الجمعة ٢ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٠٩
بقلم حميد طولست

رائدات مغربيات

تجربة الخبز المغربي بإيطاليا.

جرياً على ما تعودنا عليه في البادية والمدينة على حد سواء، أن تخبز المرأة خبز الأسرة وتبعث به إلى "فران الحومة" ليطهى-قبل أن تعم الأفران الغازية كل البيوت. بدأً من نخل الدقيق الذي سبق لها غسل قمحه وتجفيفه على سطح بيتها وفرزت شوائبه وطحنته في أقرب مطحنة عمومية، مرورا بعجنه وتخميره بخميرة كيماوية أو طبيعية "بلدية" تعدها في الغالب، بتخمير جزء قليل تقتطعه من العجين وتضعه في جرة من طين تدعها في مكان دافئ لتسريع عملية التخمر، وكثيرا ما سمعنا المثل المغربي الدارج القائل: "لمرا المعكازة كتقطع لخميرة من الدار". ومن العيب استهلاك الأسر المغربية لخبز السوق، إلا للاضطرار في حالة اعتلال المرأة أو غيابها عن البيت أو حضور ضيوف..

وتشير الدراسات الاجتماعية إلى أن القضاء على الفقر لا يكفي فيه إعانة المحتاج بمده بشيء من المال، فالفقر غالباً ما يتم توارثه، وأن أطفال الفقراء كثيراً ما يكبرون ليستمروا في عيش من الفقر، لأن البيئة التي ينشأون فيها لا تعينهم على تجاوزه، ولا تهيئهم لعيش غيره، ولا تفتح لهم أبواباً للخروج من دوامتته، ولا تدربهم على التخلص من سيطرته، فيظلون يدورون في الدائرة المفرغة نفسها التي عاش فيها أباؤهم من قبل. وصدق المثل الصيني القائل "لا تعطيني سمكة بل علمني أن أصطاد السمك". فأمام ‮‬انزلاق الكثيرين إلى الفقر والعوز بسبب اندثار القدرة الشرائية واضمحلالها تحت مطارق‮ ‬غلاء الأسعار وندرة فرص الشغل وتآكل الرواتب وضعفها، ‮وقلة المدد والعون والإسعاف.

وأمام انشغال المسؤولين عن إصلاح أحوال الأمة بالتغيير والتطوير والتنوير والتحول الاقتصادي المنشود، وتلهيهم بملفات واهية يفتحون بعضا منها، ويتراجعون عن أخرى، ويطون غيرها، والنهاية يعليقون ويلفون الكثير منها، لتودع جلها في دهاليز وظلمة الرفوف التي لن تخرج منها إلا إلى محرقة أو مزبلة، لأنها ملفات "سخونة" وحساسة تمس قوت الجماهير الشعبية الفقيرة، و لأنها وهذا هو الأهم، من النوع الذي ليس فيه "المرقة" بلغة التبزنيس التي طغت على جل القضايا والملفات. لذا لا يُنمح أحد سمكا، ولا يُعلم كيف يصطاده.‮ ‬وفي جو هذا التجاهل المتعمد لمصائر المواطنين وفقرهم وأوضاعهم الاقتصادية المتردية. آثرت‮ ‬طبقة ذكية واعية من المهاجرات المغربيات في بعض مناطق ايطاليا، التخطط لحياتهن بشكل منهجي‮ ‬وواعٍ حتى يتغلبن على ما حل بهن وأسرهن من مآسي جراء الأزمة العالمية الحادة التي هددت سلم وسلامة الكثير من الأسر المغربية المهاجرة. حيث كانت مبادرة مجموعة ذكية من القادمات من المغرب صحبة أزواجهن، وراء انتشار الخبز البلدي بالديار الإيطالية بدخولهن إلى سوق تجارة الخبز كحرفة تدر دخلا يساعد على مواجهة تكاليف المعيشة العالية، متحديات ف سبيلها كل الموانع والتحفظات والاعتراضات والحسابات والمناورات. فقد كن يصنعن ببيوتهن خبزا مغربيا رخيص الثمن ويقمن بتوزيعه في الشوارع أو يبعنه بالبيوت مباشرة بشكل غير قانوني، وقد لاقى خبز المغربيات الذي يطلق عليه الإطاليون اسم "إلباني آريو" أي الخبز العربي، إقبالا كبيرا لجودته ورخص ثمنه، ويبتاعونه بربع ثمن الخبز الرومي الذي أثقل ميزانياتهم بثمنه المرتفع نتيجة أزمة البترول وارتفاع أسعار المحروقات.

الخبازات المغربيات اللائي فسحت أمامهن الفرص، وحصلن على التشجيع اللازم، وليس المفتعل، تمكنن من إبداع ما أسهم في إشاعة اليسر والرغد الذي أبعدهن عن أجواء اليأس والتشنج الحاصلين مع غيرهن في أكثر من موقع ومكان بالمهجر.

لكن هته المغامرة المثيرة التي اساطاعت المرأة النغربية أن تبتت فيها الذات الأنثوية قدرتها على المنافسة الذات وتحديها للواقع وللمعوقات؛ لم تخلو من مشاق ومتاعب، خاصة وأن علاقاتها مع السلطة كانت قائمة في مجملها على الترصد والمطاردة، والتخفي والتمويه. حيث كانت تبدو أحيانا صورة الخبازات في حي "بلاتسو" بمدينة "طورينو"، باعثة على الابتسام، خصوصا وأنت ترى كيف ينجحن في إخفاء خبزهن في أماكن لا يتوقعها أحد، وينجين بـ"رساميلهن" المتنقلة من قبضة رجال الأمن. وأحيانا ينتابك إحساس بالتشفي من اللواتي أمعن في إغلاق الشارع وسددن الأرصفة، وترتاح لعمل فرق التطويق والمطاردة لـ"تنظيف" شوارع المدينة وساحاتها منهن. وكثيرا ما تنقلب الصورة إلى مأساة، حين يكون الطرف المستهدف بالمطاردة والمصادرة، سيدة عجوز، جاءت تحمل بعض الخبز الذي يشكل إجمالي أموالها المنقولة وغير المنقولة وهي تجهد في تخليص ما يمكن تخليصه من بضاعة، والدموع تكاد تنهمر من عينيه، ويسكنك إحساس أعمق بالأسى العميق حين تستمع توسلاتها وابتهالاتها التي سرعان ما تنقلب إلى أدعية على "الجناة" والفاعلين و"إللي كانوا السبب" وراء هجرتها من بلدها الحبيب "لتتبهدل في بلاد الطاليان". ولكن غمك لا يلبث أن يزول بسرعة البرق عندما تعلم أن ثلة من الناشطين الإيطاليين المهتمين بشؤون المهاجرين وقضاياهم، خلقوا مشروعا أسموه "البوابة" يهدفون من خلاله إلى تحسين ظروف عيش وعمل المهاجرين بحي "بورطا بلاتسو"، وذلك بإستقطاب الأنشطة المحظورة قانونا وتصريفها عبر قنوات قانونية. ولتحقيق ذلك الهدف، تقدم أصحاب المشروع للاتحاد الأوروبي بطلب دعم تمويلي باسم مدينة "طورينو" مقداره 5 مليارات ليرة إيطالية.

ووفقا لبرنامج المشروع الخاص بنساء الخبز(الخبازات) ولتأهيل نشاطهن وإخراجه من شكله غير القانوني إلى ضوء القانون، خضعت الخبازات في مدينة طورينو لحصص تدريبية وصلت مدتها الزمنية إلى مائتي ساعة تعلمن خلالها قواعد الشروط الصحية والمحاسبة والترويج.

تجربة الخبز المغربي بإيطاليا.

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى