الثلاثاء ٣ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٠٩
بقلم مصطفى أدمين

تلك الخائنة

في تلك اللحظة اختفى كُلُّ ضجيج.
الشوارعُ هي الأخرى اختفتْ؛ ولمْ يعُدِ الشابُّ المتيَّمُ بالحب يرى أضواء الليل؛ عدا لمعانات باهتة شبيهة بتلك التي تُصْدِرُها حشراتُ الحُباحِب وَسَطَ "جازون" مَصْيَفٍ متوحِّش.
في الوقت نفسِه، تجلَّتِ الألوانُ كحُلُمٍ قديم لحُلْم قديم غيَّره التحنيط:
تجلّتْ له المرأةُ التي ما كفّتْ عن إخباره بأنّها تُحبُّه:
 أحبُّك!
ـ إنّها لا تحِبّه.

ولقد أدرك هذه الحقيقةَ المرعبةَ في توقفِ الضجيجِ عن جنونه والأضواءِ عن حركاتها.
فجاءه اسمُه نافذاً إلى وعْيِه المتألِّم:
ـ إبراهيم...
في الخيانة، لا يبقى للأصوات وجود.
كل ما هنالك هو أزيزٌ مثل صوت الزنابير وطنينٌ مثل طنين ذباب الجِيَف.
الرؤية، تبدو هي الأخرى ضبابية.
حبيبتُه؟...لا!
تلك الخائنة لا صورة لها.
صارتْ تنبعِثُ منها رائحة بابٍ مُوارِب.
كلّمته من (الدار البيضاء) مدّعيةً أنها في (مراكش) بدليل ضعيف؛ رقمُ مخدع الهاتف.
وقالتْ إنّها مُسافرةٌ إلى (أكادير)، ثم ما لبتتْ أن كانتْ عندَه في ظرف ساعة.
هي تكذب بكلّ تأكيد، وعِطرُ (بازانْ) الذي أهدتْه، ما كان لتشتريه من مالِها القليل، وما هو عِطرُه.

هي تعلمُ أنّه لا يحبُّ العطور إلا عِطرَ الذكورة الذي أهدته الطبيعة.
وحتى الساعةُ اليدويةُ التي طوّقت بها مِعصمَه مثل قيدٍ من فضّة، رأى عليها صدأَ ذكورة أخرى.

وكذلك ليلةَ أحسّتْ بالبرد في أحدِ أشهر فصْلِ الشتاء؛ لم تقل له (كما دأبتْ):
ـ املأني بكامل جسدِك المشتعل يا حبيبي ابراهيم، واجعلني فيك أذوب!
وهما في فراشٍ من أفرشة فندق (إكْسِيلْسْيورْ) المتواضع... المقابل لفندق (حياة ريجِينْسي) الباذخ.

«تلْك الشبقية الجشعة!» قال في نفسِه:
 لن تعدمي حيلة لأجل مضاجعة الشيطان بعينِه حتى وأنتِ في قبرك.
ثمّ وقّعَ كلامَه النفسي بهذا التوقيع ( أنتِ حقّاً خَأونة، عليْكُما اللعنة!)
فجاءه صوتٌ من أعماقِ الضجيج:
ـ ابراهيم الروداني، الله يخليك؟
صوتٌ رقيقٌ ارْتاحَ له. وعَمّهُ هدوءٌ لذيذ.
ـ من فضلِك، شارع إبراهيم الروداني؟
فرأى امرأةً أخرى أمامَه. بل إنّه رأى ملاكاً على صورة إنسان. فنظر إليْها بعينٍ جديدة وقال لنفسِه:
 أعودُ بالله من الشيطان الرجيم... ما كلُّ امرأة خائنة!
عيناها فيروزيتان حالِمتان بالعِشق، وفمُها مثل حبّةِ كرز لا يكذب.
تجلَّتْ له كامرأة/ملاك معصومة من الخِيانة.
فقال لها بشيءٍ من الحُلُم:
ـ معذرة!... ما اسمُك؟
ـ أنا؟
فتورَّدَتْ وجنتاها من الحياء.
ـ وأبوك ما عملُه؟ وأمّك، وهل لك إخوة وأخوات؟...
فردَّتْ مثل ما تردُّ تلميذةٌ بريئةٌ على أسئلة أستاذ:
ـ اسمي (كريمة)... وأبي بنّاء، وأمّي تخيطُ الأثوابَ في الأسواق الأسبوعية، وليس لي إخوة أو أخوات.
فقال لها:
ـ اسمي إبراهيم... موظّف... هل تتزوّجينَني؟
فمسحتْهُ بنظرة خاطِفة وأطرقتْ لحظة ثم قالت:
ـ على بركة الله!
قالتْها بثقةِ وكأنّها تعرفُ السيِّد إبراهيم منذ سِنين.
فأمسَك بيدِها إلى حيّ (دَربْ غـَلّـَفْ ) إلى المرأة الأولى؛ والدتُه.
وهكذا صارا زوجين بعيديْن عن الجشع والشبقية والخيانة؛ ولولا (العازل الأدبي) الذي يستعمِلانِه لأنجبتْ له عشرات القصص والروايات.
وبعد مرور عشرين سنة على زواجهما، ضبطـتْــهُ وهو يقول لشخصيةٍ من شُخوص قِصّة يكتُبُها:
ـ تعميمُكِ خاطئ؛ فليسَ جميع النساء خائنات...


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى