السبت ٢٤ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٠٩
بقلم وليد رباح

الأرض تحتضن الجثث

سأحدثك بما لم تسمعه.. شرط أن لا تذيعه حتى تبلغ من العمر مثلما بلغت.. فان تجاوزت النصيحة فإنها لعنة قد تصيبك لا أريدها لك.. ولا لمن يأتي من بعدك.. هذا سر حفظته عن والدي وربما أخذها عن جدي فلا تجعلني أخالف نصيحته. قلت لأبي: ساحفظ وصيتك ما استطعت..

ولقد انتظرت حتى بلغت أو أكاد ما قاله.. ولم استطع صبرا لأيام آخر كيما تتم أيام السنة.. وهأنذا أبوح بالسر بعد أن تناسيته زمنا طويلا.. وأني لأقول في هذا الزمان.. لم حملتني يا أبي ما لم استطع عليه صبرا.. ولكن بعدي عن المكان الذي شهد الأحداث شجعني على أن استمر في الحكايه..

قال: راجت في قريتنا شائعة تقول أن نمرا مفترسا يربض على قارعة الطرق الرملية بانتظار فرائسه.. سواء كانت الفريسة انسيا أو من الحيوان.. وكم من مرة سمع أهل القرية عن جثث ممزقة لحيوانات أكل منها بعضها وترك البعض الاخر.. لكن احدا لم يؤكد الرواية.. وانما هي حكايات تناقلتها الالسن دون دليل..

وكان في قريتنا رجل بلغ الأربعين يدعى القناص.. فر من الجيش العثماني بعد انتهاء الحرب في بعض بلاد الله الواسعه.. لم يذهب إلى قريته في الجليل الاعلى خيفة أن تقبض عليه السلطات..وإنما استقر في قريتنا التي لا يعرفه أحد فيها.. يتسلح ببندقيته (الدك) التي احضرها يوم فراره عندما كان البارود لم يزل في أوائل اكتشافه.. ولقد بلغت به الحمية حدا أن يعلن أمام أهل القرية أنه سوف يتربص بالنمر حتى يقتله.. واقسم أن يحضر جثته ويلقيها بين أرجلهم أو يأتي به حيا كي يصبح أضحوكة الولدان في القريه..

سمع الناس ذلك ففرع البعض وتوجس البعض الآخر خيفة.. ذلك أنه المسلح الوحيد في القرية.. وغيابه يعني أن يستغل اللصوص من القرى الآخرى فرصتهم فيعيثون في قريتنا فسادا..

لكن الأيام أخذت تترى وتلتها أسابيع ولم يسمع أهل القرية من القناص شيئا.. كان الرجل يخرج بسلاحه في أوائل الليل ولا يعود إلا عندما يتنفس الصبح فيلتقي بالفلاحين وهم يشقون الطرق المتربة ويحملون المناكيش ويسوقون دوابهم إلى موارسهم للزراعة والقطاف. كان بعضهم يضحك ساخرا والبعض الآخر يرثي لحاله.. فقد نبتت لحيته واصبحت كالأشواك ونبت بعض الشيب فيها فغدت مثل ليل يومىء بانبلاج الصبح.. وتهلهلت ملابسه وغدت متسخة لا يجد وقتا لغسلها.. فالنوم يأخذه طيلة النهار ولا يستفيق إلا بعد أن يعود الناس من موارسهم إلى منازلهم. ثم يسير في الطرقات تائها وقد اثقله الهم لأنه لم يستطع أن يفي بوعده للقرية..

ومضت شهور متلاحقه.. وأخذ الناس يهزأون منه ومما وعد به.. فإن رأه أحد الولدان أمسك بعصا وصاح به هازئا: عصاي أحسن من بندقيتك.. وإن رآه شيخ برزت أسنانه الصفراء المهترئة من فمه مثل الأشواك لكي تعلن عن خيبة بالرجل فيتوارى عن الأنظار كاسفا ذليلا.. وإن رأته امرأة حافية القدمين تمنت لو كانت محتذاة لكي تطال رأسه.. مما حدا بالقناص أن يتحاشى الناس في سيرهم ويذهب إلى مهمته سرا ويعود كما يذهب..

وفي صباح يوم رأى احدهم من فلاحي القرية بضعة خراف على قارعة الطريق وقد قطعت منها الرؤوس وتمزقت جلودها ولحومها.. ورأى آخر رجلا قطعت اطرافه وتمزق بطنه وظهرت امعاؤه ولكن الناس تفقدوا انفسهم تلك الليلة فلم تنقص القرية احدا من الرجال.. وخمن البعض أن القتيل أو الضحية من قرية أخرى ربما كانت قريبة أو بعيده.. فدفنوا الجثة حتى لا تنتشر الرائحة العطنه.. وأخذ اهل القرية ينامون باكرا أو يلزمون بيوتهم ولا يسمحون للاطفال باللعب بعد أن تغيب الشمس.. وفي غضون أيام انتشر الهلع والخوف وراجت بعض الاشاعات أن النمر يتجول في النهار ايضا.. فانقطع اهل القرية عن الذهاب لحقولهم إلا من كان جائعا ويفضل الموت على حياة بائسة.. واصبح الخوف رائد الجميع فكانوا يسيرون في الطرقات وقد سلطوا عيونهم على الرمال لا يرى احدهم احدا.. ولا يحدث البعض بعضهم الاخر..

أخيرا قرر مختار القرية أن يجد حلا.. فاختار بعض العقلاء وارسل تابعه اليهم كي يجتمعوا اليه في عز الظهر في منزله ومناهم بالغداء حتى يستجيب الجمع..
قال المختار: انتم تعرفون ما وصلت اليه الحال.. فماذا تقترحون؟ قال احدهم ، لنحمل المناكيش والعصي ونفتش عن النمر المفترس.. فنهجم عليه هجمة رجل واحد فنقتله.. وقال آخر بل نغلق ابوابنا جيدا وننقطع عن التزاور في الليل والنهار.. وقال ثالث: سنرحل إلى قرية اخرى فهناك الامن والامان.. وتصدي اصغرهم سنا فسأل الجمع: هل رأى احدكم النمر بعينيه؟.. نظر الجمع إلى بعضهم البعض ولم يجيبوا.. قال صغير السن: اني اخمن أن النمر برىء مما نصمه به.. ربما كانت عصابة من المجرمين أو احدهم أو مجموعة تريد ترويع القرية كي نتركها ونهاجر إلى مكان آخر ثم يصطاد الغنيمة دون تعب ولا نصب.. ولكن آخر قال: لو كانت مجموعة من المجرمين لما مزقوا لحوم الخراف وتركوها على قارعة الطريق على الاقل يأكلونها.. وما ذنب رجل لا نعرفه يسير آمنا إلى قريته.. قال الصغير.. انها خطة كي نترك منازلنا ونرحل.. صدقوني..
وبرقت عينا المختار بشىء من الخبث والفضول والدهشة ثم قال: دعونا من ذكر الجرائم والمجرمين.. غدا سأسير منفردا إلى مركز الجندرمة العثمانية في المدينة فاخبرهم بما يحدث.. فهل انتهت الحكاية.

دك القناص طلقة من البارود في بندقيته العتيقه.. وكمن إلى جانب الطريق بانتظار النمر.. كان على علم بان الطلقة الاولى هي الاخيرة.. وانه اذا لم يصب النمر في مقتل فان ذلك يعني ضياع حياته هدرا. اذ بين تجهيز الطلقة والاخرى دقائق متعددة.. وفي غضون سكوته العميق سمع خشخشة بين الاشجار الوارفة على الجانب الاخر من الطريق.. كان الظلام دامسا والقمر محاقا.. بحيث تمد اصبعك امام عينيك فلا تراه.. وكتم القناص انفاسه.. وجهد في رؤية من يخرج من بين الاشجار ولكن عينيه خانتاه فلم يتبين شيئا.. ازدادت الخشخشة قربا منه.. وبعد لاي رأى شبحا يتحرك نحو الطريق الترابية فخمن انه النمر فنشن في الفضاء الواسع وضغط على الزناد.. ولم يسمع شيئا سوى صرخة آدمية اخترقت اذنه برعونه.. وهوت جثة على الأرض كأنما القيت من حالق فارتعد جسد القناص خيفة وخشية ورعبا.. وظل على حاله لدقائق لا يدري ما يصنع.. واخيرا واتته الشجاعة لكي يتفقد ما جرى..

كان الفلاح مسعد قد أخذ الجهد منه مأخذه.. فتفيأ ظلال شجرة في مارسه عند العصر وراح في سبات عميق بعد أن قال لنفسه انه سينام ساعة ثم يتجه نحو القرية.. لكنه عندما استفاق كان الظلام دامسا.. وكان السكون يرسل إلى اذنيه طنينا مزعجا.. وبصيص ضوء يأتيه عن بعد أميال يومىء انه لم يزل حيا.. واصابه الرعب بعد أن جال في عقله أن النمر سوف يفترسه في هذه الليله.. فكر في أن يصعد إلى اعلى الشجرة ويلتصق بفروعها حتى الصباح.. لكنه يعلم أن النمر يمكن أن يتسلقها بعد أن يشم رائحة اللحم الادمي.. وقرصه البرد فاهتز بدنه.. فاسماله كانت لا تستر جسده إلا قليلا.. فقر رأيه على أن يجتاز الطريق نحو القرية.. وحدثته نفسه أن لا بأس من المحاولة.. فان صادفه النمر وهو في الطريق خيرا من أن يأتيه وهو في المارس بعيدا عن الناس فيمزق لحمه ويأكل رأسه واطرافه.. اذن فالخيار أن يمشي نحو القرية فان نجح في الوصول فقد اصاب.. وان لم ينجح فهو مأكول مأكول على الحالين.. فام العيال تنتظره ولسوف تتهمه بانه متزوج من امرأة اخرى وقد امضى جزءا من الليل في مخدعها.. وان صادفه النمر!!! يا للمصيبه.. وهكذا كان.. فقد اتخذ طريقه نحو القرية.

في الطريق كانت نسمات الهواء التي تهب تمايل اغصان الاشجار بنعومه.. لكنه كان يراها على اشكال مختلفة.. مرة كالنمور واخرى كالاشباح وثالثة شياطين تريد انتزاع روحه.. غير انه كان يواصل السير ملفعا بالرعب والخوف والهلع..

ولاحت امام عينيه بصيص اضواء الاسرجة على اطراف القرية فتنفس الصعداء.. ها قد وصل.. لكن عقله حدثه أن النمر ربما جال باطراف القرية كي يلتمس الفريسة.. فقرر أن يقطع الطريق الترابي متئدا متلصصا فان صادفه النمر أخذ حذره ودافع عن نفسه بقدر الامكان بعصا كان قد قصفها من احد الاغصان.. لكن المحذور وقع.. فآخر ما وصل إلى سمعه طلقة لم يعرف مصدرها فتهاوى..

غامت الدنيا في عينه.. وضع يده على رأسه متحسسا.. كان السائل اللزج يشخب من رأسه كشلال لا يتوقف.. ثم راح في عتمة ابدية..

لم يتبين القناص وجه الضحية ولم يعرفه في الظلام.. وتذكر في خضم انزعاجه قداحة الفتلة التي يحملها في جيبه.. وكان قد لف سيجارة من الدخان الاحمر فحاول اشعالها عدة مرات لكن القداحة خانته.. وعلى ضور الشرر المنبعث منها رأى وجه الضحيه.. يا لله.. انه مسعد.. ما الذي اتى به إلى هنا في هذا الليل؟ فتفقد جيبه كي يجد فيها ورقة أو شيئا يمكن أن يشعله ليرى مدى الاصابة.. ولم يجد في الجيب غير هويته العثمانية ابان كان في الجيش فقام بالقدح حتى اشتعلت اطراف الهوية واحترق جزء منها.. فرأى وجه الضحية.. كانت عيناه مفتوحتان كبلورتين زجاجيتين تقدحان في ظلام الليل.. وكان الدم قد غطى ملابسه واصطبغ لونه بالاحمر.. وانحنى فوق الجثة ووضع اذنه فوق قلب مسعد.. لكنه كان ساكتا كأنما هو في بئر عميقة..

جلس إلى جانب الجثة وبكى.. ها هو يرتكب جرما بعد أن منى اهل القرية باصطياد النمر.. أفيكون مسعد هو النمر حقا.. وانه صاحب تلك الجرائم التي كانت تقع في القريه؟ لكن مسعدا لم يكن مسلحا.. ومشهود له في القرية التعقل والهدوء والحكمه.. فكيف يمزق اجزاء الضحية ويفردها على قارعة الطريق.. اذن ما الذي اتى به في هذا الليل.. هل ثمة علاقة بين مسعد وبين ما يقع من مآس.. وتذكر مرة انه قتل امرأة اثناء الحرب في شرق اوروبا لا لذنب جنته إلا انها رفضت أن تسقيه ماء.. وانه ليذكر كيف أن صغارها قد ارتموا فوق جثتها يبكونها ولكنه لم يكترث لذلك.. شرب الماء ومضى..

حاول ترتيب افكاره بعقلانية.. ما الذي سيفعله؟ هل يخبر اهل القرية بما جرى.. واذا ما تم ذلك فسوف يسلمونه (للجندرمه) العثمانية.. فيقبض عليه بتهمتين.. احداهما الفرار من الجيش والثانية جريمة قتل.. وربما (خوزقته) الجندرمة امام الناس جميعا.. لا. لن افعل ذلك.. سأقوم بدفنه في هذا المكان تحت تلك الشجرة الوارفة.. لكنه لم يكن يملك فأسا يحفر به القبر فاستعان بماسورة بندقيته وبدأ الحفر بعيدا عن الجثة عدة امتار..

لم ينتبه القناص إلى أن الحرارة المنبعثة من حرق الهوية قد طالت اصابعه فالقاها فوق الجثة فعلقت ما بين صدر الضحية ودشداشته المهترئة.. ودخلت إلى صدره واستقرت ما بين اللحم والقماش فانطفأت.. واحترق جزء من الشعر في صدر الضحية..

تنفس الصبح ثم تنفس القناص الصعداء.. ها هو ينتهي من حفر القبر الذي ستستقر فيه الجثه.. سحبه من رجليه عدة امتار ثم القى به إلى الحفره.. ثم قام باهالة التراب على الجثة وداس على الرمل الاحمر بقدميه حتى يوحي للناظر بان الحفر ليس جديدا.. ثم القى ببعض الحشائش على التراب فاخفاه جيدا.. ومن بعد ذلك جاء بحجر كبير جهد في حمله ودحرجته حتى استقر عند رأس الضحية فوق التراب.. كان يريد أن يعرف موقع الجثة التي دفنها.. وهي حالة تصيب من يرتكب جرما لانه يرد إلى الموقع كلما فكر في امر جريمته فيحوم حولها.. وهكذا بعد أن اطمأن إلى ما فعل قام بازالة التراب من على ثيابه وحمل بندقيته وسار باتجاه القرية.

افاقت زوجة مسعد عند الصباح فلم تجده في البيت.. صرخت باعلى صوتها فايقظت الاطفال.. اعتمرت شالها الممزق بسرعة واسرعت خارج البيت تستصرخ الناس عمن رأى مسعد.. ذهبت إلى بيت المختار فتصنع الحزن قائلا: ربما كان ضحية النمر الاخيرة.. سنقوم بحملة في الليل للبحث عنه.. طلب اليها أن تذهب إلى المارس لترى أن كان قد تأخر في عودته فنام هناك.. عادت إلى بيتها واصطحبت اطفالها في رحلة إلى المارس الذي يبعد عن القرية اميالا.. لكنها لم تجد شيئا.. نادت عليه باعلى صوتها فلم يجبها غير الصدى.. تفقدت البئر الجافة في المارس وأخذت تنادي ولكن البئر كان يردد الصدى متذبذبا.. عادت إلى القرية وأخذت تسأل الناس في الطرقات لكن احدا لم ير مسعد.. اشفق الجيران عليها وعلى اطفالها فغدو يقدمون لها بعضا من الطعام في الأيام التاليه.. لكنهم انقطعوا بعد اسابيع لانهم بحاجة لذلك الطعام..

أما القناص فلم يخرج من بيته لاسابيع عديده.. أعمل الفكر فيما جرى فقاده ذلك إلى شبه الجنون.. وعندما خرج من غرفته الحزينة ساح في الازقة يطلب الطعام من المارة ومن الدكان الوحيد في القريه.. وغدا يركن إلى زاوية الزقاق لكي يلتهم بعضا من الخبز الجاف الذي يجود به الناس.. ويخفيه عن اعين الاطفال خشية أن يتخطفوا منه الطعام.. صار الناس يتأذون منه ومن رائحته العطنه.,. واختفت بندقيته التي كان يعتمرها دوما ولا يعرف احد اين اخفاها.. وقال الناس في القرية أن القناص جن فأخذ الصغار يركضون خلفه في الازقة ويتوارى عنهم إلى اقرب مار في الزقاق لكي يبعد الاطفال عنه..

اما حمديه التي كانت تملأ جرتها من (عين) القرية في كل مساء فقد رثت لحال القناص.. كانت قد وضعت (عينها) على القناص وبادلها نفس (العين).. حزنت حمدية كثيرا.. فقد كان زينة الرجال.. وكانت بندقيته وبقايا البنطال (البرتشز) الذي يلبسه يعطيه فتوة وعنفا لذيذا مع ما يستتبع ذلك من طول للشوارب وبرمها كلما مر من امام عين القرية و (يثقب) جرتها بنظراته المتلهفة.. وكثيرا ما دعته إلى مساعدتها في حمل الجرة ووضعها فوق رأسها على (المدورة) التي كانت حجتها في تعديلها تارة واخرى تطلب اليه أن يعيد تحميل الجره.. كان القناص يسعد لذلك وينتظر أن تأتي إلى العين كي يساعدها.. وكانت حمديه تختار توقيت بعد الظهيرة عندما تعبىء كل الفتيات والنساء جرارهن في الصباح فيخلو لها الجو قليلا في رؤية القناص.. حزن حمديه كان مضاعفا.. فقد فقدت الرجل الذي كان يجعل قلبها يرف ويحتمي برائحة عطرية تنضح من ثيابه.. ففقدت بذلك املها في أن تصبح زوجة له تعطيه كل عمرها لكي يظل مرفها وجميلا كما كانت تراه..

البعض كان يرثي لحاله.. وكان البعض الاخر يسخر منه.. اصبح حديث الناس في مجالسهم عند الظهيره.. فلم تكن القرية تسهر كما في القرى الاخرى.. فقد ظل النمر هاجسهم وخوفهم.. وفي غضون الاسابيع التي مضت ببطء نسي الناس مسعد.. ونسوا زوجته واطفاله.. وظل القناص في اذهانهم يتحدثون بروايات اخترعوها في نهارهم.. فقد قيل أن القناص رأى النمر فاصيب بالرعب فهرب منه إلى مكان آمن واصيب باللوثه.. وقيل انه اطلق رصاصة على النمر فلم يصبه فاصيب بحالة من الحزن قادته إلى ما هو فيه.. وقيل ايضا.. أن القناص هو نفسه النمر الذي يخيف الناس في القريه.. خاصة وان الاسابيع التي مضت لم تشهد حادثة واحدة تنبىء بوجود النمر.. وان الحالة هادئة لا اثر للنمور ولا للضحايا مما يدل على انه صاحب القضيه..

عندما قرص الجوع امعاء الاطفال قامت زوجة مسعد بحمل منكاشها على كتفها واستعانت باطفالها وذهبت إلى المارس تزرعه وتحرثه وتعشب ما بين الزروع وتنظف قناة الماء التي كانت تضخ الحياة للزروع والاشجار..
أما المختار فقد ذهب إلى مركز الجندرمة في المدينه.. وهناك حدثهم عن النمر فهزئوا منه ولم يستمعوا اليه.. قال رئيس المخفر انه في هذه الناحية منذ اكثر من سنوات عشر.. لكنه لم يسمع بمثل ما سمع به من المختار.. ولكن الالحاح من قبل المختار دفع رئيس المخفر بان يطمئنه انه سوف يسير دوريات فوق الاحصنة يمرون في كل ليلة على القرية ويتفقدون احوالها.. وطلب المختار أن يستضيف الدورية عندما تمر قرب القرية فوافق رئيس المخفر على ذلك

بعد شهور عادت امور القرية إلى طبيعتها قبل اشاعة النمر.. ذهب الناس إلى حقولهم ولم يعترضهم احد.. ولكن احد الفلاحين شاهد عند عودته من مارسه في المساء بعض رجال المختار وهم يحملون سلاحا ويكمنون إلى جانب الطريق بانتظار شىء ما.. ولم يره احد فقد اختبأ خلف بعض الشجيرات على جانب الطريق.. وتساءل الفلاح عن سر هذا السلاح الذي ظهر فجأة.. لكنه لم يجد الاجابه.. وفي تلك الليله.. سمعت القرية طلقات متتابعة.. فلم يجرؤ احد على ترك منزله للنظر فيما يحدث.. وعند الصباح ذهبوا إلى مصادر اطلاق النار فرأوا مجموعة من الخراف على جوانب الطريق مثقوب جلدها بالطلقات الناريه.. وهكذا عاد الرعب والخوف ثانية إلى القريه..

وانتشر الخبر سريعا.. أن رجال المختار هم من يتواطؤ مع النمر ويستغلون الامر لكي ترحل القرية إلى اماكن بعيدة ويظل المختار ورجاله فيها فيستولون على الاراضي والزروع.. لكن الكثير من الناس لم يصدقوا الاشاعة وشهدوا للمختار بحسن السيرة..

أما القناص فقد انتفض جسمه عند سماعه الطلقات وكأنما عاد اليه عقله.. وقام من فوره إلى منكاش في (حوش) منزله وحفر حتى ظهرت البندقية التي لفها جيدا في قطع من القماش المهترىء.. نظر اليها بحنان وقام بتنظيفها وتزييتها.. سار في طرقات القرية التي كانت خالية من الناس وذهب إلى حيث دفن مسعد.. ركن إلى جانب الطريق وأخذ ينظر إلى القبر نظرات موجعه.. وفي غضون ذلك سمع وقع حوافر خيل فنظر إلى الطريق الترابي الممتد حتى حدود النظر في بهيم الليل.. واقتربت اصوات الحوافر.. ثم سمع حديثا دار بين مجموعة من الناس لم يتبينهم جيدا.. واخيرا ظهرت له ثلاثة خيول يعتليها بعض رجال الجندرمه.. ثم توقفوا في موازاته فاختبأ بين الشجيرات.. قال احد الخيالة انه مضطر لكي يفرغ ما في معدته وان على الاخرين مواصلة السير ومن ثم يتبعهم.. سار اثنان إلى حيث امرهم الخيال وتركوه في ذلك المكان حيث نزل عن حصانه وتنحى إلى جانب الطريق..
وما أن هم بفك ازرار بنطاله حتى رأى شبح مسعد يختبىء خلف الشجيرات يعتمر بندقية فقام باطلاق النار عليه فاصيب القناص في مقتل.. تفقد الخيال المكان فرأى الدم يشخب من رأس الضحيه.. فالتقط بندقيته ونظر حوله فوجد الحجر الذي يطل من قبر مسعد.. وكعادة الخيالة في ذلك الوقت فانهم يحملون المجاريف على احصنتهم لحفر الخنادق.. فقام بالحفر قرب الحجر الكبير وتوسع في الحفر فاصطدم منكاشه بجثة مسعد ولكنه لم يأبه لذلك وكأنما لم يجد شيئا.. جر جثة القناص واوسده التراب فوق الجثة.. ولم ينتبه إلى أن احد الازرار النحاسية في بدلته العسكرية قد وقع فوق جثة القناص.. وسده التراب واهاله وجمع بعض الحشائش ثم ركب حصانه وسار متتبعا زملائه الذي ابتعدوا عنه بمقدرا اميال..

لم ير احد القناص بعد ذلك.. قيل بان النمر قد افترسه.. وقيل أن رجال المختار قتلوه واستولوا على سلاحه.. قيل الكثير.. وفي غضون الشهور التي تلت نسي الناس ما جرى..

وفي يوم شاهد أهل القرية مجموعة كبيرة من الفرسان تطوق القريه.. طلبوا إلى الناس التجمع في الساحة العامة.. وما هي إلا ساعة من الزمان حتى قام الجندرمة باعتقال المختار ورجاله.. وشاهد احد رجال الجندرمة وهو يسوق المتهمين حمديه وهي تحمل جرة الماء على رأسها فطلب اليها أن تسقيهم.. ولبت حمدية ما قال.. وفي غضون ذلك سمعت همسا بين رجال الجندرمه والتقطت بعض الكلمات..
لقد قبض رجال الدورية على نائب المختار ليلا بعد أن قتل احد رجال الجندرمه وقام بجر جثته إلى قبر على جوانب الطريق الترابية.. ولكنهم عثروا على جثتين اخريين في نفس القبر. وتابع احد رجال الجندرمه.. احدى الجثتين كانت مهترئة ولا تبين منها سوى العظام.. اما الاخر فانه طري لم يمض على دفنه اشهر قليله وقد عثر على بطاقة هوية صاحبها واسمه القناص.. وكان رجل الدورية الاخير لم تزل الدماء تشخب من رأسه.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى