الأربعاء ١٨ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٠٩
بقلم الطاهر مرابعي

أسئلة الهوية في قامة الشعر والأدب

(اللغــــة بيتُ الوُجود)

هيديجر

جدير بكل مناقشة أن تطرح تساؤلات من العظمة بحيث تستحيل إلى مسألة وجود لا تنفك لصيقة بقيمة الحياة في بُعدها النّضالي الرّاسخ.. أسئلة تطرق أبواب الماهية بكل قيَمها الإنسانية النبيلة في عصر الوطنية والانتماء.. مناقشات تستبيح لنفسها كسر كثير من الأعراف والمسلمات، لا للهدم ولكن لأصل تثبيت البناء وإلا لتصحيح الخطأ، فلم يعد معقولا توارث مفاهيم دون أدنى مناقشة... هو الشكّ في كل قِيمة حتى تَثْبُت أويُثبت لها وجود، ليس مناقشة منطلقة من فراغ وإنما مناقشة تنطلق من تأسيس، والأفضل أن نقول إنها تنطلق من شُبهة التشكيك فيما تم الاتفاق على تعليله بكيفيات معينة.. تلك التعليلات التي لم تعد قادرة على الإقناع منذ أن أدرك الإنسان معارف أكثر غورا.. منذ أن اكتشف أخطاءه القديمة التي بنى عليها حسابات أفضت بعد طول رصد إلى خواء، وكثيرة هي المسائل المطروحة للنقاش وليس في وسع الإنسان الإحاطة بها متابعة أو إدراكا، فتلك مغانم تُنال على أجزاء وحصص، ولكل في بابه منها باع.

بالنسبة لمجال هذه المداخلة وزاوية نظرها سيكون البدأ من البحث في قضية تغيّر بها الزمان، بعد أن ركن إلى الهوية العلمية التي أصبحت تتحكم في منهجه المعرفي، إنها المعرفة العلمية التجريبية التي أدت نتائجها إلى التقليل من فجوة الاحتمال والتقليص من حجم الهامش لصالح المباشرة والضبط، وحتى يتسنى لنا ولوج هذا المدخل كان لابد من اختيار هذه المقدمة، ليس بغرض التهويل أو الوعد بالنتائج الحاسمة، ولكن بغرض التأكيد على الالتزام.

إلى وقت غير بعيد كان من المسائل المثيرة للجدل فكرة النضال السياسي الوطني والقومي ولا يزال، وطبيعة وجود هذا الموضوع تؤكد مكانته في جغرافيا الثقافة والقيم المعاصرة، وهو ما يعني تحويله إلى مركز تحوم حوله عدد من الفعاليات، خدمة له وخدمة لمن خدم هذا الموضوع، وإن لم تُرض هذه العبارة الكثير من النقاد الذين تاهوا بين النظريات النقدية والأقوال الفلسفية ومطامع التسيّد بمعارفهم، ومن الأدوات المستخدمة في رعاية هذه القومية والهوية مؤسستا الشعر والأدب، فإلى أيّ حدّ يُمكن للكلمة في بُعدها الجمالي أن تكون للانتماء والهوية سندا، إلى أيّ حدّ يمكن للشّعر والأدب أن يُساهم في الحركة التحرّرية والمسارات النضالية الوطنية؟

سؤال يبادر كل أديب ومحبّ للأدب بالإجابة عنه إيجابا، لكن استنطاق الواقع إن لم يكن مُخيفا إلى الدّرجة التي يشكّك فيها بأهميته ودوره رِياديّا، فلن يكون بمقدوره الوقوف وَقفة شامخة أمام المناظرين، والأغرب من ذلك أن يكون من فطاحل الأدباء والشعراء من يعتقد بذلك، فهذا شاعر الثورة الجزائرية وشاعر النّضال الوطني مفدي زكريا يقول في إحدى قصائده بهذه الجملة فعَاف اليَراع خُرافات حِبري، قالها وهو بصدد الحديث عن جدوى كلمة الأدب في التغيير وبُعدها في العمل.. فماذا نقول ونحن نُعاصر أبعاد النقد الثقافي، لو أننا تطرقنا إليها من زاوية تصور عبد الله الغذامي الذي يقول في كتاب النقد الثقافي بما يصبّ في آي القرآن الكريم عن الشعراء أنهم يقولون ما لا يفعلون وأنهم في كل وادٍ يَهيمون، فضلا عن ترسيخه للقيمة العمليّة للأدب في فترة صدر الإسلام فقط، بل وذهابه إلى حدّ اتهام الكثير من الشعراء ومن ثمّ لنتاجهم من العمل الشعري بتشويه السّلوك الجماعي من خلال شَعْرَنة القيم والتحكم فيها عبر مسارات ترسّخ لاحقا أنساق غير مُشرِّفة، ولئن كان من مُساءلة في هذه الحالة ومثل هذا السياق فهي مُساءلة جادّة وجديرة، ليس بمعشر الأدباء والشعراء ولكن بالأدب والشعر، وعلى كل فهي مُساءلة فيما يبدو لا تقترب من فكرة الجَمالي والإبداعي بقدر اقترابها من سؤال الفاعليّة، رغم أنها إذ تتصل بهذه الفكرة فهي لا تستطيع التملص من استخدام أدوات التعبير الشعري التي تكون بمثابة المَعْبَر إلى الهدف بطريقة ما، لِتلخّص السؤال في عبارة: أيُّ دور يؤديه هذا الإنتاج الجمالي؟

كثيرة هي الأشعار المأثورة التي نتداولها والتي تشكل قيمة وجزءا من هويتنا لا تُُنكر، فإن أُنكرت نال صاحبها ما نال طه حسين وهو يحمل المنهج الديكارتي مُتّجها إلى التراث الثقافي العربي منذ عصره الجاهلي، لكن استحضار المطلوب بالنسبة إلينا نحن الذين نهتم بالبُعد النضالي للأدب.. نحن الذين نحتفل في كل المناسبات من هذا النوع، ليس بالرجال الصّناديد.. وإن يكن فليس بقدر احتفائنا بمن كانوا لهم زخرا فيما نتصور، استحضار المطلوب بالنسبة إلينا يعني طَرْق سؤال الفاعليّة، وغير بعيد عن فكرتنا هذه يؤكد الغذامي ذاته في كتاب النقد الثقافي دور الأدب، لكن سلبا من حيث تأثيره على الشخصية ومساهمته في تمرير قِيَم غير ذات فائدة، وإذا استحال بالنسبة إلينا نفي فاعليّة إيجابية للأدب غالبا، فلن يكون باستطاعتنا نفي الفاعليّة لوجودها ولو سلبا، وقبل أي مُبادرة أخرى بالمناقشة نستنفر سؤالا ونترك الإجابة عنه.

في أي عالَم يعيش الأدباء والشعراء؟ وهل يُبلّغون رسالة مُمكنة التّوْصِيل؟ نسأل بهذا حتى لا نشكك في نواياهم.
ألا يحق لنا الآن أن نعود إلى استفهام إشكالية الأدب باستعارة الجملة التالية:
الأدب جيش مُرابض أم سَفير يُمثل؟

وإن كان من توضيح للسؤال فهو الآتي: هل يمارس الأدب الحرب ويقاتل من أجل قِيَمه، أم يكتفي بممارسة المُحاماة خارج الميدان والانتصار بالأحلام؟

هذا إذا نحن افترضنا أن ثمة أنساقا كتابيّة تُمارس وطنيّتها مباشرة دون وسيط أو حَياء على غرار الخطابات السياسية، ومن مثل هذا التساؤل يبدو أننا قد تمكنا من بسط المسألة دون اتهام، ولكن بكثير من التشكيك، فلا تغدو الكلمة هنا نِضالا بقدر ما تغدو نيّة غير مُباشَرَة، فإصدارات الدواوين والروايات ومختلف النصوص بذاتها مقاومة مُسْتحية إن جَهَرَت بموقفها، فإن لم تجْهر واكتفت بسريانيّتها كانت أبعدَ في نصيبها من أن تتبوّأ مقام المقاومة المستحية أو لم تكن ذات وجود مطلقا، ولا يحضُرنا من موقف الغذامي إلا اعتباره الشعر - وإن ضمنيا- مُخالفة صريحة للواقع بما أن الشاعر يقول في وادٍ ويفعل في آخر، وهي صفة لازِمةٌ لا تُعانق شاعرا تاركة آخر، بل تجمع كل داخل إلى هذا النسق، وهو ما يُضمِر الإجابة عن السؤال السابق: أين يعيش الأدباء؟ ويُبالغ إلى حدّ اتهام مادّتِه باللاّجدوى، إذ لو كانت مُجدية لصُنّف أهلها في قائمة الذين يقولون ما يفعلون!!
ألم تقل الخنساء يوما بعد أن توقفت عن قول الشعر إنها استغنت عنه بالقرآن؟ ألم نلاحظ ونحن نقرأ الكثير من النصوص الشعرية النّضالية -على كثرتها- أن أكثرها تحويمات لا تمتّ بصلة إلى مطالب التحرّر، بل وأن أكثرها تكريس للظلم، خصوصا في فترات انتشار شعراء البلاط الذين لا يتُوبون غالبا إلا في لحظات سكرات الموت، ليتمنّوا لو أنه باستطاعتهم طمس كل ما قالوه؟

ألم نسمع من توفيق الحكيم إعلانه لشديد ندمه على تمجيد الثورة النّاصرية، بل وانقلابه عليها، وإن كان تصوّرنا أن مناصرتها التي تاب عنها بانقلاب عليها يتيمة من مثل سابقتها وأنه ظل تائها في تلك الدائرة، فإن أفلح في شئ من الأولى وساق إلى الشعوب بعض القناعات التي لا يتحكّم وحده في إنتاجها في مجتمع يعجّ بالتيارات المتضاربة، فإنه لم يُفلح في الثانية من سخط من ارتدّ عنهم، فضلا عن أن تُحسب تلك العثرة عليه، فأي دور لأدبه هنا؟
ألا يَحقّ تجديد سؤال الفاعلية النضاليّة، فإن فشلت هذه الفاعلية مع هذه النماذج التي تقف موقف التربّص بمبادئها، فكيف بغيرها التي لا تخرج عن الشّطَحات الصوفية؟
وهذا شاعر القضية الفلسطينية محمود درويش الذي جاب العالم والتزم التزاما يصعب بعده الحديث عن أدب وطني، تراه ماذا صنع لمقاومته؟

هنا فقط يتبادر إلى الذهن سؤال أهمّ يقود إليه سياق النقاش وهو: من يتحكم في الوعي والسلوك الاجتماعي؟ أيُّ الأنساق أَنْفذ إلى تحريك هذا الكيان الوطني؟ فلئن كان من الصّعب الإجابة عن هذا السؤال فلأنه يُحيل على إجابة مُتفرّدة تتعلق بخصائص الشعوب وطبيعة الفنون التي تتحكم في وجدانها الجمعي، فضلا عن ملابسات الحضارة التي يمكن أن تغيّر من طبيعة الذوق، وتبعا لذلك من طبيعة المُؤثِّر، فلا أمّة أشعَر فيما أعلم من أمّة العرب -أعني العرب المَشارقة- الذين قيل فيهم إن شعرهم هو ديوانهم، فهؤلاء أجدر الناس بأن يُساقوا إلى الحديث عن تفاعليّة مع الشعر، ولأنّ المقام غير مناسب لاستقصاء القضية - حتى لا ندخل متاهة غير معدّة التّأسيس- لابدّ أن نعود إلى الفكرة الأولى المتعلقة بالشعر كونه خاصيّة تراتبيّة بالنسبة للشعوب في التّحكم في وجدانها مع ظواهر أخرى، تعمل إلى جانبه على هذا التحكم.

مأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إن من البيان لسحرا وإنه لكذلك، لذلك كان يقول لحسان بن ثابت اهجهم وروح القدس معك، فمثل هذه الشواهد دليل قاطع على ما للكلمة السّاحرة من ضغط على الوعي؛ شحذا وتحفيزا أو إطفاء وكسرا (الحرب النفسية)، غير أن مسألة الفاعليّة ونحن بصدد الحديث عن رفيق السلاح وزاد الحرب، ليست سِمة مائِعة منثورة في كل نصّ، والأغرب من ذلك أن نجد أغانٍ في العشق والتغزل في خانة أدب التحرّر، ولستُ أدري أوَيكون تصنيفها جامعا مانعا أم من قبيل النِّسبة الاحتمالية؟

لا يُعقل طبعا أن يخلو نصّ من أزمة المكان ومطلب الحرّية حتى مع دولة الاستقلال، لكن الغريب أن يُقحم ما ليس للرّاهب إليه؛ فأن تمتلء عذابا بمكان أنثى شيء وأن تمتلء عذابا بمكان وطن شيء آخر، ولا نقطة تجمع بين الاثنين إلا نقطة المكان الفيزيائي الذي يموت الأول فيه في حين يموت الثاني لأجله! فأيُّ الفريقين للوطنية شاعر؟
كان لابدّ إذا من التمييز بين شعرٍ وشعر، بين قصدٍ وتابع قصد، ليس بغرض المحاكمة ولكن بغرض الفصل تشريحا، حتى يتسنى عزل الجزء المقصود بالوطنية لذاته عن سواه، كونه المعني مباشرة حتى لكأنه مطالب بالدفاع عن حِماه، وإذ تأتّى لنا تحقيق هذا الفصل، صار سهلا مطارحة الموضوع.

في أي صفّ من صفوف المعركة يقف الأدب ومنه الشعر من قضية النّضال؟ وبكم - مقدار- يمكن له أن يساهم في تحريك أحداثها ولو عن بُعد؟

من المظاهر التقليدية في استنفار الحروب أنْ كان العرب يُقْدِمون في غزواتهم في الجاهلية وحتى في عهد الإسلام على بعث الرغبة في النّفس من أجل الانتصار والاستماتة على الحِياض، فكانوا يتخذون لأجل ذلك حِيلا صائبة، كان من بينها مرافقة النساء للجيش أثناء المعركة، فكانت النساء تحرّضن الرجال على القتال والاستماتة، ولم يكن للفارس أن يرتدّ فتُسبى ابنته أو زوجته، وما أدراك ما سبي النساء عند العرب! فهذا لقيط بن يعمر الإيادي يُرسل إلى قومه يحذرهم من جيش الفرس قائلا:

يا قوم لا تأمنوا إن كنتم غُـيـرا على نسائكم كِسرا وما جمعا

وإلى جانب هذا السلوك الفذ كان العرب لا يتأخرون عن توظيف مُمكنات أخرى لاستنفار الجيش، ولعلّ أبرز ما كان يُتّخذ لذلك -الشّعر- لكن لتلك الحياة حضارتها وثقافتها، فلا يخفى على الأذهان أن القبيلة الجاهلية وحتى بعد النبي صلى الله عليه وسلم كانت تُقيم الوَليمة إذا نبغ فيها شاعر، فهو الناطق الرسمي لها، ولسانُه سنانُها، لذلك انتشر الهجاء في الغير والفخر بالذات، ولعلّ الملاحظة المميزة أن استطرافات البلاغة كانت مُنعرجا مُبالِغا في التّحسين الجمالي من جهة، لكنها ومن الناحية السّلبية كانت أيضا مُنعرجا حاسما في فترة نُضجها من حيث اختلفت كليا عن إمكانيات الموافقة مع الواقع، فباتت تَحليقا في عالم مثالي، والأجدر أن يوصف بكونه وهميا، وبدل أن يبحث القول في توصيف الواقع حقيقة، فعل ذلك جماليا، فضاعت فُرص المُناسبة بين الإبداع الهادف والإبداع المتحلّي للذائقة غير آبه بمُحايثته للواقع، فلما صِرنا إلى المتنبي، صِرنا إلى الجوزاء في زمن مازال وقع حافر الفرس يصطكّ بأديم الأرض، يقول الشاعر:

خميس بشرق الأرض والغرب زحفه

وفي أذن الجوزاء منه زمازم

فدخل الشعر على عهده بلاط الخليفة ولم يخرج إلا ليؤكد له أنه فعلا ممن يقولون ما لا يفعلون، وبالتالي ينطبق الوصف على شعره، إذ يصف ما لا يصلح للممارسة العملية؛ فمات الرجل ببيت من شعره وأصابت جنايته ابنه الذي كان يرافقه- وهي حادثة تكنّي عن تعثر الشعب بعرّافه- ونالَه وَبالُ شعر أبيه على طريق البصرة، فماتا مقتولين على يد من يتحدّون بلاغة القول بـبلاغة بالفعل.
ففي كل ما سبق أين القوميّة من المتنبي وأين القول النافذ الدائم الإصابة، إلا أن يكون الرّجل رسّاما بارعا أحسن استخدام ألوانه، فنقل أمجاده أوّلا بما أوتي من سحر كلام ووثّق ثانيا وبِرَوعة ما جرى بين جيش سيف الدولة والأعداء، ولا يمكن لأحد أن يُنكر فضل الشاعر هنا على اللغة وحُسن تدْبيره لها ومساهمته من حيث يدري أو لا يدري في ترسيخ عرشها وتمليكها قلوب الرجال.

فإذا غادرنا عصر هذا الشاعر أقبلنا على فتح عمورية وما بها من مناسبة بين القول والفعل، مع روعة بلاغية خرقت عصرها، فهذا أبو تمام يُسأل لم لا تقول ما يفهم فيُجيب ولم لا تفهمون ما أقول، ومع ذلك ما كاد يُعاب عليه شيء غير اختلاط الفهم على أهل عصره، ولو أننا اتخذنا بعض نماذج شعره لتبيّن أنها بلاغة تعمل على الوصف الدقيق المُحايث للواقع، يقول الشاعر:

الــسيـف أصــدق أنبـــــاءً من الكتـب
فـي حدّه الحــــدّ بين الجــــدّ واللـعب
بِيض الصفـائح لا سود الصحائف في
متونهـن جــــــــلاء الشــك والــرَّيب
والعلـم في شهب الأرمـاح لامعـــــــةً
بيـن الخمِيسيْن لا في السّبعـة الشهُب
أين الروايـة أم أين النّجــــــوم ومــــا
صـاغوه من زخرف فيها ومـن كذب
تخرصًــا وأحـاديثــــا ملفقــــــــــــــة
ليست بنبـــــع إذا عُــدّت ولا غــرب
عجــائبــا زعمـــوا الأيــام مُجفلــــــة
عنهن في صـفر الأصفـــار أو رجب

والوصف هنا عند الشاعر مع اعتماده القوي في تشكيل الصور البلاغية ورسم لوحات غير ممكنة الإمساك قابلة الإدراك قائم على الخيال، إلا أنه رغم ذلك تمكّن من الاستحواذ على جوهر الحقيقة بنبذ المنجمين في مشاهد تفضحهم، وعلى العكس تماما من سابقه - المتنبي- تكشف صياغته أن الفعل والتصميم هما السيّدان، لا الوهم والتنبؤات الطقسية الواهية، كما أن اللغة على بهرجها لا تلعب على أيّ هامش، بل تشغل المتن كاملا، مستفيضة من الخيال لتصبّ في الواقع، وبرسم منحنى لمسار الملفوظات والمدلولات يتّضح لنا أن أبا تمام اعتمد طريقة تصاعدية في استقراء الواقع، آخذا بيد البلاغة في تشكيله، فهو إذ يبدأ من السيف متنقلا على متن النبإ الصادق يصل من خلال حدّه إلى تلفيق المتقوّلين الذين يمثلون بلاغة القول وسحريّـته لتتكشف فضائحهم عند أبواب المعركة.. معركة تأخذ بالأسباب الحربية مثلما تأخذ بالأسباب المنطقية للنصرة، لتتجلى على وثيقة تاريخية في لغة صادقة بألفاظ عملية، ممثلة في هذه القصيدة التي بين أيدينا.

ولو أننا تركنا جميع هذه العصور ودخلنا عصرنا وبحثنا عن شئ نسميه وطنية أو قومية -مع ما بين المصطلحين من فرق وإن جمعناهما- لكان لنا أن نختار من جملة القول الهادف ما يمُسّ أزمتنا الشمولية، أزمة فلسطين -بعد أن نقطع مسافة بعيدة قريبة يمثلها محمود درويش- وهي قصيدة لا تصالح لأمل دنقل التي رفع بها راية الرّفض، وإذ نتّخذها ببعض الإحاطة إنما نُـيَسّـر بها الهدف الذي مازلنا نَحوم حوله ولم ندخله بالكيفية المناسبة وهو إشكالية الهويّة وباعث الفاعليّة في الأدب عامة والشّعر خاصة.

يمثل أمل دنقل بقصيدته هذه مظهرا من مظاهر الرفض (الفاعليّة الصّانعة للوطنية) على حدّ الوصف الظاهر الذي لَمّا يزل طريح المناقشة، وقد كتبها الشاعر وهو ينتقد موجات الدعوة للمُصالحة مع اليهود، ليصف بها الهمّ العربي، دون أن يمجّد أحدا، مستغلا بذلك أفق التخييل في بناء عالمها الذي يغدو مقدمة محكمة النتائج المتوقعة، متخذا من الألفاظ البسيطة هِنداما لمعناه، يقول:

لا تصالحْ!
ولو مَنحوك الذهبْ
أترى حين أفقأ عينيكَ
ثم أثبت جوهرتين مكانهما..
هل ترى..؟
هي أشياء لا تشترى..
ذكريات الطفولة بين أخيك وبينك،
حسُّكما - فجأة - بالرجولة،
هذا الحياء الذي يكبت الشوق.. حين تعانقهُ،
الصمتُ - مبتسمين - لتأنيب أمكما..
وكأنكما
ما تزالان طفلين!
تلك الطمأنينة الأبدية بينكما:
أنَّ سيفان سيفَكَ..
صوتان صوتكَ
أنك إن متَّ:
للبيت ربٌّ
وللطفل أبْ
هل يصير دمي - بين عينيك- ماءً؟

فالقصيدة تصوّر البسيط بهالة من الضّخامة عندما تستحضر اليومي والمُمكن والمنسي، والمفترض لو أننا لم نأخذ بالنصيحة، ومن ثمة ما نكون قد كرّسنا له من الاستسلام والمتاجرة بالدّماء بعرَض من الدنيا قليل، وحتى لا نستغرق وقتا في مسائل أُفِيضَت شرحا واستوفيت تحليلا وباتت من البديهيات، لا بدّ أن نعود إلى سؤالنا الأول وقد عزلنا الأدب المَهْموم بأرضه وبالنضال عن غيره، وقد حدّدنا نماذج يصلح أن نبني عليها فرضياتنا ومن ثمة افترضنا نماذج مغيّبة تصلح للحكم عليها بمجرد الإشارة.

كل هذا الزخم من النصوص والأشعار الصريحة في مُناصرتها لقضايا معيّنة والملامِسة للحياة دون غلواء في بهرج البلاغة أو المُبهرجة المتفطنة لقيم ذاتها.. ماذا تقدّم لوازِع الهويّة التي تنتمي إليها، وهل قدّمت فعلا، وما الملموس مما قدّمت؟

أرى أن الأمر ليس إلا تَشكّلات ثقافية تصنعها الكلمات التي نحبّبها لجماليتها، فهي التي ترسّـخ في أفهامنا ومن ثمة في لا شعورنا استعدادات سلوكية تتحكم في ذواتنا، وهذه إفادة من قبيل تحصيل حاصل، ولن يكون لها أكثر من دور التشجيع على إقامة الأدب، ومع ما يبدو من استهانة بمثل هذه التأثيرات إلا أن سؤال العصر أكبر بكثير من أن يقتنع بها، وسيستمرّ بالإلحاح؛ أليس الأدب والشعر في كثير من الأحيان تعبير عن الفشل والعجز أو تتويج للنجاح المحصّل، ومن ثمة إن سلّمنا بهذه المبادئ نطرق التساؤل الأوّل من جديد: ما هي فاعلية الأدب مادام لا يُوثّق إلا الفشل أو ينتصر للفوز، أيُّ إسهام يقدّم؟

والجواب أنّ الأدب مبدئيا عملية فكريّة تستنطق الوجدان وتعمل على إذابة القيَم الراسخة التي يستحيل الارتداد عنها وأنه حافز ودافع يعتمد في بنائه على قائله، فهو من يحدّد زاوية الإصابة، ولكل مشغول بما انشغل نصيب، وكلما كانت المسافة الفارقة بين الحقيقة والواقع بمثابة الهوّة كانت المُعايشة مثلها، وحتى أدوات البلاغة تعبّر بطرق استخداماتها عن مدى واقعية مبتغاها، فالشاعر الذي يمدح الحاكم بما ليس فيه لابدّ أن يكون كاذبا، وحينها فلا تلك القيم موجودة في ممدوحه فيزداد بها تحلٍّ ولا المادح بالصّادق حتى يلامس بلغته ما هو واقعٌ ولا أن يصوّر ما هو ممكنٌ، ليعيش الاثنان معا في غير عالمهما، ومتى أصاب الشاعر من الحقيقة بجمال لغته، أصاب مثلها من الواقع، فهذا الحُطيئة، الشاعر المخضرم وقد حبسه الخليفة عمر بن الخطاب بعد أن هجا الزبرقان بن بدر يُبكي الخليفة توسّلا في أبنائه، ضاربا بلغته كبد الحقيقة، ملامسا الواقع، يقول:

مــاذا تقول لأفراخ بذي مرخ
زُغب الحواصل لا ماء ولا شجرُ
ألقيت كاسبهم في قعر مظلمـة
فــاغفـر عليك ســلام الله يا عمـرُ

فيبكي عمر رضي الله عنه ويخلي سبيله، أما بالنسبة لنا في الشاهد -وهو الهدف من توظيف الواقعة- كيف أنه تناسب القول -بجملة استعاراته- مع الواقع، ليتطابق مع مقتضى الفعل بين ثلاثة ذوات رمزية هي الخليفة، الشاعر والأبناء الصغار الذين يجسدون الواقع.

وهذا شاعر الغزل نزار قباني يتعالى في قصيدة نهر الأحزان إلى علْياء وخيال، فيرسم صورة رائعة، لكنها لا تلامس أيّ واقع إلا أن يحيا متذوّقها على أوهام، يقول:

عيناكِ كنهري أحـزانِ
نهري موسيقى.. حَمَلاني
لوراءِ وراءِ الأزمـانِ
نهرَي موسيقى قد ضاعا
سيّدتي.. ثمَّ أضاعـاني
الدمعُ الأسودُ فوقهما
يتساقطُ أنغامَ بيـانِ
عيناكِ وتبغي وكحولي
والقدحُ العاشرُ أعماني

وهي مفردات لا تمُتّ بصلة إلى الواقع المعيش ويَزيدها سياقها تغريبا ومثالية، حتى تخرج عن كونها طفرة أو أملا إلى اعتبارها تَهويمَة مُراهَقة لأحلامَ مفقودة.

بلاغة الفعل وبلاغة القول:

بين الحلم والواقع مسافة طويلة؛ فالأول رُكون إلى الضّعف واستسلام للعجز والثاني تفنّن في الممارسة وتأكيد على الجَدوى، وبينهما يقف الشعر موقفا يميل به أصحابه؛ فمنهم من يضعه موضع المُخَطِّط للأعمال كمن يقضي سهره تفكيرا ويُغرَق تأمّلا في عمل يقبل عليه ويتهيأ له بالمُمكنات ويحسن له المَداخل، ومنهم من يهرب من ضوء نهاره إليه، فيرمي عدوّه بأبلغ الأقوال مادام عاجزا عن ضربه بأبلغ الأفعال (وربما تكنِيَة وتلميحا)، ولكلٍّ من المقاميْن بلاغة تميّزه عن الآخر وتوحدّه في الوقت ذاته معه فلسفة!!

فيتبدى الأمر وينكشف عن مسائل يستعيض بها الناس في حياتهم.. ولا بدّ من أثر متطابق على أنفس الناس من هذا؛ فلَسوف يتفق هُروب العاجز بأفعاله إلى أقواله مع نصوصه، فتحمل تلك السّمات التي تميّزها عن غيرها، طالما أنها نتاج عملية فكرية وواقع معيّن، وبالتالي يمكن أن نتوقع إمكانية حمل تلك السمات التي تغدو لغويّة إلى ذهن المتلقي وإنتاج أشخاص من قبيله، يَهربون إلى الخيال من الواقع، ولو أنه أمكن محاكمة أمثال هؤلاء الشعراء لكان جائزا ذلك حتى لا يفسدو على الذائقة مذاهبها ويثبّطوها على عزائمها بجملة تراكيبهم وأنساقهم المضمرة التي يتفشى عنها سلوك خمُول وتظاهرات، بدل عمل وتفاعلات.

الصّعاليك.. القوم الخارجون على كل النُّظُم:

لم يكن للشعراء الصعاليك وهم يخرجون على مجتمعاتهم أن يكتفوا بإعلان رفضهم لما آلَت إليه أوضاعهم، كما لم يكن لهم أن يكتفوا بهذا الخروج على أفعالهم، فهاهي أشعارهم تحمل معاني التمّرد الصّريحة، وهاهم يَصِفون غزواتهم وقطعهم للطرقات.. فتلك معانٍ قصدوها لكنهم لم يقصدوا -عن منهج- فعل أشياء أخرى من قبيل كسْر الأعراف الإبداعية السائدة والممثلة أساسا في البداية الطّلليّة للقصيدة؛ فقد خرجوا عنها خروجا قاسٍ وكان صعبا وقتها كسْر مثل هذه التقاليد الثقافية لِهيْمنتها، تماما كما صَعُب في عصرنا تَلقّي قصيدة النثر، وإلى هذا الحدّ لم يستبح هؤلاء حراما إلا ثقافيا، في حين استباحوا محرّمات أكثر عَراقة وأصعب طرْقا -وهم لا يشعرون- فأين تلك اللغة المعهودة التي بُنيَت عليها قصائد العرب جميعا ومنها المعلقات وما أدراك ما المعلقات؟

لقد ذهب بها الصعاليك كلّ مذهب، فابتكروا لغة جديدة أفرزتها تصوراتهم الوجوديّة (النسق) دون أن نقول دراساتهم اللغويّة لبساطة ما كانوا عليه من حال، فقابلوا بين عُقوقهم لمجتمعاتهم وعُقوقهم للمعاني المتداولة، يضاف إلى ذلك عقوقهم للّغة السّائدة والتراكيب المألوفة، إلى أن استأنس العبدُ منهم بالذئب في نادرة من طباع البشر، يقول الأحيمر السّعدي:

عَوى الذئب فاستأنستُ بالذئب إذ عوى وصوتُ إنسان فكدتُ أطيــرُ

وكما رفض الصعاليك نظام المجتمع، رفضوا نظام القصيدة فبدّلوا فيه تبديلا، حيث لا طلل ولا بكاء ولا مرور بالرحلة، يقول الشنفرى:

أقيمـوا بني أمــّي صدورَ مَطيكــــــم فــــإني إلى قوم سواكــــم لأميلُ
فقد حمت الحـاجـــــاتُ والليـلُ مقمـر وشُدت لِطيـاتٍ مطــــايا وأرحُلُ
وفي الأرض منـأىً للكريم عن الأذى وفيهــا لمن خــاف القِلى مُتعزّلُ
لعَمركَ ما بالأرض ضيقٌ على امرئ سرى راغبا أو راهبا وهو يعقلُ
ولي دونكـــــــــم أهلــونَ سِيدٌ عَملس وأرقــط زُهلول وعرفــاءُ جبْـألُ
هـم الأهلُ لا مستودعُ السـرّ ذائــــــع لديهم ولا الجـاني بمـا جَرَّ يُخذلُ
وكـــلٌّ أبيٌّ باســلٌ غيـــــر أننـــــــي إذا عرضت أولى الطرائدِ أبسلُ
وإن مدت الأيدي إلى الــزّاد لـــم أكن بأعجلهم إذ أجشـــعُ القوم أعجلُ
ومـا ذاك إلا بَسطــــــة عن تفضـــــل عليــهِم وكـان الأفضل المتفضِّلُ

وإذا كان الأحيمر السّعدي يستأنس بالذئب المفترس فإن الشنفرى يستأنس بوَحْش أكثر افتراسا ويستودعها أسراره، وليست هذه المظاهر التي جاء بها هؤلاء سوى انعكاسات للعالم على مرآة أشعارهم، وهي تكريس ثقافي لقناعاتهم من حيث يقصدون ومن حيث لا يعرفون قصدا، لذلك تمّت الإشارة آنفا إلى عظيم أثر الميل المكبوت على المعنى وعلى اللفظ وعلى المتلقي من وراء ذلك، ومنه أمكننا رصد دَوْر الأدب في النّضال خصوصا وفي السلوك الإنساني عموما، فهو لا يتدخل مُباشرة إلا نادرا، فيما تعلو درجة خطورة تدخّله كونها تعمل على برمجة الفرد في إطار من الوعي الجمعي بجُملة معطيات تتحكم في سلوكه ومواقفه إلى درجة القناعة المُضمرة التي وإن امتلء بها ربما لم يستطع تفسيرها كما لا يستطيع الصعاليك لو سُئلوا عن بنية نصوصهم أن يبرّروا ما ذهبوا إليه من تغيير.

وخلاصة القول أن البنية النصية بلغتها وأسلوبها تحدّد إمكانية النّصرة لجهة مَيْلها من عدمها، وإن بدا صعبا بحث جانب الفاعليّة، فإن أيّ ممارسة لا تصطبغ بمحاذاة الصُّدفة، بل إن تطعيمها يعتمد أساسا على صدق المنحى، وكلمة الأدب كلمة متميزة في أسلوبها ولغتها ومن ثمة في طريقة أداء رسالتها، ويزداد الأسلوب تفرّدا ومن ثمة النتيجة واقعية بتميز صاحبها، فكلما كان الشاعر لها راسخا مُصمّما، كانت إشاراته أكثر تصميما وأنفذ تبليغا.. المناسبة بين الاعتقاد والعمل في الحياة اليومية عامل يكلّل صاحبه بالوصول إلى الهدف الذي يسعى إليه، ومثله المناسبة بين الاعتقاد والعمل الفني وإن اختلف مطلب التصوّر هنا، حيث تكون المناسبة بين الاستعمالات اللغوية المقتضية للوصف وراهن الأحداث التي تتطلب الرصد، وهو عين ما كان يقول الغذامي عن العصر الإسلامي الأول، حيث كان المسلم يقول شيئا بلغته العادية وينوي فعل ذلك ويقول الشئ ذاته المسلم الشاعر بلغته الشعرية على أمل العمل به أيضا، فيتطابق الاعتقاد والعمل ليتحقق للوجود شئ نسمّيه الحياة الممكنة.

عبد الله الغذامي، النقد الثقافي، المركز الثقافي العربي، بيروت الدار البيضاء، ط2، 2001، ص87، 88.

محمد رضا مروة، أبو تمام، عصره، حياته، شعره، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط1، 1990، ص40.

علي سليمان، الشعر الجاهلي وأثره في تغيير الواقع، منشورات وزارة الثقافية، سوريا، 2000، ص248.

حسين الحاج حسن، أدب العرب في عصر الجاهلية، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، ط3، 1997، بيروت، ص92،93.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى