الجمعة ٣٠ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٠٩
بقلم فريد النمر

التعالق والقدرة في قدر الحناء

"قدر الحناء"ديوان من القطع المتوسط للشاعرة الموهوبة"أمل الفرج"طباعة دار المفردات للنشر والتوزيع بتاريخ 1430هـ وهو ديوان تحلى بغلاف جميل عكس لون الحناء الأصيل على مشهد من بستان نخيل يتوسط الديوان كما حملت خلفية الديوان قصيدة بعنوان"كوخي هنا"
احتوى هذا الديوان على ثمان وعشرين قصيدة وإهداء ولم يتخلل الديوان على أي مقدمة نثرية كما دأبت عليه الدواوين الجديدة

قسم هذا الديوان على طريقة عرضية للقصائد بحيث ضم تسع قصائد عمودية مقفاة وهم:

"غيبيات البحر –ضياع مُشرع-كأول غيمة تعرف الماء-للقلب حب يحميه-عيناها ودمعة أمي-يزاحمني العشق-ماذا أسمي الأرض-قلب يناهز الترحال حباً-تشرد"
وتسعة عشرة قصيدة حرة تفعيلة على النحو الآتي:

"ذاك البلا أمنيات .. يعود شهيا-بعض مزاج الماء أنثى-قدر الحناء- أمومة الماء-كرنفال- أينما انسربت إليك-خلخال-داخل النهر-قطرات الأوجاع -حزمة ألم-ذكريات تطفو على دمعة-وطن بلا ملح- لا يحتويها عنوان-في فناء تعبدك طائعة-أغتاب الموت-جفون تتريف-وردة رفض .. أحمد-للعيد في يومه الثاني ..قمر-فاتحة أخرى للماء"

عناوين القصائد والديوان

لعل وللوهلة الأولى للمتمعن في عناوين القصائد هو بروز حالة الماء المتسربة للنصوص والتي تسيطر على ذهن الكاتبة سيطرة كبيرة كمفردة بجميع مرادفاتها وأفعالها الدلالية واشتقاقاتها التي تحيل القارئ لتلك الدلالة البيئية أحيانا وأحيانا إلى تسرب لذلك التعالق الخفي"لشاعر الماء"ولتلك التسمية للشاعر المحلق الشيخ"علي الفرج"الأخ والشاعر سواء كان ذلك بوعي أو بدون وعي على العناوين جلها ومحتوى النصوص إلا ما نذر منها,بل أيضا عند تمعننا في عنوان الديوان نجد إرهاصات لونية تحيلنا للمس حقيقة البلل المتخللة للنصوص المائية بشكل انسيابي جميل كما جاء في قصيدة"أينما إنسربت إليك"تقول فيها:

"كقطرة عطر سكبت حروفي

ليعتبق الحبر

فيك إليك"

الديوان والذائقة:

إن الذائقة الشعرية المعرفية عند كل شاعر هي ما يحمله الشاعر أو الشاعرة من ثقافة بين المخزونين الحسي في شكله الخفي والظاهر أو الغير حسي في لفظه الخاص وقد تتمازج هاتين القدرتين موحدة شكلا ومضمونا يقف عليه الأديب ويمثل خريطة مسيرته الشعرية ومنجزه الإبداعي على النحو العام

ونحن هنا أمام ديوان مختلف تماما عن الدواوين الأخرى للسمة التي كتب بها هذا الديوان وما تحمله من ثيم أنثوي تجاوز نطاق الأنثى ليلج لعالم من البوح المتنوع دون أطر تحدده وخاليا من البراويز المصطنعة التي كانت تسلب الأنثى قدرتها على التحرر والولوج لفضاءات أوسع
لقد أدركت الكاتبة حقائق معنى التكامل النفسي الذي دعمت به قدراتها على نظيراتها من بنات بيئتها المحفوفة بالحجب بمنهج"الأسلوبية التعبيرية"لتنطلق من خلف الأسوار المغلقة إلى مساحات شاسعة رحبة حفتها العناية الشعرية في البيئة المحيطة والحرية الشعرية بكل ما أوتيت من قوى نحو أنوثة شعرية حقيقية وجدت فيها ذاتها الصارخة على موروث الجمعي والعضوي ونلحظ في قصيدة"بعض مزاج الماء أنثى"تعبيرا حقيقية لمفهوم الثورة الذاتية للعبور نحو القدرة التي كان مخبأة في أنثاها فهاهي تقول:

"يقطرن باللوز يحمين الرواء
إذا تفتح البحر
في أحشائهن صدى
ويرتدين اختمار النور مرتعشا
حين انتخاب
بحيرات تمد يدا"

هنا طفو صارخ بالوجود الشعر وتماهي جميل يشكل فلز الحضور الفني والشعري على حد سواء ليكون الشعر جهتها الفكرية وإطارها المتحرر من قيد الآخر لتمارسه حد الاشتهاء
ففي قصيدة"غيبيات بحر"تجمح تلك الرغبة منذ أول شهقة للهدير فيها لتقول:

أجيء والبحر غيب والنوى قدري
والتيه يحنو على تعويذة السفر

إلى أن تقول

يا بحر جئت وصوتي مثقل بفمي
يغري الحكايات كي ترتاح في وطري

وقد يبدو غريبا على الشاعرة موقفها هنا حين جعلت البحر يرتاح في وطرها وهي المتعبة عكس المجيء الأول الذي كان قدرها الغيبي من بعد تيه لتفاجأ المتلقي بأن البحر هو من يرتاح وليست هي ,ولا شك في إن البيئة الخصبة بالشعر تحدث إنقلابا روحيا يتلمسه الشاعر الحدق وهذا ما لمسناه في قولها في القصيدة ذاتها:

يمدني برج ضوء جنحته يد
لا تعرف الأفق إلا في مدى عمري

وفي أخرى تقول:

داخل النهر

أمد المطر المكتنز العمر

بأحلى همهمات الارتواء

جاعلة ذاتها الشعرية محور حضورها الذي تدور حوله الأحداث فلقد نقشت الشاعرة ذاتها حتى كادت تعلن ثورة ذاتها التعبيرية على شكل نهر مائي يحس به الجميع فقد انتبهت لقيمة الوجدان وجعلتها وسيلتها التي تتلقى الحياة من خلالها وتتوق لقراءتها القلوب بربط خفي يتفق بجلاء مع المدرسة الرومانسية وشعراء المهجر مع خيط رفيع للشعراء العراقيين المعاصرين والذين مزجوا العاطفة بالألم والحزن بالانطلاق والخلاص من جهة ومزجه بالحداثة التعبيرية في جهة أخرى فتقول في تصور قريب للنفس الشعوري"لنازك"في قصيدة أشواق وأحزان:

"ملء قلبي وقلبك الحب والشوق ولكن نلوذ بالكتماني

كيف حدثتك عيناي الحب أعاقب عيني على حرماني

كيف يا شاعر كتمنا ولم يعص كوبيد قلبنا عاشقان"

وتقول الفرج في قصيدة لها"ماذا أسمي الأرض"
وأنا أشكل حزنك الملفوف في ظلي وأحمل نكهة الفنجان
وعبائتي شط مثار ماؤه مزج اللظى بفسائل الأفنان
سكناك بعض حمائمي لو هاجرت لسواك لانقطعت عن الهجران

نلحظ القلق في البيت الأخير"لو هاجرت –لانقطعت عن الهجران"الذي جئت به متعمدا وهو سابق في القصيدة ليتضح أن تسلسل المعاني تريد حلا في قصيدة الشاعرة أمل وأيضا خاتمة البيت الأخير من القصيدة لم تكن مجزية الصورة في الأساس:

"أمنتك الله انتظر صبح الهدى
فالضوء يمثل فيه صبح ثان"

رغم اكتماله وهذا يعيدنا في البحث للميل الشديد للخروج عن المألوف الذي كان يعشقه الحداثيون في مطلع السبعينات وليس قصدي إن التعبير هو نفس التعبير الذي يتبع هنا إلا إن النهج يكاد يكون مساويا له

إلا إن النفس الشعري يشعرك بوحدة أنثوية بين عميد الحداثة نازك والشاعرة وأمل الفرج وكأن من كتب الأبيات هي شاعرة واحدة وأيضا لو تتبعنا بعض المرارة والحب عند"الشابي"لرأينا أن النفس الشعري هو أقرب للرومانسية المتألمة عند الشاعرة الفرج كما جاء في"غيبيات بحر"

الشعور بالاختلاف والتشابه:

لا شك إن من يقرأ المتجه الشعري واللفظي في هذا الديوان يرى آثارا واضحة لمتكآت شعرية متقاربة لفعل العلاقة"للأستاذ المطاوعة"والتغليب الشعوري لصالح"الشيخ الفرج"وقد يكون لحد ما هو منطقي لتأسيس الذائقة الشعرية في لبناتها الأولى عند الشاعرة وعرض شعرها وهذه تكاد تكون حقيقة واضحة المعالم في مجموع القصائد فالمناسباتية هي ما يغلب عليها الوعي والواقعية كالولائيات والقصائد الاحتفالية مثلا نرى تقاربا فيه للأستاذ المطاوعة بين القصائد التعبيرية الوجدانية والحديثة تكاد تصطبغ بعذوبة الشيخ الفرج وسلاستها

ولكن المتتبع المتقصي يدرك وجود الصبغة المتبتلة الحميمية في شاعرية"الشاعرة أمل الفرج"بجلاء على العكس من"الشيخ الفرج"الذي ينتصر لروح التحرر من تلك الصبغ الغالبة على شعر"القطيفيين"إلى إذكاء روح من الثورة المتحررة على الصورة لا عبر الانزياح اللغوي فقط بل على مبنى الصورة في الأساس واختزالها لذا يقترب الأستاذ المطاوعة في الصبغة عند الشاعرة من الشيخ الفرج أكثر لتلاقيهما في حس واحد ويبتعدا في البناء لاختلاف الذائقة الشعورية عند الاثنين

ففي قصيدة للشيخ الفرج بعنوان"حروف تتآكل"يتضح للمتتبع البعد الحسي في مبنى التركيب اللفظي والصوري عن"الشاعرة أمل الفرج"فهنا يقول الشيخ:

"ادخل كفيك بذاكرتي
واغرس ألوانك بين شقوق عيوني
أنتَ ..وأنتَ ..وأنتَ ..
لنافذتي أبعاد تفتح صمت الأشياءْ
اضحك ..
من خلف زجاجة هذا القدر الجاثم فوق رموشي
ستصارحني رئتاك عن الضوء المحمول
على كتفيك
وأصارح كل كريات دماك المزروعة
في رائحة النخل الأخضر
ظلك .. لم يتشقق
حدّقْ من ثقب صلاتك في لوني
حدّقْ..
تتقوّس كل اللحظات على عينيْ حزنا
خطوات تسكن أرصفتي الملقاة على صحرائي
كم كانت تعلق في قدميك"

لنجد هنا انحدار شلاليا فنيا هو أبعد من التركيب اللفظي وأقرب لروح المنطقية المتدرجة بانسيابية شعرية لا يمكن التوقف عند ترقرقها"معنى- لفظا –وتركيب"مما يحيلنا لذلك الاختلاف الحقيقي بين التراكيب عند الاثنين ونمط البناء إذ تنساب القصيدة عند الشيخ علي على هيكلية لا تنحرف عن طريق الذوق التعبيري المتسلسل في صوره ومفرداته وخلو فكرة المزاج الديني المزاحم للبيئة الشعرية والذي نلمسه عند"الشاعرة أمل الفرج"وان كانت في بعض من الأحيان تبتعد قليلا عنها إلا إنها في نهاية المطاف ما تحنو إليها كما جاء في قصيدة"أينما انسربت إليك"كادت هذه النظرة أن تجنح نحو المفهوم الإتجاهي الخاص إلا إنها ما لبثت حتى عادت للتعالق باللفظ الديني رغم عشقية القصيدة لتقول في آخر المطاف:

"وأهديك كل مآذن شوقي"

وفي قصيدة أخرى بعنوان"للقلب حب يحميه"دلالة على تلك الصبغة المخفية في جنبات الديوان حين تقول فيها:

فلقلبي حب تساقط بالعطر
وصلى بياسمين انعتاقي
متى نرتقي رقيم جفون
جمعت ضفة من الأشواق

وهنا في"فاتحة أخرى"للماء تقول:

"وأنادي بانكسار
كم ستتلين الظما لو أنتجته العبرات
كم ستأوين إلى طور البكا
حينما تحرم فيه الروح
بالذائبات من نهر الفرات"

هنا وضوح الصبغة كما يتقنها الأستاذ المطاوعة في مثل هكذا نصوص إلا إن المطاوعة لا يحسن التخفي خلف معانيه لتفضحه الجمل بكليتها وليس بمفردة هنا أو هناك فمن قصيدة له بعنوان"خارطة الماء جسد"يقول:

يا خارطة الماء
أي بحرٍ تلونين ؟
وأيتها تسلبين لونه؟
ذلك البحر الذي أرتسمتْ عليه تجاعيد العجائز
وأفول شمعة الشباب
كانت الشمس ولم تزل
هي الرمح الذي وخز أحشائك دون أن تريه
أين سيقبع أسطولك يا ترى؟
في وجه الزيتون
ثم يقول فيها:
فاكهة الشهادة هي المفتاح
وجند كربلاء هو الوجه
وصوت (الحسين) هو الوصول

لنقف هنا على صقل جميل لشاعرية خصبة أنتجتها الموهبة والإرادة الشعرية أولا والبيئة الشعرية المختلفة حول الشاعرة ثانية والتلاحق الفكري والأكاديمي والنشر ثالثا

المتجه الشعري للديوان:

بعد عبور الشعر من نزاعاته المعرفية والتجديدية عبر نازك والسياب أتجه المفهوم الشعري نحو من القالب الشعري إلى اللفظية والتصويرية بتجنيح موغل للخيال لابتكار معنيه وإخراجها من قمقمها باستحداث لفظي يطور من وعينا بالمحيط بعد كل هذه التراكمات الأدبية والمعرفية اذ أصبحت الثورة الشعرية متغيرة سريعة الاستحداث كالعالم الذي نعيشه مستفيدة من عواصفه السابقة والحاضرة واللاحقة

"قدر الحناء"
"حينما استرخى مسائي
لحظة الموت
نمت كل زوايا الوقت
تنعى ساعة الصفر
بآهات الدقيقة"

ومن تلك المقدمة للمتجه الشعري الذي رسمه هذا الديوان الجميل نقف على متغير في أسلوب معالجة النص الشعري الأنثوي رغم تمسكه بقواعد الوزن والقافية إلى فتح في الكتابة النسوية في هذه المنطقة الشعرية والتي تمكنت الشاعرة من طرق عدة تعابير شعرية عبر هذا الديوان من خلال عدة موضوعات وجدانية واجتماعية في طبيعة سريعة التطور في المفهوم الشاعري أزعم أنه قد فاق كثيرا بعض التجارب الذكورية المعاصرة فهو لا يقف عن وهج إلا ويلج لوهج آخر يفاجئ فيه ترويض الشعر عند المقوعدين له.

"قلب يناهز الترحال حبا"

حتى افترشت متاهتي في ساعة
وصنعتها من ناظري شلالا
فطفت على ماء الحنين مدائني
فتمايلت تسقي به الآمالا

ولكن يلمس المتلقي قوة السبك وجزالة المعان في القصيدة العمودية ومحافظتها على مكتسبات اللغوية أكثر بكثير من أختها التفعيلة والتي لجأت فيها للمضافات لقلقها الناتجة عن فقدان تموسقها التي أتقنته شعوريا مع ختام الصورة في كل قصيدة عمودية والذي لم ينطبق على نهاية القصيدة التفعيلة منها من حيث الدهشة

ولعلمنا أن الشعر يفسد بفساد لغته ووزنه نعلم أيضا إن الشعر يجتر عندما يدور في لغة واحدة
وهنا نهمس أن التعبير الناجح والصورة الناجحة هي نتيجة تطور ذوقي ومعرفي لجميع هذه الحالات"اللغوية والعروضية والتعبيرية"وهذا ما تمكنت الشاعرة أمل الفرج بنجاح من التركيز عليه خلال هذا الديوان"قدر الحناء"وان خانها عروض هنا أو لغة هناك إلا أنها استطاعت أن تنقش ذاتها الشعرية المتطورة في جدار الشعر بكل خصوصية واقتدار بحسن التعبير والتغلغل في إدراك المرأة ولغتها دون ريب وان وصمت"بشاعرة الماء"وغيره من الألقاب

لتحكي:"كأول غيمة تعرف الماء"

مثل ابتسامة غيم ذوبت شفقى
كان اللقاء وكان الملتقى أفقي
كان البيان يناجيني لأزرعه
وكنت سوسنة تنمو على ورقي

فللحظوة والإبداع بالبحث عن ما لديها من شعور للتفوق والاهتداء لكشف جديد كان يحتكر بطولته ابتكاره الرجال حتى عهد قريب مع ضرورة الحديث عن الإحساس بخصوصية الأنثى والانطلاق من أبجدياتها الشعورية الإنسانية بجرأة تحسم حريتها في البوح كما تشعر لا كما يشعر به الآخرون
لتكتمل هذه الشاعرية بالاعتراف بشاعريتها النامية على نحو تجاوز الرقعة الضيقة كما هي القصائد التي لم يضمها هذا الديوان كحلم نبوءة يتصاعد نحو الذروة

تضمنت هذه القراءة مقارنة شعرية للشاعر الشيخ علي الفرج والشاعر علي المطاوعة بالكاتبة لفض نمط التعالق الذي أحدثته قرابة الشاعرة بهذين الشاعرين والأسلوب الذي انتهجته ومدى تأثرها بهما من عدمه فالأول هو أخ وقدوة والثاني هو زوج ورمز.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى