء ذلك العرض العارض، أيخفي تعذيباً لذلك الجسد من شخص ما أو هو قتل أو سعي إليه، أم ان الكشف كان عارضاً أو دعوة للمغامرة أو لمجرد الإغاظة والإغواء.

ونعتقد أن الكاتب الأمريكي المرح (أو. هنري) أحسّ بمثل هذا الإحساس عندما كتب قصة (هدية الغجري) [2] المشهورة، ولا شك أن الكاتب (إتش إتش مونرو ) [3] أحس هو الآخر بمثل ذلك عندما أنجز كتابه (النافذة المفتوحة) [4] والذي احتوى على قصص قصيرة (ميني) كلاسيكية.

لكن صاحب فكرة هذا الكتاب (سـتيف موس) الذي بين أيدينا لاقى تشجيعاً كبيراً من مختلف طبقات المجتمع، ومنهم الأدباء والطلاب والأساتذة، ووصف معلم أديب الكتاب قائلاً:
(تعلم الطلاب الاقتصاد في استخدام المفردات، وتعلموا مهارات التحرير، وأساسيات القصة الضرورية، والتعبير عنها بمفردات وسرد مختصر مفيد، وبالاختصار كانت متعة لهم ولي.)

أما الأديب الأمركي والقاص (جيمس توماس)، وهو الذي سبق ونشر كتاباً في القصة القصيرة من تأليفه، وحصر نفسه بأن لا تزيد مفردات كل قصة في كتابه عن 750 كلمة، وقد وصف هذا الكتاب فقال:

(( كما هو الأدب دائما، فالنجاح لا يعتمد على الإطالة، بل على العمق، والغوص، ووضوح الرؤية، والتمايز البشري إلى حد أن القارئ المهتم أو الحصيف يستطيع من خلال تلك المواصفات إدراك المادة الحقيقية لجوهر الحياة، ثم يضيف معلقاً على الكتاب الذي نحن بصدده : لا أستطيع صياغة تلك القصص بأفضل مما كتبت به، وكل ما أعرفه أن كتّاب قصص ال 55 كلمة يستطيعون كتابتها بأقصر من ذلك.))


[1Steve Moose

[2The Gift of the Maggi

[3H.H. Monroe

[4The Open Window


مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى