الأحد ١٨ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٠٩
بقلم ماجد عاطف

الذل

أخبركم أن الحكاية حدثت منذ سنوات بعيدة ولكني أتذكرها كأنها تحدث الآن لأنكم لستم عندي، وكلما افتقدتكم تذكّرتها.. ولأقل أن شخصيتها، ربما، هي جدتكم: تفككت العائلة الكبيرة وكان عليها أن تختار. يمكن للمرأة أن تنسى زوجها أو أخاها، لكنها لا تستطيع نسيان أولادها، فتبعتنا بعد تشرد إلى بيتٍ لم يكتمل هو لنا أيضاً. كان عظماً تقريباً وفي فجوات طوبه وضعت عصافير أعشاشها. وكان هناك واحد في السقف حيث يوجد كسرٌ في الطوب.

لم أرد الفراخ التي تزقزق في الحقيقة. لا طائل منها: لا لحم ولا صوت ولا ريش كفاية لتطير قليلاً أو تتحرّك. بل إن لمسها قد يترك عليها رائحة غريبة إن شمّها الوالدان هجراهما..

إنما أردت أحد الوالدين أو كليهما.. لا أعرف أية فكرة طافت في ذهني، لكن امتلاك كائن بهذه الرقة والسرعة والحركة كان بقية من طفولة مرتبكة لم تنجح البتة في اصطياد طير واحد. كانا يحومان مقتربين فزعين، أو يحطان لبرهات مستكشفات على الأشجار القريبة والأعمدة والجدران. في طيرانهما هلع حنون وسرعة ملتاعة وتحفّز جميل، بل وزقزقة مستعطفة أيضاً.

  يا يمّا اتركهم في حالهم..

تسألني جدتكم ولا أكترث.. التملك كان أكثر من فكرة أعدل عنها، مهما بلغ العطف داخلي.
ومكثت لساعات أتربص دخولهما الثقب لأمسك بهم كلهم. لمّا شاهدَت أنني لا أنجح وكلما اقتربتُ ابتعدا، ضرَبت كفاً عريضة بكف، ضاحكةً في تضامن أنثوي ماكر حنون، هازة رأسها صوب اليمين وصوب الشمال:

  الطيرة فرّارة ما بتقدر عليها!

واقترب الوقت من المغرب. أدركت أنني لن أنجح بهذه الطريقة، فغامرت وصعدت سلماً وأخرجت العشّ بأكمله دون لمسٍ للفراخ، ثم نقلته إلى برميل، مفتوح الجانبين، طمرت أسفله بالتراب، ونصبت على أعلاه قماشاً مناسباً. وارتفعت زقزقة الفرخين إلى أقصى حد.. أما البقيّة فقد كانت سهلة: الانتظار متوارياً على مسافة، مع حبل يشد القماش.

واستنكرت أمّي ساخرةً مما أفعل:

  بتفكرها هبيلة؟

لم أخبرها عن تسلسل الغرائز عند الطيور، ولكني التفت للتماهي بينها وبين الأم.. كان الأب المبرقش البُني –وهو أكبر حجماً من الأم، على رأسه من الخلف مثلث دقيق من السواد، كان الأب- أكثر حذراً.. إنه يطل من أعلى شجرة دون أن يقترب من البرميل، كأنه يراقب عن حكمة.. أما الأم المرتابة فتُجري على ريبتها اختبارات افتراضية في التدرج على التراب ثم القفز فجأة.. تهرع وتهلع في آن، تتظاهر بالتقدم والتراجع لتغري متربصاً بالظهور.. وأخيراً استبدّت بها أمومتها فنسيت حذرها وقفزت إلى حيثُ فرخيها.. حين أخرجتُ الأم التي كانت تخفق بأكملها بين كفيّ كقلب، قالت جدتكم منفعلة:

  الأولاد ذلّ!

فحانت منّي التفاتة إلى الطير الذكر الذي ابتعد إلى حافة بناية مجاورة قبل أن يطير بعيداً.. هل الأولاد حقاً ذل أم أن جدتكم كانت غاضبة من شيء آخر؟ من نفسها مثلاً لأنها علقت معنا؟؟ ألم يكن لديها الخيار مهما بدا غريباً وغير مألوف؟

وقلت لكم مراراً قبل أن أترككم لأمكم، أنا الذي عايشتكم منذ مولدكم ساعاتٍ يوميةً لا تصدق، وكنت أحسّ دائماً أن ذلك ليس من فراغ، إنني لن أسأل البتّة عنكم إذا ما خرجتم من عندي، لأن الحياة كلّها فخ.. لا تنسوا هذا أبداً.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى