الخميس ٢٩ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٠٩
بقلم أحمد الخميسي

الدور الحقيقي للأدب

أنا من عشاق يوسف إدريس، ليس فقط لعبقريته وموهبته الباهرة، ولكن أيضا لحرارة قلبه التي ساقته دوما لاقتحام أهوال المعارك الاجتماعية، خلافا لتلك الحيادية الفاترة التي تميز بها العظيم الآخر نجيب محفوظ. ومازلت أذكر بالعرفان أن يوسف إدريس أول من قدمني ككاتب قصة في مجلة الكاتب عام 1967.

وقد تجددت في عقلي صور من روايته «الحرام» مؤخرا وأنا أقرأ مجموعة من الأدب القصصي الكوري بعنوان «أمي والحب الراحل» صادرة عن دار الآدب، إذ استوقفتني فيها قصة رائعة بعنوان «بطاطس» للكاتب (كيم دونج إن) في رواية الحرام، سنجد أن جذر البطاطا الذي اشتهاه زوج عزيزة وهو مريض، هو من ناحية رمز للجوع، ومن ناحية أخرى هو رمز جنسي، وفي ظل حياة البؤس التي يعيشها عمال التراحيل تغيرت عزيزة، تحت وطأة الجوع بمعانيه المركبة. أما عند الكاتب الكوري «كيم دونج إن» فسنجد فتاة هي «بوكنيو» تدهور الحال بأسرتها واضطرت وهي شابة صغيرة للزواج من رجل يكبرها بعشرين عاما عاشت معه في حي فقير تسوده الجريمة والزنا والسرقة والتسول، وتخرج بوكنيو للعمل باليومية تجمع «الدودة» في الحقول، ويسعى ملاحظ العمال لاصطياد الفتاة الصغيرة الجميلة، فتقاوم في البداية قليلا كما فعلت عزيزة ثم تسقط مقابل قروش قليلة، وتتغير حياتها، بل إنه منذ ذلك اليوم تغير سلوك بوكنيو الأخلاقي وحتى نظرتها للحياة.

ولا أريد هنا أن أعقد مقارنة بين العملين ولا أريد حتى أن أتوقف عند مغزى التشابه الذي تخلقه الظروف الاجتماعية والاقتصادية المتقاربة حتى بين شعبين لا تربطهما صلة مباشرة. ما أريد قوله هو أنك بعد أن تقرأ القصة الكورية، وتتذكر «الحرام» لإدريس، تفكر في معنى الأدب ودوره. فقراءة العملين، لابد أن ترسخ في الذهن فكرة أن البشر متشابهون، وأنهم جميعا أخوة، وأن لعزيزة في مصر أختا في كوريا هي «بوكنيو»، وأن الأدب تحديدا هو الذي يخلق هذا التعارف الإنساني بحيث نتعرف نحن القراء على القاسم المشترك بين حياتنا في مصر وحياتهم في كوريا. وبوعي أو بدون وعي ستتسرب إلينا فكرة أن الفن وسيلة للتواصل الروحي بين البشر، وأن هذا هو دوره. وحين يقوم البعض بمختلف الطرق وفي ظل مختلف المدارس بإعلاء القيمة الجمالية للفن على أي شيء آخر، فإنهم في واقع الأمر يقلصون دوره الرئيسي الحقيقي بصفته شرطا من شروط التواصل الإنساني مثله مثل اللغة بالضبط. والتركيز على فكرة أن الفن نوع من إبداع الجمال، ومهمته الأولى هي الإمتاع، والابتكار (وكل هذا صحيح ضمنيا بقدر ما هو لازم للدور الخاص للأدب) شرط ألا ينفي كل هذا حقيقة الدور الرئيسي للأدب والفن. فالقيم الجمالية تختلف من بلد لآخر، ومن عصر لآخر.

وفي وقت ما كان جمال المرأة يتمثل في امتلاء بدنها، ثم اختلفت هذه النظرة. وتعرف شعوب بعض البلدان الآسيوية التقبيل بالأنف باعتباره جمالا، أو تعتبر أن قدمي المرأة لابد أن تكونا صغيرتين جدا لأن هذا نوع من الجمال، بينما لم تتنشر مثل هذه النظرة لجمال المرأة عندنا نحن العرب. القيم الجمالية تتباين، لكن يبقى دور الأدب والفن الرئيسي ليتجاوز هذه القيم، ويعلو فوقها، بحيث يظل وسيلة للتعارف والتقارب الروحي بين البشر، وسيلة توحد البشر – أو القراء في هذه الحالة – في نفس مشاعر عزيزة عند يوسف إدريس، ثم توحدهم في نفس مشاعر «بوكنيو» عند الكاتب الكوري كيم دونج إن، وصولا إلى فكرة القاسم المشترك بين العذابات البشرية، ورؤية نفسك وهمومك في الآخرين، ورؤية الآخرين في نفسك. ويظل هذا الدور الذي ينهض به الأدب هو دوره الأساسي، وبفضله أتعرف أنا وغيري إلي «بوكنيو» وسط عمال تراحيل كوريا، ويتعرف قراء كوريا إلى عزيزة وسط عمال تراحيل مصر.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى