الأحد ١١ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٠٩
قصص قصيرة جدا

صراخ مركّب

بقلم: جمال الدين الخضيري

1- صراخ مركّب

تصاعدت الحناجر هادرة تلعلع في المكان. نظر إليها وهي مازالت ترفع عقيرتها بالشعارات الرنانة الطنانة وسط زغاريد زميلاتها.

قال لها:

- ما رأيك لو ننقل المظاهرة خارج هذه الأسوار؟
دون أن ينتظر ردها جرها من يدها. غير بعيد عن الأسوار، وهما يفترشان العشب تناوبا عن الصراخ واللهاث ورفع الشعارات. فرغم أنها بدت متحشرجة مختلفة، إلا أنها كانت في نفس حدة وقوة الأصوات التي تصلهما من هناك. وفي حمأة احتجاجاتهما الهذيانية سألته:
 ما الفرق بين الصراخ هنا في الداخل والصراخ هناك في الخارج؟
أجابها بصوت أبح:
- الإنسان سيد ما هو خارجه وعبد لما هو داخله.

2- بائع متجول

مذْ عرفته وهو بائع متجول يذرع الطرقات، ويؤثث معروضاته في الأرصفة وحواشي الأسواق. يتاجر في كل شيء؛ من سقط المتاع إلى السماق والاحراز.

كل يوم يضايقه المخازني إن لم يدفع له الإتاوة المعلومة. يضطر إلى نقل بضاعته تجاه موضع آخر، لكنه يلقى دائما المصير نفسه. فلكل مكان سادة وجباة.

مرت سحابة هذا النهار عليه قمطريرا، فلم يبع إلا قشة واحدة. والأدهى أن القطعة النقدية التي قبضها مدكوكة متآكلة لن يتقبلها احد، ولن يندم عليها ملقيها في التراب. ولأنه لا يود أن يمررها لأي من زبائنه فقد حار في أمرها، سيما وأنه مطوق بالبؤس والعوز.

سرعان ما غزته فكرة طارئة فقال في قرارة نفسه وهو يبتسم:

 لن يكون مثواها إلا جيب المخازني وزبانيته، أليست جيوبهم مستقر لكل مساوئ الدنيا وسيئات البشر؟

3- الغانية والملتحي

قالت وهي تضج بالمساحيق:
 عِظْني يا شيخ
ظل محدقا فيها مأسورا بجمالها الوحشي الصاعق، حتى اعتقدت أنه تاهت منه لفظة البدء. فقال:
 تساوينا في هذا، أحتاج اللحظة إلى من يعُضّني، عفوا، إلى من يَعِظُني مثلك.
عَضّت شفتيها، وانصرفت متمايلة، ثانية أعطافها.

4- الكرة الملعونة

رمى بكرته بعيدا. ارتطمت بزجاج نافذة الجيران. تهشم الزجاج. هرب الكل. بقي وحده محدقا في النافذة. أطلت المرأة برأسها تسبقها عاصفة من الشتائم. التقطتِ الكرة وقطعتها نصفين. انشطر قلبه نصفين. خرجت البنت واحتفظت بنصف ما قطعته أمها، وناولت النصف الباقي له. منذ ذلك الحين وهو يحاول أن يرتّق النصفين، فكان يلوح له السكين متدليا من النافذة نفسها التي ما يزال زجاجها مهشما.

5- الصحيفة

وقف أمام الكشك، وبدأ يتصفح الجرائد المبثوثة أمامه واحدة تلو أخرى بعناية.
طال تصفحه وفارت أعصاب صاحب الكشك. خرج ناهرا إياه:

 ألم تر أن اللافتة مكتوب فيها " يمنع تصفح الجرائد"؟
 لا تؤاخذني سيدي، فانا لا أعرف الكتابة ولا القراءة.
 غريب.. وما جدوى تصفحك إذن!!
 لكل صحيفته، وأنا أريد أن أرى أعمالي في الصحيفة.

6- الكأس والفخذ

قال الراوي والعهدة عليه:
" طول عمري وأنا رجل كأس وفخذ. ولما أنحْتُ الكأس جانبا بسبب داء ألمّ بي، ثار الفخذ وسخط قائلا:
 لا داعي لزفراتك دون بهاراتك، والجسد لا ينداح إلا في قدح الراح.
ومنذ ذلك الحين استبدّ بي داءان ولم أعرف العيش الرحراح".

7- القناع

هو: أودّ أن اشتري قناعا يا حبيبتي
هي: لِمَ؟ أتنوي أن تمثل في مسرح؟
هو: لا، لكن حتى يبدو وجهي محايدا وأنا أغازلكِ، و...
هي: أتضع قناعا على قناع؟!
صفقت في وجهه الباب وهي تقول:
 في الوقت الذي كنت انتظر أن تتجرد من أصباغك، تتمترس في قلاعك.

8- فليعش المجنون

في عز شمس الظهيرة، بأسماله الرثة لحق المجنون رفيقته المشردة. أمام مقهى الحديقة فار تنورهما. تعانقا، ثم تهاويا إلى مدارج التوغل. كان يموءان ويعويان. هب المارة إليهما، وسيّجوهما بأجسادهم اتقاء من عيون الدهماء. أطلت امرأة من شرفتها. انفلتت منها ضحكة كالصهيل. هتفت بأعلى صوتها:
 فليعش المجنون
ردد المارة:
 يعيش.. يعيش..
ثم رددت الكلام نفسه الجدران وسارت به الركبان.
اجتمع مجلس المدينة واصدر القرار الآتي:
" يتم إحصاء وإخصاء كل مجانين المدينة"

9- حب على شاكلة البعير

زارتني خليلتي كعادتها في غرفتي نهاية هذا الأسبوع. وما طفقنا في عزف وصلة غرامية رائقة حتى بدأ كلبي المدلل يضايقني ويهش وينبح ويلح علي إلحاحا شديدا أن اكلم فتاتي في أمره. سرعان ما عربد التجهم على وجهها وساحتها فقالت:
 ما به؟
 يريد أن تجلبي له كلبتك. له حاجياته الغريزية مثلنا، أليس كذلك..
 لكن الأمر لا يستقيم...
 لا يستقيم!! ولم؟
 لو كان الأمر يتعلق بحيوانات أخرى ربما.. أما أن نتساوى مع الكلاب، فلا..
 ومع أي الحيوانات تريدين أن نتساوى؟
 الم تسمع قول الشاعر: " وأحبها وتحبني ويحب ناقتها بعيري"

10- النزوح الأكبر

انحسر البحر فجأة وامتدت اليابسة بين بلدين كان يربطهما من قبل بحر ملغوم. لم يشرق الصبح من غد حتى نزح قوم بكامله إلى ما بعد اليابسة.
لم يبق في بلدتي إلا شيح، وريح، وروث حمير، وحاكمها الأبدي. بحث عن نسوانه، وعن المهرج، وعن السيّاف، وعن هامات كانت لا تكف عن الانحناء، وعن أصوات تلهج بالدعاء. لم يجد شيئا إلا الخواء وصرير أبواب تريد أن تنفك من عقالها علها تقتفي أثار أصحابها. امتطى صومعة ونادى فيما تبقى من شجر وحجر:
 بمناسبة النزوح الأكبر، أعلن حضر اهتزاز الجذوع، ونمو الزروع، وتدحرج الأحجار في كل الربوع. وهل آفتنا إلا هذا التدحرج المروّع.

11- حالة طوارئ

جلس في المقهى، كانت ماثلة قبالته بشكل متحد كأنه القدر. تثاءب، فتثاءبت، ابتسم، فافتر تغرها عن ابتسامة. هم بها وهمت به. جلس أمام مقود سيارته وقبل أن يتم حركة فتح الباب لها، دوّت في المكان صفارات إنذار. توارتْ، وتوارى الكل في لمحة بصر. تحسس قميصه في ذهول فلم ير أنه قُدّ من قُبل ولا من دُبر، فتنفس الصعداء.

12- سقوط

تسلق الشجرة حتى وصل قمتها. جلس على حافة أعلى غصن فيها متدليا برجليه على هيأة ركوب حمار. أخذ منشارا وبدأ يقص الغصن ذاته، الذي بدأ بالتمايل مع كل حركات القص نحو الأسفل.
قال له رجل مسن:
 ويحك، إنك ساقط لا محالة من علوك.
أجاب وهو منهمك في عمله وتمايله:
 أحب أن يكون السقوط على يدي، فكل من علا وسما، إن لم يتهاو كالثمرة الناضجة، رشقوه وأسقطوه.
13- لوحة

زرت معرضا للفن التشكيلي، فجذبتني لوحة تتشابك فيها الخطوط والألوان، ويتخاصم على أديمها الغموض والفصاحة. قرأت فيها كل شيء ولم استوعب أي شيء. ثم ما برحت أن اكتشفت فيها الشيطان مختبئا، مع كل تحديق فيها يريك وجها من وجوهه المتناسلة.

14- طريق الخلاص

بلغ بي المغص أشده.قصدت إحدى الحكيمات علني أجد عندها دواء أفرج به عن كربتي. وما أن حصلت على بغيتي، لم اصطبر أن أنأى بعيدا، فابتلعت ما ابتلعته دفعة واحدة. وجاءني الخلاص قبل أن يرتد إلي طرفي. فإذا بسائل ساخن دبق ينداح مني مخلفا شريطا طويلا كطائرة نفاثة ينز منها خيط دخان يشي بخط مرورها. وأنا في قمة إنتاجي لسلالة شريطي الذي يمتد بامتداد خطواتي، سألني أحد المارة عن أقرب طريق للخلاص. فكان جوابي يرقص على طرف لساني:
 اتبع هذا الشريط فإنك لن تضل أبدا، وستجد مرادك عند نهايته.

15- فقاقيع

كتبت قصة قصيرة جدا. استحضرت فيها أحداثا جساما وأزمنة متداخلة في شكل شذرات وومضات. فما كان من بطلها إلا أن انسل هاربا. وقال إن مكانه في الملاحم وليس في أقصوصة تتبخر أحداثها كالفقاقيع موزونة بأشبار كاتب مخبول. فعقدت العزم ألا أثق أبدا في بطل من صنع يدي، ولن ألبسه- ما أسعفني القلم- جبتي الورقية، ولن أسبغ عليه أي نعمة مدادية.

16- المرأة المَعْلمة

تمد المرأة رجليها.
تحتل الساحة العمومية.
تبسط قماشا شاحبا.
تعرض بضاعتها.
تبيع ما لا يباع؛ سواكا يابسا، ومشطا متآكلا، وقطعة ثوب لا زمان ولا لون لها.
تضحك مبرزة أسنانها العوجاء المثرمة.
يعفّرها دخان الحافلات.
تتمعن الراجلين، وتقيس الزمن بخفق خطواتهم.
وعندما يعج المكان بتأفف الناس من هذا العالم وغلاء المعيشة تضحك من جديد، وتصب كأس شاي من إبريق عتيق.
لا بيع ولا شراء منذ عهد عهيد، غير أنها ظلت وفية لجميع الفصول والأجواء حتى أضحت معْلمة من معالم الساحة.

17- الشاشة السرمدية

منذ سنين الفتنة الكبرى، يحدقون بعيون حجرية في الشاشة. يهتزون مع البطل الذي يطير من الأرض نحو العمارة الشاهقة. يقهقهون، يتعجبون كيف يحول اتجاه الرصاصة بيده، ويوقف زحف جيش عتي. تتساقط أوراق الخريف عند أقدامهم. يلفظ البحر بواخر العائدين ويحملهم من جديد. تروح الطير وتغدو أسرابا أسرابا. تطوقهم غابات إسمنتية. يهرمون، يدفن بعضهم بعضا. تظل الشاشة مركونة في مكانها. والبطل تمتد خوارقه كحبل غسيل. ويزداد التحديق تحديقا وتدقيقا.

18- القنفذ الأملس

استفاق القنفذ فوجد أشواكه تحولت ريشا ناعما. اغتر بنعومته التي تضاهي الأرانب، ومضى يلعب معها. تعقبهم الذئب. ولخفة الأرانب هربت جميعا، وبقي القنفذ قنفذا. فرغم حلته السندسية الحريرية التي تميز بها عن أقرانه، أحس انه لا يملك دفاعا عن نفسه. فظهره مخترق مكشوف، وحرمته مستباحة. طالما استخف بتلك الأشواك المسيجة له، التي كانت تجعله منبوذا، لكن دون معرة أو نقيصة. وها هو اليوم يسقط بين براثن ذئب جائع تجمعه به ضغينة مستحكمة وحساب تليد. رفع إليه عينين ما عادتا قنفذيتين، تستجديان، وتتوخيان حسن المنقلب. ولأن هذا القنفذ لا يمكن أن يجود به الزمن مرة أخرى، اهتبلها الذئب فرصة ليشفي غليله وغليل سلالته من سلسلة الهزائم والضربات الماحقة التي سجلها عليهم هذا المخلوق الضعيف الشائك. لذا ارتأى ألا يرمي به بين أشداقه بقدر ما سيدنسه تدنيسا أبديا. فدعا الذئاب جميعا ليتبرّزوا بشكل جماعي، وليمسحوا بعد ذلك برازهم بالقنفذ المخملي في طقس احتفالي.
ومنذ هذه الواقعة تم التحذير من انسلاخ القنافذ عن جلدها والعتو على نواميس الطبيعة. ومن ثم أضيفت مادة جديدة في دستور الغابة جاء فيها:
" ليس في القنافذ أملس، ومن غدا كذلك يصبح أنجس"

بقلم: جمال الدين الخضيري

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى