الثلاثاء ١٧ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٠٩
بقلم مصدق بن علي الجليدي

روّاد الإصلاح التربوي في تونس

جاء في القانون التوجيهي للتربية والتعليم المدرسي التونسي (تموز 2002) أن لهذا القانون بعدين متلازمين: تاريخي واستشرافي. فإذا كان النظر إلى حاجات الحاضر ومستلزمات المستقبل أمرا تحتمه الطبيعة البشرية وتضطلع به الإرادة السياسية، فإن الوعي الثقافي هو الذي يفرض علينا الانتباه إلى البعد التاريخي الذي يجعل من الإصلاح التربوي الأخير« تواصلا لمسيرة تربوية متنامية ترمي بجذورها عميقا في ماضي تونس وتقاليدها الراسخة في نشر العلم وتبجيل حملته. وهو العمق الذي منه نستلهم قيمنا الحية ونستوحي رؤيتنا التربوية، وعليه نؤسس مرجعيتنا في تكامل مع الموروث المعرفي والثقافي للإنسانية وتفاعل مع مثلها العليا» (ص. 5).

ولقد تضمن سفر القانون التوجيهي نص القانون الإصلاحي المتعلق بالتعليم الصادر في نوفمبر 1958، وكذلك نص القانون الإصلاحي المتعلق بالنظام التربوي الصادر في جويلية 1991، إبان فترة وزارة محمد الشرفي، وفي هذا تنزيل ملموس لفكرة البعد التاريخي لهذا القانون وإشارة واضحة إلى معاني التراكم والتواصل والتطوير والإصلاح في الآن نفسه. حيث تم المرور من هاجس بناء الشخصية القومية التونسية المسلحة بالثقافة العلمية والتقنية اللازمة للانخراط في معركة التنمية (قانون 1958)، إلى الحرص على مزيد من التوازن والثقة في بناء تلك الشخصية، لتكتسب حسا مدنيا أرقى وقدرة أكبر على مسايرة التغيرات السريعة في نسق العلم والتنمية العالميين (قانون 1991)، ليتم التركيز في النهاية على القيم الكونية الجديدة المستقدمة من عالم الاقتصاد الرقمي، كالنجاعة والجدوى والجودة والعلاقات الأفقية التي تجد تعبيرها تربويا في جعل المتعلم مركز العملية التربوية (قانون 2002).

فإذا كانت طبيعة القانون التوجيهي التشريعية تفرض التقيد بالصياغات القانونية للإرث الإصلاحي التربوي، فإن في طبيعة الفكر الثقافية من الفسحة ما يخوّل له التوقف عند تفاصيل الأدبيات الإصلاحية التي تمثل العمق التاريخي الثقافي للنظام التربوي الحالي. وهو ما نروم القيام به في هذا التأليف من خلال نماذج دالة، تركت بصماتها القوية في تاريخ تونس التنويري، وهي على التوالي أفكار ابن خلدون التربوية التي ضمّنها مقدمته الشهيرة، ومشروع الشيخ الطاهر بن عاشور الإصلاحي التربوي الذي عرضه في كتاب"أليس الصبح بقريب؟"، وآراء الطاهر الحداد الإصلاحية بخصوص التعليم الزيتوني والتي جاءت في وثيقة "التعليم الإسلامي و حركة الإصلاح في جامع الزيتونة".

كما أنّنا نجد في آثار الشيخ محمّد الخضر حسين-أصيل نفطة من الجنوب التونسي وشيخ الأزهر في السنوات الخمسين من القرن الماضي- أفكارا تربوية إصلاحية تمتّ إلى فلسفة ابن خلدون الاجتماعية بأكثر من سبب. ولذلك اخترناه هو الآخر مع كوكبة المصلحين التربويين الرواد بالرغم من عدم إفراده لكتاب خاص بالتربية، خلافا لزميله وصديقه الشيخ الطاهر بن عاشور الذي درس وإياه على نفس المشايخ: سالم بوحاجب وعمر بن الشيخ ومحمّد النجاّر. ونعدّ الشيخ الخضر حسين في زمرة المصلحين في تونس- بالرغم من التحاقه بالشام منذ أن حكم عليه بالإعدام لاشتغاله بالسياسة ودعوته إلى النضال والتحرير- نظرا لكونه قد بدأ في صياغة أفكاره الإصلاحية منذ أن كان في تونس، التي عيّن فيها مدرّسا في الجامع الزيتوني وفي مدرسة الصّادقيّة، بعد أن ترك منصب القضاء بمدينة بنزرت سنة 1905.

إننا نهدف من وراء اختيارنا لهذه العينة إلى سدّ ثغرة في أدبيات تاريخ التربية في بلادنا، التي عادة ما تقفز من الفترة الرومانية إلى رواد التربية الحديثة في أوروبا، ثم نقد التعليم الزيتوني التقليدي، فإلى إصلاح 1958 والإصلاحات التي تليه، وكأنه لم يظهر في التاريخ العربي الإسلامي من نقد أحوال التعليم الديني التقليدي أو لم يظهر من داخل الزيتونة ذاتها من ثار على طرقها التعليمية البالية، مثلما فعل الرواد الذين اعتزمنا دراسة آثارهم الإصلاحية التربوية وتقديمها للمهتمين بتاريخ التربية في بلادنا.

وفي الحقيقة لا يتوقف هدفنا من هذا العمل، على هذه الغاية النظرية فحسب، بل لدينا كذلك غاية عملية تتمثل في محاولة الإسهام في إضعاف حالة المقاومة للتجديد التي نلمسها لدى أعداد كبيرة من المدرسين وتأصيل فعل التجديد البيداغوجي في نفوسهم من خلال تأصيله في تراثهم الذي يعتزون به.

وبالعودة إلى مسألة النماذج الإصلاحية التي نعتزم دراستها وتقديمها للقارئ العربي، فلقد سألَنا بعض من علم بعملنا هذا قبل صدوره عن سبب تركنا لأعمال تربوية أخرى مشهورة أنجزها أعلام تونسيون قدامى مثل الإمام سحنون و أبي الحسن القابسي.

أوّلا نذكّر القارئ الكريم أن عملنا هذا لا يخص الأدبيات التربوية العربية الإسلامية بوجه عام وإنما الأدبيات التربوية ذات المنحى الإصلاحي بوجه خاص، وهو ما لا يتوفر في أعمال الذين سبقوا ابن خلدون. وهنا نصل إلى السبب الثاني لعزوفنا عن ذكر من جاء قبله، وهو أن ما قام به ابن خلدون في هذا المضمار هو بالضبط نقده لطرق التعليم التقليدية والشعبية التي قننها سحنون والقابسي [1]. فالمؤلف الأخير مثلا، ينفق الصفحات الطوال في «آدابه التعلّمية-التعليمية» في وصف طرق العقاب وطول العصي وأنواعها المستعملة في تأديب الصبيان. كما أن التعليم الذي ينادي به هو تعليم ديني بالأساس، ويصل به الأمر لاستبعاد العلوم الوضعية كالحساب إلى الفتوى بجواز تعليمه للصبيان من دون الفتيات لمن رغب أهله في ذلك. ولذا لا معنى لإدراج مثل هذه الأعمال ضمن التراث التربوي الإصلاحي، ولا حتى ضمن الصالح منه، من وجوه عدّة. وتكمن العلة الرئيسية للتقليديّة المفرطة لهذه الكتابات في الغياب الكلي أو شبه الكلي فيها لحدس مفهوم الفرد والإنسان [2] بالمعنى الذي يقترب من تعريفنا المعاصر له. فهي إذن وليدة ابستيمية ما قبل-حديثة ولا نطالبها بأكثر مما تقدر عليه. وهو الأمر الذي يختلف كثيرا لدى ابن خلدون، كما سنبينه لاحقا، بالرغم من مرور ستة قرون كاملة على وفاته. ولذا فنحن نرشحه لأن يكون الأب الأكبر للإصلاح التربوي في العالم الإسلامي عامة وفي تونس خاصة.

أما بخصوص الأعلام المصلحين الذين ظهروا في القرنين الماضيين كالشيخ محمود قبادو وسالم بوحاجب والجنرال حسين، فبالتأكيد أنهم قد تكلموا في التربية ولهم منها مواقف وآراء وممارسات تزداد أو تنقص تقدمية، ولكنهم لم يتركوا لنا أدبيات متكاملة في هذا المجال كما هو الحال للشيخ الطاهر بن عاشور والطاهر الحدّاد.

أما وقد نزّلنا العمل الراهن ضمن إطاره الفلسفي التربوي المؤسسي وضمن إطاره التاريخي-الثقافي المتفرّع عنه، فإنّ الضرورة المنهجية تفرض علينا تبرير اختيارنا للشيوخ الطاهر بن عاشور والطاهر الحداد ومحمد الخضر حسين من بعد ابن خلدون حاملين للواء الإصلاح التربوي العربي الإسلامي عموما والتونسي خصوصا. فما الذي يجمع بين أعمال هؤلاء الأعلام؟

إن التأمل في نصوص كل من ابن عاشور والحداد والخضر حسين يفيدنا باشتراكهم-بدرجات متباينة- في ثلاث مرجعيات فكرية أساسية: اثنتان تراثيتان مستنيرتان وواحدة معاصرة:

 أمّا التراث فقد استقوا منه منهج المعالجة العمراني الخلدوني والنظر إلى القضايا التربوية من زاوية مقاصد الشريعة الإسلامية.

* وأما المرجعية المعاصرة فتتضح في انفتاحهم الواثق على الفكر الغربي والتجارب التربوية الأوروبية المطبّقة في بلدانها الأم أو في المستعمرات الفرنسية خاصة [3].

بالعودة إلى التراث تبرز إصلاحية هذه الأعمال، وبالاتجاه صوب الفكر الأوروبي المعاصر لها تبرز نزعتها التحديثية التوفيقية [4]. مع أن نصيب كلا منها من هذه النزعة أو تلك يختلف والحق يقال من عمل إلى آخر. فأشدّها إصلاحية هو عمل الشيخ محمد الخضر حسين - وعناوين كتبه نفسها تدلّ على ذلك فضلا عن محتوياتها- وأكثرها تحديثية هو ما ينسب إلى الحدّاد، أما إنجاز الشيخ الطاهر بن عاشور فبين هذا وذاك.

هذا وتجدر الإشارة إلى أن الشيخ الطاهر بن عاشور قد اطلع على نقد الحداد للتعليم الزيتوني وعلى الآراء التربوية الإصلاحية التي عبر عنها، فأثنى خيرا على كل ذلك.

التأثر بالمنهج العمراني الخلدوني:

لئن كان تأثر هؤلاء الشيوخ الثلاثة بالمنهج العمراني الخلدوني متفشيا في أعمالهم أوأقوالهم التربوية على نحو ضمني، من خلال طبيعة المقاربة النقدية المعتمدة من كليهما، فإن الشواهد والدلائل الملموسة على هذا التأثر متواترة في نصوصهم. فممّا جاء على لسان الطاهر الحداد قوله مثلا في وثيقة "التعليم الإسلامي وحركة الإصلاح في جامع الزيتونة": «قد كان العلامة ابن خلدون من هؤلاء الأفذاذ الذين كانوا جواهر منتشرة في تاريخ الإسلام، لكنه كأمثاله قد كان مبغوضا من الفقهاء في بلاده تونس وغير بلاده.» (ص. 108-109).

ويظهر استبطان الحدّاد لطريقة ابن خلدون في التعامل مع النص الديني في مناداته بالتخلي عن علم اللاهوت القديم (علم الكلام ) واستبداله بالمنهج الاستقرائي الطبيعي والتاريخي المستقى من ابن رشد (دليلا العناية والاختراع) ومن ابن خلدون نفسه (قوانين العمران البشري وقيام الحضارات وسقوطها)، وذلك عند دعوته إلى النظر في «الآيات الحاثة على النظر في الكون والاعتبار بحال الأمم المارّة فيه من سقوط ورفعة»( ص 131)، عوض الإغراق في تفاصيل غيبية لا طاقة للعقل البشري بها.

أما الشيخ ابن عاشور فإنه، في معرض حديثه عن أغراض التأليف والشروط الواجب توفرها في المؤلف، فيذكر شرطا فكريا هو ملكة الحكم العامة (إلى جانب القوى النفسية الجزئية الخاصة بأنواع العلوم نوعا، نوعا)، ويستدل على ذلك بـابن خلدون، فيقول عن تلك الملكة: « قوة في النفس[...] كلّيّة وهي القوة الحاكمة في الفطرة التي سماها ابن خلدون الملكة العامة وهي نادرة لأنها تعتمد أوّلا على قوة فطرية تهيئها الخلقة الأصلية ثم يخدمها العلم والتحقيق وهي التي يكون لصاحبها طبع الفلسفة» (ص. 170).

ومن الشواهد الصريحة على تأثّر الشيخ محمّد الخضر حسين بمنهج ابن خلدون العمراني عقده في كتابه "تونس وجامع الزيتونة" فصلا كاملا للحديث عن ابن خلدون ومُثُلٍ من فلسفته الاجتماعية (ص. 44- 69).

هذه بعض الأمثلة فقط عن حضور المرجعية الخلدونية في الأعمال المختارة لهذه الدراسة، ويكفي رفضها لطرق التعليم الدينية التقليدية بوجه عام ليكون ذلك في حدّ ذاته دليلا على استئنافها للمشروع النقدي التربوي الخلدوني في العصر الحديث.

التأثر بمنهج مقاصد الشريعة الإسلامية:

يبدو هذا الأمر كأوضح ما يكون لدى ابن عاشور خاصة، بالرغم من أنه لم يكتب "مقاصد الشريعة الإسلامية"(سنة َ1947) إلاّ بعد خمس وأربعين سنة من شروعه في تأليف"أليس الصبح بقريب؟؟"(سنة 1902). بل إن كتاب "المقاصد" لا يبدو أكثر من عمل تأصيلي نظري لما كان قد بدأه من جهد إصلاحي قبل ذلك بحوالي نصف قرن. فها هو يكتب في المؤلّف الأخير:« إذا نحن استقرينا موارد الشريعة الإسلامية الدالة على مقاصدها من التشريع استبان لنا من كليات دلائلها ومن جزئياتها المستقراة أن المقصد العام من التشريع فيها هو حفظ نظام الأمة واستدامة صلاحه بصلاح المهيمن عليه وهو نوع الإنسان. ويشمل صلاحه صلاح عقله وصلاح ما بين يديه من موجودات العالم الذي يعيش فيه[...فـ]مقصد الشريعة الإصلاح وإزالة الفساد»(ص. 63).

ومن طريف ما وقفت عليه لدى ابن خلدون نفسه هو ربطه ربطا وثيقا بين منهج العمران البشري ومنهج المقاصد الشرعية، فقد جاء في المقدمة قوله في تعريف علم العمران البشري: « وهذا الفن الذي لاح لنا نجد فيه مسائل تجري بالعرض لأهل العلوم في براهين علومهم، وهي من جنس مسائله بالموضوع والطلب[...] مثل ما يذكره الفقهاء في تعليل الأحكام الشرعية بالمقاصد في أن الزنا مخلّط للأنساب مفسد للنوع، وأن القتل مفسد للنوع، وأن الظلم مؤذن بخراب العمران المفضي لفساد النوع، وغير ذلك من سائر المقاصد الشرعية في الأحكام، فإنها كلها مبنية على المحافظة على العمران » (ص. 71). هذا الكلام مطابق تماما لقول ابن عاشور السابق من أن «مقصد الشريعة الإصلاح وإزالة الفساد».

ويقول ابن خلدون لدى تبريره لترتيب فصول كتابه: « وقد قدمت العمران البدوي لأنه سابق على جميعها كما يتبين لك بعد، وكذا تقديم الملك على البلدان والأمصار، وأما تقديم المعاش فلأن المعاش ضروري طبيعي وتعلم العلم كمالي أو حاج [5]، والطبيعة أقدم من الكمالي» (ص. 74-75). فإذا علمنا أن مراتب المقاصد الشرعية ثلاث: الضرورية والحاجية والكمالية، تبين لنا مدى" مقاصدية" المنهج العمراني الخلدوني نفسه. وهذا من أعجب ما عثرت عليه في التفاعل الحاصل بين العلوم في الحضارة الإسلامية. وهو أمر مفهوم ومقبول من الناحية الابستمولوجية، لأن كلاّ من علم العمران البشري وعلم أصول الفقه وكذلك علم المقاصد الشرعية علوم تنبع من منطق العقل العملي وليس النظري الخالص، إذ أن موضوعها الممارسة الإنسانية الاجتماعية أو الفردية (طبائع العمران البشري والضروريات والحاجيات والكماليات الفردية والجماعية).

وتجدر الملاحظة أنه من المستبعد أن يكون ابن خلدون قد أخذ ثقافته ومقاربته المقاصدية عن الشاطبي، حتى وإن كان معاصرا له، لأن الشاطبي (790هـ) كتب "الموافقات" التي ضمت المقاصد، في أواخر القرن الثامن، بينما كتب ابن خلدون مقدمته بين سنتي 776هـ و 780هـ. والأرجح أنه قد اطلع على هذا المفهوم في "مستصفى" الغزالي (505هـ) و في "مختصر" ابن الحاجب و "فروق" تلميذه القرافي (684هـ).

وعلى صعيد آخر، قد يظن بعض الناس أن منهج المقاصد معطّل تماما منذ الشاطبي إلى حين ظهور عمل ابن عاشور بعده بستة قرون، وهذا وإن كان من الناحية العملية صحيحا، إلا أن الوعي بمنهج المقاصد وجد لدى بعض شيوخ الطاهر بن عاشور مثل الشيخ سالم بوحاجب، وقد يكون هو الذي نبه تلميذه إليه، وهذا ما نرجّحه.

على أية حال، نلحظ في كتاب "الصبح القريب" توظيفا واضحا للرؤية المقاصدية. من ذلك مثلا ما ذكره المؤلف عند نقده للبرامج والوثائق المدرسية (التآليف) وتأثيرها في أداء المعلمين: «فلا شك أنّ لإخلال التأليف يدا في هذا الاضطراب، وهذا هو الذي اشتكى منه بإجمال ابن خلدون والشاطبي في الموافقات» (ص. 174). أو قوله» ولقد صرح أئمة علمائنا بفائدة النظر في مقاصد الشريعة مثل الغزالي وابن العربي (الفقيه والمفسر ولا المتصوف الذي هو ابن عربي) والشاطبي وقد خصها الثالث بجزء من كتابه عنوان التعريف»(ص. 200). ثم يردف بعد ذلك بقوله »كان إهمال المقاصد سببا في جمود كبير للفقهاء ومعولا لنقص أحكام نافعة، وأشأم ما نشأ عنه مسألة الحيل، التي ولع بها الفقهاء بين مكثر ومقل.» (نفسه).

أما المتفحص لكلام الحداد فيستنتج بسهولة اقتناعه بضرورة «ربط نصوص الشريعة بما يطابق مصالح الناس»(ص.139). ولا تخفى علاقة منهج المصلحة الوطيدة بمنهج المقاصد، إذ لا يعدو أن يكون مقصد الشريعة الأسمى جلبَ مصلحة أو درء مفسدة، مع التأكيد على أن درء المفاسد مقدّم على جلب المصالح. وما درء المفاسد في حد ذاته إلا تحقيق لمصلحة.

أمّا الشيخ الخضر حسين فهو كذلك من الواعين بأهمية الرؤية المقاصدية لأحكام الشريعة، ومما يدلّ عليه قوله : «فعبقرية الأئمّة المجتهدين أورثتنا هذه الثروة العظيمة وأحكامها العائدة إلى حفظ الدين والأنفس والأعراض والأموال» (رسائل الإصلاح، ص. 233). ولا يخفى أنّ ما ذكره في الآخر إن هو إلاّ طائفة من مقاصد الشريعة الإسلامية. كما أن كتابه "الدعوة إلى الإصلاح" يحوي فصلا سمّاه "مقاصد الإسلام في إصلاح العالم"، وهذا شاهد آخر على تأثّره بالرّؤية المقاصدية للشريعة.

الانفتاح على الفكر الأوروبي

من المعلوم أن الشيخ الطاهر بن عاشور قد تعلم اللغة الفرنسية وأتقنها، والنصوص والوثائق التي ترجمها بنفسه من الفرنسية وأدرجها في كتابه عن التعليم العربي الإسلامي تشهد بحسن تمكنه منها ويسر اطلاعه عليها. ولا يتوقف اتجاه الشيخ ابن عاشور نحو هذه اللغة الأجنبية على قراءته لها وتوظيفه التوثيقي منها، بل يتعداه إلى التفاعل الإيجابي مع بعض القيم الثقافية التي حملتها، ولذا فهو لا يرى غضاضة في أن يستشهد من حين إلى آخر بإحدى الأفكار أو الأقوال الواردة في الأدبيات التربوية أو الفلسفية الأوروبية، حتى وإن بدا أن هنالك في تراثنا العربي الإسلامي ما يغنيه عن ذلك. من ذلك مثلا استشهاده بقولة جول سيمون Jules Simon حول أهمية التربية الخلقية:«ليست وظيفة المدرسة مقصورة على التعليم فقط فإن بث الفضيلة والإقدام من أهمّ وظائف المدرسة.»(ص.124، طبعة 1967).

وكمثال على انفتاح ابن عاشور على الأفكار الأجنبية بخصوص تطوير التعليم نذكر تنويهه بقولة رئيس مجمع ترقية العلوم البريطاني سنة 1904: «يجب نزع الحوايل السياسية التي تقف في سبيل العلم. ذلك السبب الحقيقي الذي يضعف رجال العلم ولا يجعل لهم صوتا تسمعه الأمة أو تبالي به الحكومة» (ص. 119).

وفي معرض بحثه عن تأصيل سابقة حميدة لمعنى انتصار العلم على السياسة في سياق أجنبي عن العالم الإسلامي، يستشهد لنا مؤلف "الصبح القريب" بالواقعة التالية: »وقد حفظ التاريخ العصري أول مرة انتصر فيها العلم على الحكومة في فرنسا وذلك أن الحكومة طلبت من مجلس الأمة هدم صرح (إيفل) الشهير القائم في باريس لأن الذوق الجديد استقبح منظره ولأنه يشغل مكانا فسيحا قد كان ثمنه يفيد إدارة بلدية المدينة فائدة جمة فما كاد المجلس يصادق على ذلك حتى قام بعض أعضاء جمعية العلوم وطلب بلسان علم الفلك إبقاء الصرح الذي يفيد ارتفاعه الأرصاد الفلكية وبعد حروب لسانية انتصر العلم على السياسة سنة 1906. ليت لنا ألسنة في سالف الزمان تنادي بنصر العلم ولكن ما مضى فات» (ص. 120).

أما الحداد، فإنه بالرغم من غيرته الوطنية التي لا غبار عليها، لا يرى حرجا من التنويه بتقدم الغرب العلمي والحضاري ويدعو بني قومه إلى النسج على منواله في هذا المضمار، فينشد:

إذا مـا أردنـا أن ننـال الرغائبـا فليس لنا غير العلـوم مطالبـا
بها بدد الغـرب الضـلال وجيشـه وقاد بها نحو الحيـاة النجائبـا
بها ذلل الغـرب السمــاء لعزمـه وعمر أرجاء البحـار مراكبـا

ويقول في موضع آخر مقارنا بين التعليم الزيتوني التقليدي "البائس" والتعليم الفرنسي العصري: «نحب اللغة العربية حبا جعلنا نعتبرها جزءا من ديننا ونحب ديننا حبا يكاد يفضي بنا إلى الجنون بل قد أفضى، ولكننا حتى الآن لا يوجد عندنا لدراسة هذين الأصلين أو تعليم العلوم ولو بناية صغيرة إذا استثنينا الكلية الزيتونية البائسة والكتاتيب الخاوية والمدارس القرآنية التي هي اليوم مشروعات لعيش الأفراد القائمين بها أكثر مما هي لتثقيف الشعب وتعليمه. والتعليم المذموم في المدارس الابتدائية التي أنشأتها الحماية الفرنسية أتم منها برنامجا في تحصيل العلوم» (الأعمال الكاملة، م. 3، ص.296).

وبالوصول إلى الشيخ الخضر حسين نورد قولا له يشيد فيه بأهمية الانفتاح على علوم وصنائع الغرب الأوروبي، بالرغم من خوفه –كما عبّر عن ذلك في مواضع أخرى- من فساد عقيدة و أخلاق الشباب الإسلامي ممّن التحقوا بالمدارس الأوروبية، قبل رسوخ قدمهم في عقائد الإسلام وأخلاقياته: «يجوز محاكاتهم فيما يشتمل على مصلحة دنيوية، ولا يخالف حكما شرعيا أو أدبا دينيا، وهذا مما تأذن الشريعة في الأخذ به، ويتأكد العمل به على قدر ما فيه من مصلحة، وليس من المعقول أن تنهى الشريعة عما فيه خير لمجرد أن قوما من غير المسلمين سبقوا إليه. ويدخل في هذا مجاراتهم في العلوم والصنائع، ووسائل الدفاع، والمرافق التي نحقق بها جانبا عظيما من هناء هذه الحياة» (رسائل الإصلاح، ص. 207).

العمرانية الخلدونية والرؤية المقاصدية والانفتاح على الحداثة الأوروبية بما يتوافق مع روح الإسلام ومقاصده، هي إذن المرجعيات التأصيلية الثلاث للمشاريع الإصلاحية التربوية لابن عاشور والحداد والخضر حسين.

أهم نتائج الدراسة وتوصياتها
يتفق المصلحون الأربعة الذين مثلوا عينة الدراسة الراهنة على نقد التعليم التقليدي الذي يرتكز على مجرد الحفظ والتلقين، ويعامل الصبية بشدّة وقسوة، ويحاول كل من هؤلاء المصلحين الاقتراب من فكرة الفرد المتعلم وبناء أسس التعليم والبرمجة عليها. يظهر ذلك من خلال إجماعهم على:

التدرّج بالمتعلم من مرحلة "نشوئية" إلى أخرى، مراعاة لنمائية قدراته المعرفية المختلفة.
الترفق بالمتعلمين لإكسابهم الثقة بأنفسهم وتهيئتهم نفسيا لمرقى النقد والابتكار والمساهمة في إنتاج المعرفة.
إجراء عمليات تطويع للمعرفة المختصة حتى تصبح في متناول المتعلمين بحسب مراتبهم التعلمية (عملية النقل التعليمي).
الاعتناء بالكيف وبتنمية قدرات المتعلمين الذهنية عوضا عن التركيز على الكم وعلى إنهاك الذاكرة بالحفظ الركيك.
ضرورة إجراء إصلاحات في مستوى المكانة الابستمولوجية للمعارف التقليدية، كالاستغناء عن علم الكلام القديم (ابن خلدون والحداد) وجعل الفقه تحت نظر علم المقاصد (ابن عاشور والحداد).
إدخال العلوم الوضعية العقلية والآداب في مواد التعليم، كعلوم اللغة والحساب والعلوم الطبيعية والإنسانية.
رفع القيود عن الحريات الأكاديمية (النهي عن الظلم المؤذن بخراب العمران جراء كسر شوكة أهل القلم لصالح عمال السيف، لدى ابن خلدون، وحرية البحث والنشر العلمي لدى ابن عاشور والحداد).

هذا وقد زاد الشيخ ابن عاشور أمرين آخرين على غاية من الأهمية، هما:
القيام بإصلاحات في نظام التقييم والمناظرات، بحيث لا يقع الاكتفاء بتقييم القدرة على التكرار والاستظهار وإنما إضافة امتحان المتعلم في قدراته التواصلية والتأليفية.
الاهتمام بتكوين المدرسين ومدهم بقواعد صناعة التعليم الحديث.

 أما الحداد فقد انفرد بـ:
حسّه الاجتماعي عند فضحه لأحوال الطلبة المادية والصحية المزرية،
حسه المدني-المؤسسي الشامل، إذ يقول بضرورة " «فحص حالة المعهد من وجهة العلوم والكتب والتدريس والإدارة والنظارة»(مصدر سبق ذكره، ص. 125).

وأخيرا، تميّز الشيخ الخضر حسين بمحاولة رسم معالم طريقة بناء الشخصية الوطنية المعتزّة بدينها والمنفتحة على تجارب الأمم الأخرى في النهضة والتقدّم الحضاري والعلمي، في الآن نفسه.

والسؤال الذي يفرض نفسه الآن هو: ماذا بقي من مشروع هؤلاء الرواد؟ أو بالأحرى ما الذي تحقق منه؟

ما من شك أن هنالك عديد المكاسب قد تحققت، خاصة في تونس الاستقلال، من خلال الإصلاحات التربوية المتتالية: نوفمبر 1958 وجويلية 1991 وجويلية 2002، ولكن ومع ذلك بقيت بعض المهام التي تنتظر الإنجاز بكل جرأة، نذكر منها:

الإصلاح الابستمولوجي للعلوم الإسلامية على ضوء فتوحات العلوم الإنسانية المعاصرة، ضمن أفق ابستيمي جديد، ولكن بعيدا عن المعالجات الوضعية المتطرفة، وإنما بروح فنومنولوجية تفهُّميّة، تعيد بناء المعنى وتجترحه اجتراحا جديدا من الناحيتين العلمية والقيمية، ليقع من ثمة الشروع في إجراء عمليات نقل تعليمي أكثر انسجاما مع ملامح الفرد الذي ترمي المدرسة التونسية إلى تخريجه. حيث أن التحويرات التي تحصل إلى حد الآن في برامج جامعة الزيتونة لا تتم وفق رؤية معرفية جذرية، بقدر ما تمثل نوعا من التكييف السطحي مع متطلبات اليومي والعاجل. وهذه المهمة تتطلب عملا علميا عميقا ومراجعات شاملة تمتد على فترة لا تقل عن ثلاث سنوات تقوم بها لجنة مختلطة من المختصين المؤهلين للاضطلاع بهذه المهمة المعرفية الحضارية الخطيرة، في مجالات العلوم الإنسانية والحضارة والعلوم الإسلامية والفلسفة وعلوم التربية والديداكتيك والابستمولوجيا.

وليس من الضروري أن يتم الاقتصار على الباحثين والمختصين التونسيين فقط، إذ أن الزيتونة مؤسسة جامعية إسلامية تهم كل أبناء العالم الإسلامي. فكما يتم الالتجاء إلى خبراء أوروبيين وكنديين في مجال إصلاح التعليم العام، لا حرج البتة من استدعاء علماء وخبراء عرب ومسلمين مشهود لهم بالكفاءة من خلال منشوراتهم العلمية ومواقعهم الأكاديمية ومشاريعهم الإصلاحية. والصلات التاريخية بين الأزهر والزيتونة والقرويين خير دليل على مثل هذا التعاون والتكامل، حتى وإن كان من غير المرغوب فيه الآن استنساخ التجارب القديمة ذاتها [6].

وفي الحقيقة لا يخص هذا الإصلاح العلوم الإسلامية وحدها، بل حتى العلوم الإنسانية ذاتها، سواء في شكلها العلمي الخالص أو في شكلها المؤسسي التربوي (الجامعة). فقد آن الأوان للخروج من لحظة الانبهار بالآخر ونقد التراث إلى حدّ جلد الذّات، إلى طور البناء المتزن للشخصية العربية الإسلامية، من خلال تدريب الباحثين الشبان على المحاورة الهادئة مع الرصيد الحضاري الموروث عن الأجداد ومع ثقافات الأمم الأخرى في الآن نفسه. ولا يكون ذلك بمحاولات التوفيق المصطنع، وإنما باعتماد مقاربات ومنهجيات تنسيبية ومعقوليات تعددية، مثلما تسمح به بعض المقاربات الأنطروبولوجية والفنومنولوجية والاثنومتودولوجية.

توسيع هامش المبادرة في مجال البحث العلمي بضمان المزيد من استقلالية الجامعة عن الاعتبارات التي ليست من جنس العمل العلمي واعتماد سياسة تحفيزية تمنح الباحثين وطلبة المرحلة الثالثة والدكتورا الجادين فرصا متقاربة في إنجاز بحوثهم من دون عراقيل إدارية أو مادية محبطة.

ضبط خطط تكوينية للمدرسين تنتفع بأحدث المعارف المراكمة في مجال علوم التربية وتعلميّة المواد، خاصة في البلدان الأسكندنافية والأمريكية الشمالية، مع تطوير البحث العلمي في مجال العلوم التربوية في تونس ذاتها. وتكون البداية بإعادة بعث المرحلة الثالثة الجامعية في هذا المجال، والتفكير في الآن نفسه في بعث كلية أو معهد عال لعلوم التربية على غرار ما هو موجود في بقية البلدان العربية والغربية.

الربط بين منظومات كل من البحث العلمي والدراسة والتكوين في مجال علوم التربية، لتذليل الفارق بين التنظير والممارسة من جهة وبين البحث العلمي وحاجيات البلاد التربوية والتنموية من جهة ثانية. وكمثال على ذلك نقترح عقد شراكة بين كل من المركز الوطني للتجديد البيداغوجي والبحوث التربوية والمعهد الأعلى للتربية والتكوين المستمر ومركز تكوين المكونين في التربية.


[1جاء ابن خلدون بعد القابسي بثلاث قرون. فقد عاش القابسي بين سنتي 324هـ وهـ403.

[2يتحد مفهوم الفرد بمفهوم المتعلم في السياق التربوي. فالمتعلم مفهوما، لا لفظا، مفهوم حديث بخلاف التلميذ والصبيّ (في كتاب أبي الحسن القابسي مثلا حديث عن تعليم الصبيان).

[3دون نسيان المنافع العائدة من ذلك على المستعمر نفسه، كما نفهم من أقوال الطاهر الحدّاد مثلا. مع حماس أقلّ من طرف الشيخ الخضر حسين بحكم حماسه لمناهضة المستعمر والاستقلال عنه, ولكنه مع ذلك برهن على انفتاحه على النهضة الأوروبية كما سيأتي تفصيله.

[4في الرؤية الإصلاحية يتم الانطلاق من تشخيص حاجات المجتمع انطلاقا من معايير معاصرة، ثم يعاد إلى التراث لاستجلاب حلول منه، بما يتوفر عليه التراث من عناصر ومرجعيات اجتهادية كمبدإ رعاية المصلحة والقراءة المقاصدية للنصوص والتوفيق بين الحكمة والشريعة...الخ. أما في الرؤية التحديثية فتكون مرجعية التغيير الفكر الحديث ولو على حساب القطع الكامل مع القديم. و الإصلاحية الإسلامية هي عموما إصلاحية توفيقية بين القديم والحديث.

[5التشديد من الباحث، لنبرز إدراج ابن خلدون لظاهرة التعلم في صنف المقاصد الشرعية الحاجية أو الكمالية، وأنها من طبائع العمران البشري، ولا فرق جوهري بين الشريعة والطبيعة الثانية (طبائع العمران)، لأن الشريعة في الأصل وضعية، أي وضعت من أجل ضمان مصالح الناس، وهكذا يجب أن تفهم، وإلا وقعنا في جمود الفكر وتخلف الممارسة.

[6يمثل الشيوخ الخضر حسين ومحمد عبده ورشيد رضا والطاهر بن عاشور والفاضل بن عاشور وعلال الفاسي خير أمثلة على الحوار والتعاون العلمي المابين-إسلامي.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى