الاثنين ١٩ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٠٩
بقلم رنا جعفر ياسين

كابوس اللحم القاتم

الحلمُ ذاته... وأنا في حالةِ صحوٍ قسرية.

أطفأتُ اليومَ المحشوَ بصراخٍ صامت؛ في محاولةٍ لمزاولةِ النومِ بعيدًا عن ضجيجِ الحسرةِ من عدم ِتحقيقِ شيءٍ يُذكر.. أو لا يُذكر.
المصباحُ العالقُ في سقفِ الغرفة كانَ محمرًا كعادتهِ.. يرسمُ على جبينِ السقفِ المنقضِ على وجهي لحظةَ مفارقةِ الصحو أشكالاً من النقوشِ والدوائر.. هي نفسها الموجودة على الغطاءِ القماش المحيط به، والذي عمدتُ إلى إحضارهِ معي من بغداد.. مندسًا بين أكداس الثياب؛ ليزينَ السقفَ؛ محيطًا بهذا المصباح الناطق فيما بعد.

ولكن...

كلما حاولتُ اقتناصَ لحظةِ وداعِ لوازمِ ومتطلباتِ يومي المتعبة.. بادرني المعلقونَ في السقفِ بحوارٍ يتكرر كلَّ يوم.

أراهم معلقينَ في السقف... هياكلَ عظمية.. جماجمَ.. أشلاء هياكل ما زالَ اللحمُ المتعفنُ يغطي بعض مساحتها التي لم يصلها الدود بعد.

الحوارُ ذاتهُ...

والمشهدُ ذاتهُ...

...

امرأةٌ مزقتها الحرب.. فقدت جنينها بعد أن خذلتها الحياة بموت زوجها وابنتها في انفجارٍ ملغومٍ باللا مبررات.. مازالت تحملُ صورةَ أشلاء قتلاها: زوجٌ مبعثرٌ، طفلةٌ محترقة، وجنينٌ تعفنَ في رحم سوداء.
رغبتها في لمِّ صحونِ المائدة، وإطفاءِ النارِ تحتَ قدر الطعام بعد أن ملأهُ رمادُ الانتظار الطويل ما زالت طرية. تتذكر في كلِّ ليلةِ الرياحَ وهي تصّطكُ بالأبواب بعد أن كُسرت أقفالُ البلاد.. فصارت - وفي كلِّ ريحٍ - ترتطمُ بأطرِ الفراغ المدسوسةِ في جدرانِ بيتها الخاوي.

بحسرتها المتزايدة.. تطلبُ من الجيرانِ إغلاق باب بيتها الرئيسي؛ على الأقل؛ علهُ يحفظُ صورةَ الموتِ الوحيدة؛ التي مازالت تجمعهم كالمصلوبين على حائط البيت القائم على هشيم الروح.

يعلو صوتُ هذيانها :

 أغلقوا بابَ المذبحة.. أغلقوا بابَ الجحيم.. فما زلنا مصلوبينَ على جذعِ النخلةِ في حديقةِ الوهم.. منذُ أن حمَّلتنا الأوطانُ أمانةَ الهزيعِ المتجدد... ولكننا عائدونَ لا محالة.

يقاطعها الشابُ الغارقُ في موته؛ وأنا استمعُ لهذيانها بانفعالٍ بارد اعتدته كلَّ ليلة :

 سيدتي.. الآنسةُ التي تستضيفنا في سقفِ غرفةِ نومها تريدُ أن تنام.. لا تقلقيها.. أنا أيضًا أريدُ من خطيبتي أن تبحثَ عن أصابعي التي بعثروها في حديقةِ البيت.

يعلو صوتُ نحيبهِ المتشنج.. أشعرُ أنا بالتقزز، وبحرارةِ تتوغلُ في أصابعي.. يكملُ هو كلامهُ:

  كانوا قتلةً مناهضينَ للحب.. على الرغمِ من أن أحدهم كانَ يلصقُ صورةَ شيطانةٍ على زنادِ بندقيتهِ.. والآخرَ كانَ يمسحُ سكينهُ بفوطةِ أمهِ العائدةِ توًا من الحج..

كانوا كرماءَ معي.. لم يطلْ العذاب.

سكتَ قليلاً.. كمن يكفكفُ الدمعَِ والدماء.. أكملَ:

 بل أسرعوا في قطعِ رأسي.
تئنُّ معهُ بصوتها الشحيح.. السيدةُ العالقةُ قربه.. المعلقةُ كالبندول الخائف مما بعدَ الموت.. تحاولُ مواساتهُ بالأنينِ.. تعدهُ بالأمانِ في غرفةِ الآنسة.. فلا خوفَ بعدَ الآن... تئنُّ.. وتتحسر.. تبكي... يقاطعها :

 مازلتُ يا سيدتي أتذكرُ لحظةَ فصلِ الرأسِ عن الجسد.. وأنا متمسكٌ برعشةِ الروح..
رأيتُ رأسي فوقَ بلاطِ مدخلِ البيت.. وأصابعي تُقطَّع...
لم أفهم سببَ ذلك.

كانت السكينُ حادةً جدًا... قطَّعوها واحدًا تلو الآخر.. كانوا يضحكونَ والجسدُ يرتعشُ ويلفظُ الدماء.. وسكنت رجفةُ موتي بعدَ أن أخذوا إصبعي الذي فيهِ خاتمُ الخطوبة..

ربما لم يقصدوا أخذهُ.. ولكن يبدو أن الخاتمَ كانَ ضيقًا ولم يستطيعوا نزعهُ عن إصبعي بسهولة.

سكتََ، وسكتَ أنينُ السيدة.. فبادرها بالنواح :

  أخذوا رأسي أيضًا.. وأنا صامتٌ.. أتفرجُ على هولِ ضحكهم.. كانوا سعداءَ جدًا.. أخذوهُ إلى صندوقِ السيارة.. وألقوهُ فوقَ رؤوسٍ أخرى.. الباكي.. والضاحك.. ومن كانَ يموتُ بصمتٍ... كانت ملطخةً بالدماءِ والوحل والأحلام..

رموها في حاويةٍ للأزبالِ والجثث..

لم يسعفني الوقتُ لأوصي خطيبتي بلمِّ أصابعي - على الأقل - ففيها بصماتُ قـُبـَّلها الطويلة.. حينَ كانت تمسكُ بيدي، وتُقبِّلُ أصابعي.. واحدًا واحدًا.. وتقولُ لي:

أحبكَ

أعشقكَ

أتنفسكَ

أذوبُ فيكَ

تملكني حتى آخرِ نفسٍ ما حييتُ

لم تجد رأسي..ِ ولم تجد أصابعي المبعثرة في الحديقة... ربما أكلتها القطط الآن.

يعلو بكاؤهُ الهستيري الممزوج بضحكة مجنونة تستهزأُُ بالدمارِ والموت... والسيدةُ صامتة.. والجميعُ صامتونَ.. والضوءُ يتأرجحُ بينَ الخيرِ والشر.. بينَ الحقيقةِ والخيال... بيني وبينَ العالقينَ في سقفِ الغرفة.
يُقطعُ الصمتُ بصوتهِ :

 جسدي مدفونٌ.. وجمجمتي هنا.. معكم في سقفِ غرفةِ الآنسة.

يحاولُ تقمَّص الهدوءَ:

 فلندعها تنام.. وليست كلُّ أمانينا قابلةً للتحقيق.

.......

صمتوا قليلاً..

تثاقلت أجفاني المتوجسة من بدءِ الحوار هذا من جديد.

أفزعني صراخُ الأطفال المعلقينَ في الناحية الثانية من السقف يسارَ المصباح... إنهم يلعبونَ بأشلائهم.. ويتذكرونَ لحظةَ موتهم... يلومونَ بعضهم؛ لماذا قبلَ والدهم مقابلَ مبلغِ عشرة آلاف دينار أن يأخذَ أولادهُ الحقيبةَ الصغيرة ليضعوها في الجزيرة الوسطية لذلك الشارع المدمي؟.
سمعت منهم أنهم كانوا فقراء.. والدهم حارسُ البستان الذي ماتت أغلبُ أشجارهِ بعد انقضاض الحرب جراءَ دخانِ المفخخات التي تمارسُ انفجارها كلَّ يومٍ تقريبًا على الجسرِ العابرِ فوقَ البستان؛ عموديًا على النهر.
في كلِّ أنين متكرر لهم.. كانوا يذكرونَ الزائرينِ الغريبينِ وهما يكلمانِ الوالدَ، ويدسانِ في يدهِ الورقةَ النقديةَ الخضراء ذاتِ العشرةِ آلاف روحٍ تزهق.

أقنعا الوالدَ أن هذا العملَ جهادٌ أوصى بهِ اللهُ لإخراجِ الوافدين على البلاد.. وأن هذا العملَ لن يأخذَ سوى دقائقَ معدودات.

لم يعرفوا أن هذهِ الدقائقَ ستصدِّرهم قطعًا من اللحمِ الممزوجِ بالطين إلى هاويةِ القدر؛ حينَ لوثوا السياراتِ بالدمِ واللحمِ والعظام وهي تقطعُ ذلكَ الجسرَ... ليفاجأَ راكبوها بالدويّ من انفجار العبوة،ِ وتطايرِ أشلاءِ الأطفال.. كألعابٍ نارية.

ذلكَ الحوار اللائمُ لا يتكرر كثيرًا.. ما أسمعهُ منهم حين يلعبونَ سؤالٌ واحد يتكرر:

 لماذا نحنُ؟؟؟

يخدعهم صخبُ الوقت والذكريات.. لا يقاطعونَ الآخرين.. بل يقتنصونَ فرصة صمتِهم ليبدأ اللعبَِ وتكرار السؤال.

لم تكنْ هياكلهم كاملةً.. حولهم تخيمُ هالةُ رعبٍ وملامحُ ذعرٍ طفولي.

أسمعُ صوتَ ثلاثةِ أطفالٍ، وأرى في السقفِ عظامًا تائهةً.. ثلاثةَ سيقانٍ.. أربعةَ أذرع..عمودينِ فقريين.. جمجمةً ونصف جمجمة.. كفًا مفصولةً.. وبقايا لحمٍ تعفنَ بالذكرياتِ التي لا تبرحُ أن تفارقهم عندما كانوا يلعبونَ ويركضونَ قربَ النخلةِ المائلةِ ناحيةَ النهر.

ويتذكرونَ وصيةَ والدهم الأخيرة:

  عودوا بسرعة.. الله معكم.

بدأوا الآن بالبكاء.. أسمعُ طقطقةَ مفاصل الأشلاءِ وهم ينتحبونَ... ويلعبونَ أيضًا..

يا لذلك الخوفِ المفجع الذي تقمَّصَ أرواحهم لحظة انفلاق الأجساد..
طمأنتهم السيدة، وقالت لهم من الناحيةِ الأخرى

  لا تخافوا.. أنتم الآن في أمان في غرفةِ الآنسة..

كلنا في أمانٍ هنا.. أنا.. والعاشق المغدور.. وأنتم أيضًا.

ناموا..

ولننسَ ما فات

حاولوا النومَ.. ولتنمْ الآنسةُ بهدوء

هششششششش

ناموا.. ناموا

.......

حاولتُ النومَ مجددًا..

هدأوا.. وحلقَ السكونُ في فضاءِ غرفتي.

أصواتٌ أخرى اعتدتها في يقظتي المسائية؛ لم أسمعها في تلكَ الليلة... هيكلُ الشيخِ العجوز بدا ساكنًا.. هادئًا.. وشاردًا، كمن يتهيأُ لاستقبالِ موتٍ جديد.

والشابةُ بجمجمتها المثقوبة كانت صامتةً اليوم.. لكنها بالتأكيد تستعدُ للشموخ؛ محاولةً نسيانَ دفاترها الجامعية الملطخةِ بالدمِ والعري.
رأيتُ السقفَ يتمددُ ويستطيلُ أكثر..

هدأوا أكثر..

أغمضتُ عينيَّ..

بدا الهدوءُ غريبًا.. طالَ، لم اعتد ذلكَ

اختلستُ النظرَ، فتحتُ إحدى عينيَّ بعدَ قليل..

يا للهول...

رأيتهم يستقبلونَ زائرينَ جدد؛ لم أميزهم.. كانوا متفحمينَ.
السقفُ تمددَ أكثر.. الهياكلُ والجماجمُ والأشلاء تعلقُ فيه بهامشِ الوطن.
كانوا قد جهزوا لهم كلَّ شيء.

أغمضتُ عينيَّ ثانيةً..
أعرفُ أنَّ صوتَ القادمِ سيكونُ أعلى.. فصراخاتهم لا تغلقُ الجراح.. كما وأن يومَ غد سيكونُ حتمًا مفخخًا بالمفاجآت والفجائع.
سمعتهم يقولونَ للقادمين:
أهلاً وسهلاً بكم في سقفِ غرفة الآنسة.

وضعتُ الوسادةَ على أذني
لكنني شعرتُ قبلها أن المصباحَ المحمر يقطرُ الآنَ دمًا، اتسعت دوائرهُ لتملأَ السقفَ بالأسئلة...
لكنني سأحاولُ على الرغمِ من ذلكَ اقترافَ النوم.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

 إعلامية، وشاعرة، وتشكيلية.- من مواليد بغداد عام 1980، وتقيم حاليًا في القاهرة.- درست في كلية الهندسة المعمارية - جامعة بغداد، ولم تكمل فيها رغم كونها من الطلبة الأوائل بسبب سفرها خارج العراق (بعد تردي الأوضاع الأمنيةِ وتعرضها للخطف في شهر آب عام 2006).- عملت معدةِ ومقدمة برامج في قناة الشرقية الفضائية، من 2007 حتى 2009.- عملت كمعدةِ ومقدمة برامج في قناة البغدادية الفضائية عام 2007.- كان لها عمود ثقافي في جريدة اتجاهات الثقافية - في بغداد - تحت عنوان خربشة الحبر الوردي، 2006.- عملت في وزارة الثقافة العراقية (مجلة دجلة)، 2005.- عملت في منظمة أصدقاء الصحة العراقية - المكتب الإعلامي، 2004- عملت في جريدة الجريدة في بغداد، كمحررة في قسم التحقيقات، من 2003 وحتى نهاية 2004.- شاركت في العديد من المهرجاناتِ والأمسيات الثقافية داخلِ وخارج العراق.- نُشر لها العديد من المقالاتِ والدراساتِ والنصوص في العديد من الصحف والمجلات والمواقع الثقافية الإلكترونية ، مثل جريدة الزمان ، الغد الأردنية ، القبس ، الشرق الأوسط ، الراية القطرية .- فنانة تشكيلية لها العديد من المعارض والمشاركات داخلِ وخارج العراق (التشكيل بمادة الحديد).- تجهز الآن لإقامة معرض جديدِ وبمواد جديدة (كولاج) تحت عنوان (حربموت.. ثم الخروج من غيبوبة الدم).- استخدمت أعمالها التشكيلية كأغلفة لعدد من الكتبِ والمؤلفات.- شاركت في العديد من المعارض التشكيلية داخلِ وخارج العراق، وكان لها تجربة في معرض (خلف الأبواب الموصدة) في فرنسا عام 2004ِ وكان على هيئة عرض شامل للتشكيلِ والشعرِ والموسيقى.- رئيسة (ملتقى الشباب للإبداع) / (سابقًا).- عضو في الاتحاد العام للأدباءِ والكتاب في العراق.- عضو في نادي الشعر في بغداد.- عضو مؤسس في جماعة أفكار للفنون التشكيلية.- عضو مؤسس في حركة المرأة العراقية المعاصرة.- ناشطة في مجال حقوق المرأةِ والشباب.- حصلت على جائزة الشارقة للإبداع العربي في المسرح عن مسرحية (إبادة مستعارة)، عام 2009- حصلت على جائزة نازك الملائكة في الشعرِ والتي نظمها الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق عن قصيدة (الحرب تنهض من موتها)، عام 2008.- حصلت على قلادة العنقاء الذهبية في مهرجان العنقاء الذهبية الدولي الرحال لخصوصية تجربتها الشعرية ، 2008• الإصدارا ت :- طفولة تبكي على حجر : مجموعة شعرية، صادرة عن الاتحاد العام للأدباءِ والكتاب في العراق 2006.- مسامير في ذاكرة : مجموعة شعرية، دار المحروسة، القاهرة 2007.- مقصلة بلون جدائلي : مجموعة شعرية، دار سنابل للكتاب، القاهرة 2008.- المدهون بما لا نعرف : نصوص ولوحات، دار سنابل للكتاب، القاهرة 2008- إبادة مستعارة : المسرحية الفائزة بجائزة الشارقة للإبداع العربي ، عن دائرة الثقافة والفنون بالشارقة ، 2009- شهية طازجة : مجموعة قصصية ، شمس للنشر والإعلام ، القاهرة 2009

من نفس المؤلف
استراحة الديوان
الأعلى