الأربعاء ١٤ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٠٩
بقلم عبد الله النصر

حممٌ تُراوَدُ

بوجهِ شمطاءَ جلسَ واجماً مؤاخياً الاكفهرارَ والانزعاجَ بجلاء، يسترجعَ في نفسهِ مشهدَ وقفتهِ أمام َمديرِ عملهِ، حيث لأولِ مرةٍ تأزرَ بالجرأةِ، فطالبهُ، بأبسطِ حقوقهِ كموظفٍ فاعلٍ بأن يمنحنه الترقيةَ المناسبةَ ليزدادَ راتبه، وتستقيمَ أوضاعه الماليةُ أمامَ ارتفاعِ الأسعارِ المتزايدِ، فأجابه بتعالٍ: (إنكَ لم تتطوَّر، ولم تطوِّر شيئاً في عملكَ) وبتماسكٍ ذكرَ لهُ أنَ خدمتَهُ في الشركةِ تجاوزتْ عشرَ سنواتٍ بإخلاصٍ.. وعندَ ذلكَ أجابَهُ المديرُ بنبرةٍ عاليةٍ، وكأنهُ سيفقأ عينَه حينَ أشارَ إليهِ بسبابتهِ: قُلْ نسختَ سَنَتَكَ الأولى عشرَ مراتٍ.

  (لكني كنتُ مناطاً بعملِ ثلاثِ وظائفَ، وجبَ أن تكونَ لثلاثةِ موظفين، ولاشكَ أنهم سيهربونَ لكثرةِ أعمالها، فتحملتُ بمفردي، وبهذا الاكتظاظِ كنتم تتعذرونَ بعدمِ ابتعاثي لنيلِ دوراتٍ تطويريةٍ أو تدريبيةٍ).

قال هذا، لكن مديرهُ أسمعهُ إجابةً مختلفةً عما توقعها: (ولكنَّ المتعاقدينَ معنا يعملونَ ولا يطالبون). فتبسمَ قائلاً:

 الواقعُ أنكم تعطونهم دونَ طلب، ولقد أوفيتموهم حقوقهم وزيادة، بدءًا من بدلِ السكنِ، وبدلِ ساعاتٍ إضافيةٍ، وسيارةِ نقلٍ خاصةٍ، إلى تأمينِ علاجٍ، وغيرها.. أما نحن فاكتفيتم براتبنا الزهيدِ رغم تفانينا.
انزعجَ المديرُ، فهبَّ واقفاً قبالتَهُ وقال: حقيقةً أنكَ لحاسدٌ لهؤلاءِ المغتربين المساكين.

ومن جانبه غضبْ، فأجابهُ: الحقيقةُ أنهُ مُنذُ اللحظة هذهِ لن يعملَ مثلي لدى مثلكَ من المدراءِ الذين لايفهمون ولايتفهمون ولا يقدّرون.

استرجعَ هذا المشهدَ، ثم تنهدَ كمصابٍ بداءٍ عُضال.. امتدتْ ذراعُهُ بطولِ الأريكةِ ليريحها من مشقةِ التحزمِ فوقَ صدرهِ المثقل.. امتدتْ عاريةً باتجاهِ زوجهِ التي سرعانَ ما استندتْها فرحةً مستبشرةً وهي لاتعلم ما يخفيه.. أحستْ بحرارةِ جسدهِ رُغمَ انطفاءِ مشاعرِهِ.. ألهبها الهوى.. أضفتْ إلى المكانِ (رومانسيةً) جذابةً.. رمقها، فتبسمَ ساخراً، ثم همسَ في ردهاتهِ:

(وأنتِ أيضاً، أعودُ إلى شقتنا الصغيرةِ هذهِ، بسيارتي المهترئةِ المخيفةِ.. تريني منزعجاً، فتفاجئيني بفواتيرِ الكهرباءِ والهاتفِ؟.. وأنتِ تعلمينَ أني لا أملكُ مالاً لسدادِ فاتورةِ الجوالِ.. ولم أسددْ إيجارَ شقتنا للمؤجرِ اللحوح.. لا بل أخبرتني بفراغِ اسطوانةِ الغازِ إلى جانبِ نفادِ المئونةِ، فحاولتِ كفافَ جوعي طوالَ اليومِ بوجبةِ غداءٍ من السندوتشات الباردةَ.. كمْ أنتِ غريبةٌ حينَ تتناسينَ أنّ زواجي بكِ هو ما حملني الكثير من الديون، وكم هو غريبٌ جداً أنكِ تَبدينَ هادئةً وفرحة!).

برشاقةِ جسدها اقتربتْ منه بغنجٍ ودلالٍ رغم تصَخُّرِهِ.. مالتْ إليهِ بوردةٍ حمراءَ توازي فتونها.. تناولها بيدٍ قاسيةٍ عابثةٍ.. وماكادَ يتركُها جانباً دونَ عنايةٍ إلا وسارعتْ إليهِ بشفتينِ لامعتينِ نديتين.. استدارَ نحوها مطوِّقاً عنُـقَها بذراعٍ شديدةِ الوطأةِ.. شهاباً قرَّبَ فمَهُ اليابسَ الخشبي إلى أذنها فردَّدَ فيها كلمةً سريعةً، ثم قربَّ أضراسَهُ المستأسدةَ إلى فمها المخملي الرطب.. وإذا بصراخِ استغاثةٍ شديدٍ يعلو إلى كبدِ السماء.. رحلَ عنها نشوان، وبينا هي تجففُ شفتينِ تتقاطرانِ دماً، كلمتُه الهامسةَ بقيتْ تترددُ في مسامعها: (أنت طالق).


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى