الاثنين ١٩ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٠٩
قرأت لكم
بقلم عبد القادر محمد الأحمر

الأساس

قال أحدنا: (إن لكل شيء في هذا الكون أساساً، وأساس هذه البسيطة التي نعيش على سطح قشرتها الصلبة هو (حجرٌ) مختلف تكوينه وتركيبه ولونه، ومن هذا الحجر وتحت عوامل الطبيعة من حرارة ومطر تشكلت ترباً مختلفاً ألوانها ومعادنها، ومن بعض المعادن الطينية خلق الله- سبحانه وتعالى- (الإنسان)، ويختلف الإنسان عن الحجر في أنه بشر حي لكنه يتفق معه في القساوة، وقد يفوقه قساوة، إذ أن من الحجر لما تتفجر منه الأنهار، وان منه لما يشقق فيخرج منه الماء، وانّ منه لما يهبط من خشية الله).

وقد سرت صفة القساوة التي في الحجر إلى بعض بني البشر وتمركزت في (القلب) فتحجرت (المعاني) الرفيعة السامية التي أودعها الله قلب الإنسان لتزيل عنه القساوة وتبعد عنه الوحشية، وتكون رباط المحبة بين الوالد وبنيه، ولكن السمع قد سجَّـل: -(قلبي على ولدي وقلب ولدي على حجر).

تشترك كل أنواع الحجر في صفة القساوة فمنها الطري (تالك، جص) ومتوسط الطراوة (جير، فلوريت، أب أتيت) ومنها متوسط القساوة (أورتوكلاز، كوارتز، توباز وقاسي كوروندوم، الماس) ويخدش الألماس (الكربون) كل أنواع الحجر التي تتدرج في القساوة وفق سلم، بدءاً من التالك وانتهاءاً بالكروندوم، صحيح إن قساوة قلب الإنسان (معنوية) إلا أن الله- سبحانه وتعالى- قد سلَّحه بأظافر ذات قساوة حقيقية يخدش بها اللحم (وانظروا معنا- وعلى وجه التخصيص- إلى كيف تُربي أنثى هذا الذكر الإنسان أظافرها، تشبهاً بمخالب الحيوان!!)- ويخدش بها التالك والجص وهي أقل من قساوة نصل السكين بثلاث درجات!.

من حيث القِدَمِْ يُعَدُ الحجر أقدم في الوجود من البشر إذ يقدر عمر الحجر بـ 4,5 مليار سنة، وعمر البشر 2,5 مليون سنة، إن مسألة القِدَمْ هي التي رسَّخت مشاعر الضعف عند الإنسان وطوّعت يده على تجسيد القوى التي يخاف منها حجراً ليحملها همومه ومسؤولية وجوده إلى أن بعث الله من يعرف البشر أن الحجر لا ينفع ولا يضر.

التراب من حجر، ومن التراب بدأت الحياة بكل درجاتها الدنيَّة منها والراقية، فالحياة من حجر، ولا حياة لنبات في حجرة ملساء لا ماء فيها ولا غذاء ولكن مع ولادة التربة من حجر أملس بفعل الشمس والهواء تجد بذور النبات من الماء والغذاء ما يساعدها على الانفتاح والإنبات والنمو والإزهار والإثمار وتكوين البذور لتجديد الحياة.

وقد لا يكفي الماء والغذاء لنبات مراحل حياته طويلة، كأن يكون عشباً معمراً أو شجيرة أو شجرة مثمرة أو شجرة حرَّاجية فتقف حياته في مراحلها الأولية قبل أن تزهر وتثمر وتعطي الثمار بذوراً تتجدد بها الحياة، وفي هذه الحالة تغذي التربة ببذور نباتات حولية تنجز كافة مراحل حياتها في فترة قصيرة قبل أن ينضب الماء وتتوقف الجذور عن امتصاص الغذاء.

وقالوا– أيضا- إن الإنسان وجد في الحجر مادة التعبير عن فكره وفنه ومشاعره، بل كانت أكثر من ذلك لوحة سجل فيها لغته وحكايته عبر مسيرته التاريخية ما قبل الثورة الحديدية التي عطَّلت رسالة الحجر، بصماته الفكرية، ولمساته الفنية إلى أخيه الإنسان القادم من عالم الذرْ إلى دنيا البشر، نحت الإنسان من الجبال بيوتاً سترت عورته، ودفعت عنه ظلم الظالمين واعتداء المعتدين إلى أن أذهب الله عن الإنسان الخوف فانحدر من الجبال باتجاه الوديان ومعه أحجاره ليبني داره ثم وجد الوقت يدفعه إلى النقش في الحجر، أفكاره ووقائـع حياته، رمزاً وإشارةً وحرفاً، وشكّل من الحجر على قساوته تيجاناً محمولةً وبطولات منصوبة كما في وادي الرافدين والنيل والسين والراين.

وفقدت العِمارة بعد الثورة الحديدية/ الصناعية رسالتها في الفن والجمال فغدت البيوت قبوراً معلقة لا صحة فيها ولا راحة، اختلفت رسالة الحجر باختلاف مفهوم الأمة، فعند الرومان كان أساس مدارس اللهو واللعب، وعند العرب المسلمين كان أساس المدارس الروحية والعلمية والصحية والسياسية، وقد ارتبط حجر الأساس بتكوين الأمة ونظرتها إلى الحياة الدنيا والعالم الآخر.

ومنذ نعومة أظافر هذا الإنسان نراه قد أدرك أن لكل مخلوق في هذه المعمورة دورة قد تطول وقد تقصر بقدر أهمية المخلوق ومكانته، فللنبات دورة، وللحيوان دورة، وللماء دورة، وللحجر دورة، ودورة الحجر من المهل إلى المهل تستغرق أحقاباً كثيرة.. ويُعْـلَم أيضاً إن هذه الأرض تتركب من قشرة وغطاء ونواة، ومن الغطاء الأعلى تصدر كتل الأحجار السائلة لتبلغ سطح القشرة عبر فوهات تتوضع حولها وتتبرد بسرعة لا تسمح للمعادن المتشكلة أن تكون مرئية البلورة في جسم الحجر المولود، ومثل ذلك الحجر (البازلت) في الأحجار البركانية، وقد يغلق الطريق أمام تقدم كتل الأحجار السائلة نحو سطح القشرة فتقف في الأعماق لتبرد ببطء معطية بذلك أجمل المعادن المتبلورة في جسم الحجر المولود، ومثل ذلك حجر (الجرانيت) في الأحجار البلوتونية في زمرة الأحجار الاندفاعية ذات المصدر الداخلي بالرغم من اختلافها في درجة التبلور ومقدار البعد عن السطح.

وتفقد هذه الأحجار بما فيها من معادن قدرتها على مقاومة الطاقة التي في الشمس والقوة في الريح والفعل الذي في الماء، فتتشقق وتتكسر وتتحلل ثم تشرع قوى أخرى في تكوين معـادن أرقى، منها ما يتوضع مع مكونات أخشن فتكون التربة، ومنها ما يهاجر مع الماء لتتركز وتترسب في أعماق البحار والمحيطات طبقات رسوبية من أحجار شتى مثل الجير والجص، وقد تغوص هذه الأحجار عمقاً فترتفع حرارتها ويزداد الضغط عليها فتتحول إلى أحجار أخرى مثل الرخام والمرمر

وقد يكون الغوص أعمق والحرارة والضغط أكبر، فتعود الأحجار إلى مصدرها كتلا حجرية سائلة0 وهكذا تكون دورة الحجر من المهل إلى المهل ، كدورة الإنسان من التراب إلى التراب ، ودورة النبات من البذرة إلى البذرة).. انتهى

وهكذا نستوعب رؤية أن تركيب البنية (اللاعضوية) يبدو بدواً طبيعياً خفياً في هذه الأحجار كمظهرٍ أول من مظاهر التدرج نحو العضوية، وكأنّا بها كالمضغة التي لم تتشكل بعد !!

فهذه الحجارة - كما ذكر ابن الطفيل في روايته الخالدة (حي بن يقظان)- ككل شئ:- ".. تتحرك إلى الغاية بقوة خارجية، وهي القوة التلقائية التي تعمل على توجيه الكائن توجيها بسيطاً واحداً هو (حب البقاء) بعكس الكائنات الحية اللاحقة التي تتحرك بدافع داخلي، وفيها- أي الحجارة - تضعف الصورة كثيراً حتى تكاد تكون مادة بلا صورة ، كما أنها في أدنى درجات السلم كالأس للبناء ، كما أنها أجسام مقدر لها طول وعرض وعمق)..


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى