الخميس ١٩ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٠٩
بقلم عبد الله بن أحمد الفيفي

الشِّعر والشِّعريّة في العصر العبّاسيّ

صدر مؤخّرًا للأستاذة الدكتورة (سوزان بينكني ستيتكيفيتش) عمل قيّم بعنوان «الشِّعر والشِّعريّة في العصر العبّاسيّ»، أهدته إليّ في 10 يونيو 2009. والكتاب من ترجمة الأستاذ الدكتور حسن البنّا عزّالدِّين، (القاهرة: المركز القوميّ للترجمة، 2008). ويمثّل الكتاب في أصله أطروحة الدكتوراه للباحثة، التي نالت درجتها من قسم لغات الشرق الأدنى وحضارته في جامعة شيكاغو، (مارس، 1981)، بإشراف بيير كاكيا (جامعة كولومبيا).

ويتألّف الكتاب من ثلاثة أجزاء: الأوّل بعنوان أبو تمّام والتقليد النقدي العربي، والثاني بعنوان شاعر المديح في بلاط الخلفاء، والأخير بعنوان «أبو تمّام والمختارات الشِّعريّة العربيّة». ولذا، فإن الكتاب- وإنْ جاء بعنوانٍ عامٍّ حول "الشِّعر والشِّعريّة في العصر العبّاسي"- ينصبّ على شِعر أبي تمّام: "البديع، قصيدة المدح، والحماسة". وهو ما قد نرى فيه إسرافًا في حجم العنوان موازنة بمحتوى الكتاب. صحيح أن أبا تمّام هو الرائد الأبرز للحداثة الشِّعريّة في العصر العباسيّ، لكنه لا يمكن أن يَختزل في تجربته وَحْدَه الشِّعر والشِّعريّة في العصر العبّاسيّ، بثرائها وتنوّعها. بل من غير الممكن أن ندرس الشِّعريّة في العصر العبّاسيّ وصراعاتها دون موازنة بين تيّاراتها المختلفة، أي دون أن ندرس شعراء آخرين إلى جانب أبي تمّام، كبشّار بن بُرد، وابن المعتزّ، وأبي نواس، والبحتري، والمتنبّي، وأبي العلاء، على سبيل المثال. ومعروف أن رحَى الشِّعريّة في ذلك العصر كانت تدور على الثلاثة المشهورين: أبي تمّام والبحتري والمتنبّي، لا على واحدٍ منهم فقط. وهو ما مثّلته عشرات الكُتب التي قامت حول هؤلاء الثلاثة، ودارت على الموازنة بينهم. والحقّ أن عنوان الكتاب الأصليّ باللغة الإنجليزيّة، الذي قدّمت به ستيتكيفيتش رسالتها للدكتوراه، كان أصحّ وأدقّ، [1]، (أبو تمّام والشِّعريّة في العصر العبّاسيّ)، حسب طبعة الكتاب الأولى.

غير أن العنوان الأصليّ قد عُدّل كما ذكر المترجم بالاتفاق مع المؤلِّفة كي يكشف للقارئ من الوهلة الأولى عن المجال الذي يدور الكتاب فيه،
 [2]. وهو مجال كان يكشفه العنوان الأصلي أيضًا، ولكن دون ادّعاء السياق موضوعًا والموضوع سياقًا، كما حدث في العنونة الجديدة.

ويكشف الكتاب عن معترك التناقض الجوهريّ الذي وَقَع فيه نُقّاد العصر العبّاسيّ، بين (جعل الشِّعر القديم هو معيار الإبداع) و(القول بأن محاكاة ذلك المعيار قد باتت مستحيلة)؛ لاختلاف البيئة زمانًا ومكانًا. والنتيجة هي نفي الإبداع عن غير القديم. وتلك نتيجة ثقافيّة في حقيقتها لا نقديّة، تمخّضت عن نزوع طاغٍ إلى تقديس القديم وازدراء الجديد، في الأدب وغير الأدب. إلاّ أن الباحثة تعلّل ذلك تعليلاً طريفًا، فهي ترى أن التحوّل من الثقافة الشفويّة إلى الثقافة الكتابيّة قد كَمَن وراء تلك الأزمة؛ لأن بناء القصيدة العربيّة- من أوزانٍ وقوافٍ وفنون بيانٍ وبديعٍ- ما كان إلاّ لأن "وظيفة الشِّعر في التقليد الشفويّ الجاهليّ هي حفظ المعلومات" [3]، وتلك الأدوات تساعد على الحِفظ، وحين أضحت الثقافة كتابيّة تعطّلت وظيفة تلك الأدوات، ومن ثمّ تعطّلت وظيفة الشِّعر االقديمة. وقد نَجَمَت حينئذٍ للشِّعر وظيفتان جديدتان، الأولى طقوسيّة، تأتي تعبيرًا عن الهويّة العربيّة، وتنبني على أساس البنية الطقوسيّة العميقة- النموذج الأصليّ للتضحية كما عُرف في الشرق الأدنى القديم [4] والثانية تفسيريّة، بحيث أصبح شِعر البديع العبّاسيّ "ما بعد شِعر" [Metapoetry] [5]. أي أن الشِّعر صار وسيلة تفسيرٍ للشِّعر القديم من أجل مجتمع متحضّر في العصر العبّاسي لم يألفه. هذا إضافة إلى توظيف تلك الوسائل الفنّيّة، التي عُطّلت لاستغناء الذاكرة عنها، للتعبير عن المفاهيم التجريديّة الكلاميّة، ومن ثم جاء توظيف أبي تمّام للوعاء الشِّعريّ التقليديّ لتفسير أحداث عصره. وفي هذا جملة من القفزات التأويليّة، فيها نظر. لأن ظاهرة تقديس القديم هي ظاهرة ثقافيّة عربيّة، والموقف من المُحْدَث هو موقف فكريّ عامّ، وليس موقفًا من شفاهيٍّ في عصرٍ كتابيّ.

لم يخل كتاب الدكتورة سوزان ستيتكيفيتش "الشِّعر والشِّعريّة في العصر العبّاسي"، (القاهرة: المركز القوميّ للترجمة، 2008)، من جملة قفزات تأويليّة من قِبل الباحثة، فيها نظر. فأوّلاً، ظاهرة تقديس القديم- التي شغلتْ الباحثة- هي ظاهرة ثقافيّة عربيّة، وليس الموقف من قديم الشِّعر وحديثه منها ببِدْع. وعليه، فالموقف من المُحْدَث هو موقف فكريّ عامّ- أصبح له في العصور الإسلاميّة باعثُه الدينيّ أيضًا- وليس موقفًا من شفاهيٍّ في عصرٍ كتابيّ، كما ذهبت الباحثة. وليس بصحيح القول إن وظيفة الشِّعر في التقليد الشفويّ هي حفظ المعلومات بإطلاق، إلاّ في ذلك النوع من الشِّعر الذي يمكن أن يوصف بالتعليميّ. أمّا الشِّعر، فالأصل فيه أنه شِعر، له وظيفته الوجدانيّة الخياليّة، شفاهيًّا كان أو كتابيًّا. أمّا أدواته الفنّيّة، فهي وليدة ارتباطه بالغناء والموسيقى، بل بطبيعة اللغة العربيّة الموسيقيّة بصفة خاصّة. وضروبٌ من الإيقاع الصوتيّ أو التصويريّ أو الخياليّ موجودة في مختلف الفنون، قوليّة وغير قوليّة، وعلى مرّ العصور، وعليها تنهض إبداعيّة تلك الفنون وإمتاعاتها. فهي لهذا ليست وسيلة تعزيز للذاكرة، ولم توجد لتلك الوظيفة قط، وإن ساعدت عليها، بل هي وسيلة إشجاء وإطراب، وتحريك لكوامن الإيقاع في الطبيعة الإنسانيّة أصلاً، جسدًا وروحًا وذهنًا ومخيالاً، وفي الطبيعة الكونيّة كلّها. ثم إن قول الباحثة بأن شِعر البديع إنما كان يؤدّي وظيفتين طقوسيّة وتفسيريّة يقتضي نفي التجديد الشِّعري عن ذلك الشِّعر، بل يلغي هويّته الشِّعريّة، وكأن الشِّعر قد انتهى بشِعر الأوائل/ الجاهليّين، ولم يوجد عنه بديل، فلا شِعر من بعد الجاهليّين للعرب يستحق هذا الاسم، وإنما تلك ترقيعات وترميمات في التراث وترديدات طقوسيّة لأغراض جديدة! وهذا يشابه قول أنصار القديم أنفسهم في حقّ أبي تمّام وأضرابه من الشعراء العباسيّين، وإنْ قيل بطريقة أخرى، وذلك من نحو ما روى (الصوليّ) في كتابه "أخبار أبي تمام"، في "ما رُوي من معائب أبي تمّام"، حيث قال: "سُئل دعبل عن أبي تمّام قال: ثلث شِعره سرقة، وثلثه غثٌ، وثلثه صالح." وكان "يقول: لم يكن أبو تمّام شاعرًا، إنما كان خطيبًا، وشِعره بالكلام أشبه منه بالشِّعر... وحُكي أن ابن الأعرابي قال، وقد أُنشد شِعرًا لأبي تمّام: إنْ كان هذا شِعرًا فما قالته العربُ باطلٌ!" فهؤلاء لا يرون الشِّعر المُحْدَث امتدادًا طبيعيًّا للقديم، بلغةٍ جديدة ومقتضيات محدثة، بل يرونه عبثًا صبيانيًّا، أو تكلّفًا طارئًا، عليه سيما الشِّعر العربيّ وليس بشِعرٍ عربيّ.

وعلى الرغم من تلك الملحوظات التي يمكن أن نجادل فيها ستيتكيفيتش، فإن أطروحتها هذه، كأطروحاتها الأخرى حول طقس العبور وتفسير الشِّعر العربي من خلاله، تكشف عن تلك الحريّة الفكريّة والثقافة المقارنة، التي تُعوز المدرسة التقليديّة في قراءة شِعرنا العربيّ، قديمًا وحديثًا. ولهذا فهي ترى على سبيل المثال أن: "وعي أبي تمّام... هو الذي مكّنه... من الإحاطة بعناصر شِعريّة وأفكار جديدة، فاتت النقّاد العرب في العصور الوسطى، مثل الآمدي، بمفهومهم السكونيّ والمحدود عن الشِّعر العربيّ... وهذا، بالتالي، سَمَح بإعادة استيعاب التقليد العربيّ- الإسلاميّ في تقليد شرقيّ قديم، بحيث يمكن للمفهوم العباسيّ عن الخلافة والأُمّة، على سبيل المثال، من المنظور الشِّعريّ على الأقلّ، أن يتجاوز القياس على الشيخ والقبيلة في الجاهليّة إلى القياس على مبادئ المَلَكِيّة الكهنوتيّة في بلاد ما بين النهرين القديمة." [6] إنها قراءة تثري رؤيتنا إلى النصّ الشِّعريّ، فنّيًّا ومعرفيًّا، بغضّ النظر عن اتفاقنا أو اختلافنا في بعض التفاصيل؛ إذ ترى ما لا ترى تلك العيون التي أعشاها الجهل والتجهيل بالثقافة العربيّة العتيقة، إلى جانب فرض مقولات سطحيّة نمطيّة حول العرب وشِعرهم. لا تفعل المؤلِّفة ذلك في ديوان أبي تمّام فحسب، بل وفي استقرائها حماسته أيضًا، التي تراها بمثابة "بيانٍ شِعريّ وأدبيّ"، عبّر فيها أبو تمّام عن "شبكة غنيّة ورهيفة تجمع بين أكثر الصُّوَر الشِّعريّة تَبايُنًا وأكثر أصوات الماضي العربيّ تنافرًا" [7]. بخلاف حماسة البحتريّ- تلميذ المدرسة التقليديّة الحَرْفِيّة النجيب- التي جاءت مصنَّفًا آليًّا، مباشِرًا وحَرْفيًّا راكدًا، غير ذي أبعاد طقوسيّة أو رمزيّة.

تحيّة إلى المؤلِّفة التي ما برحت تُسهم في إعادة الشِّعر العربيّ إلى شِعريّتة والثقافة العربيّة إلى حيويّتها وغناها!


[1Abu Tammam and the poetics of Abbasid Age

[2ج٢، صفحة تسعة

[3ص194.

[4انظر رأينا في نظرية استيتكيفيتش في ما تسمّيه "طقس العبور" في الشعر الجاهلي، كتابنا (مفاتيح القصيدة الجاهلية: نحو رؤية نقدية جديدة عبر المكتشفات الحديثة في الآثار والميثولوجيا، (جُدّة: النادي الأدبيّ الثقافيّ، 2001)، 11- 23). ويبدو أن الباحثة قد باتت تفسّر التاريخ كلّه والشِّعر على أساس طقس العبور، فتقول مثلاً عن فتح عموريّة: "أمّا الغزو العسكري فهو مدرَكُ بوصفه إعادة تمثيل لنموذج التضحية في طقس الأخذ بالثأر، من حيث يؤثّر قتل المسلمين واغتصابهم للروم في إحياء أُمّة الإسلام وإماتة أهل الكفر." (ص343).

[5تُرجم المصطلح إلى "شِعر على الشِّعر"، وأرى تلك الترجمة مُلْبِسة ولا تؤدّي المعنى.

[6ستيتكيفيتش، سوزان، الشِّعر والشِّعريّة في العصر العبّاسيّ، 345- 346.

[7470.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى