الأحد ٦ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٠٩
قرأت لكم
بقلم عبد القادر محمد الأحمر

المنطقة الصامتة

يقول د. كينيث ولكر في كتابه (فسيولوجيا الإنسان) ما يلي:– (.. أما عن هذا الدماغ فلعل الظاهرة الرئيسية التي تميز الإنسان عن الحيوان توجد فيه، ونعني بها حجم هذين النصفين الكرويين، فهما حين تكونهما يظهران كبرعمين ينموان من المخ الأمامي، وبما أنهما لا يجدان حيِّزاً كافيا في الاتجاه الأمامي، فإنهما يتجهان خلفاً كلما ازداد نموهما، وفي النهاية يكبر حجمهما إلى حد أنهما يغلفان كل بقية المخ، ويتسلم النصفان الكرويان جميع الإشارات الحسية، ومنهما ترسل الإشارات العصبية الخاصة بالحركات الإرادية، والنصفان الكرويان هما أيضاً القاعدة الطبيعية لكل نشاط نفساني، وإذا بحثنا عن مركز الذكاء في المخ نجده في تلك (المادة السمراء) التي تغطي النصفين الكرويين، ولكي يتوافر الذكاء كان من الضروري أن تكبر مساحة المادة السمراء، ولقد وجد المخ طريقه للإكثار من هذه المادة السمراء، وذلك بارتمائها في ثنيات وتلافيف عديدة حتى أصبحت أشبه بجوزة مقشورة،

فنحن نعقل ونفكر بواسطة الخلايا العصبية الموجودة في هذه المادة السمراء، وكثرة هذه التلافيف من شأنها أن تزيد في مساحة سطح المادة السمراء، وهي التي تميز ما بين مخ إنسان متحضر وبين مخ إنسان بدائي، وقد دلّ الفحص المجهري للمادة التي تغطي النصفين الكرويين على أنها تتركب من ملايين الخلايا العصبية، وإذا صبغنا هذه الخلايا لاتضح لنا أن جسم كل خلية يزدحم بعدد عديد من حُبيبات تسمى حُبيبات (نسل) ولهذه الحبيبات علاقة بنشاط المخ، فبعد فترة من العمل الذهني نجد أن هذه الحبيبات قد تناقصت في العدد، وفي الاجتهاد الذهني تختفي هذه الحبيبات بالمرة، وقد تقدمت دراسة الجهاز العصبي إلى درجة كبيرة وكانت إحدى مظاهر هذا التقدم الذي أثار الإعجاب أن أمكن تخطيط قشرة النصفين الكرويين، ولقد تمّ عمل هذه الخريطة بنجاح تام إلى حد أننا نستطيع الآن أن نحدد مكان كل وظيفة من الوظائف على سطح النصفين الكرويين، فنحن نعلم الآن أين يتسلم النصفان الكرويان الاحساسات الخاصة، وأي الأجزاء في المخ مسئول عن حركات العضلات الإرادية، فقد حددنا مكان مراكز الإبصار والسمع والذوق والشم، ومراكز النشاط هذه لا تتفق مع هذه التي يصفها علماء القوى العقلية.

هذا وقد ظل العلماء لفترة طويلة لا يعرفون الوظيفة الحقيقية للجزء الأمامي من النصفين الكرويين، ونظراً لأن إتلاف هذه المنطقة لا يسبب أي عجز فقد سمّاها العلماء بـ(المنطقة الصامتة) بيد أن حالة مرضية وردت لإحدى المستشفيات خلال القرن الماضي ألقت بعض الضوء على هذه المنطقة، فقد دخل عامل في مستوصف بعد أن تلف الجزء الأكبر من الجزء الأمامي للمخ نتيجة اندفاع قضيب من الحديد في حجاج العين، وقد شُفِّي العامل دون أن يصاب بالعمى أو أي عجز بدني آخر، ولكن سلوكه الكلي قد تغير فبعد أن كان مجّداً أميناً أصبح كذاباً غشاشاً، مسرفاً متلافاً، ثم توالت الملاحظات على حالات أخرى وأيدت الشعور بأن الجزء الأمامي من النصفين الكرويين- وهو ما سُمّي بـ(لمنطقة الصامتة)- هو (المنطقة الطبيعية) لتلك (الصفات) التي تميز الإنسان عن الحيوان، وليس معنى هذا أن الحيوان كذّاب أو غشاش وإنما يعني أن الحيوان لا يمتلك تلك (الملكات) السامية التي يختص بها الإنسان..

مراكز الكلام والكتاب:

ويمكننا الآن أن نورد هنا مثلاً لهذه الدقة التي خطط بها العلماء الآن المراكز العصبية في المخ وهو اكتشاف مراكز الكلام، فقد وُجِدت منطقة صغيرة جداً على الجانب (الأيسر) فقط للمخ تتعلق بـ(الكلام) ومنطقة أخرى تسيطرعلى (الكتابة)، وقد وُجِد بعض المرضى بعد لطمة لا يستطيعون الكلام، ولكن يستطيعون- في الوقت نفسه- موالاة الكتابة، وفي الواقع توجد أربعة مراكز في قشرة النصفين الكرويين لها علاقة بالكلمات، وهي المركز السمعي، والمركز البصري، والمركز المختص بتلفظ الكلام ومخارج الحروف (وهو الذي يسيطر على حركات (اللسان) و (الشفتين والحنجرة)، ومركز الكتابة (الذي يسيطر على حركات اليد أثناء الكتابة..

وظائف:

..(وقد أمكن الحصول على معلومات عن وظائف النصفين الكرويين بواسطة استئصالهما، فإزالة النصفين الكرويين في ضفدعة لم يؤدي إلى فرقٍ يُذكر بالنسبة للضفدعة، فقد استمرت الضفدعة في المشي والقفز والعوم وكانت تتجنب العوائق التي تكون في طريقها، ولو أن إنساناً رأى هذه الضفدعة دون أن يعرف سلفاً أن نصفيها الكرويين قد استؤصلا لما لاحظ أنها ضفدعة غير عادية، أما في الحمامة فاستئصال النصفين الكرويين له تأثير أعمق أثراً، فبالرغم من أن الحمامة تستطيع الطيران ثم الهبوط إلا أنها لا تبذل مجهوداً لعمل شيء ما لم يحفزها حافز على هذا العمل، ويبدو انعدام القدرة على المبادءة أكثر وضوحاً في كلب فُصّل عنه نصفاه الكرويان، فعقب هذا الإستئصال يظل الكلب قادراً على الإجابة على المؤثرات، ولكنه يتحرك تحركاً آلياً ويفقد كل قدرة على المبادءة، وعلى ذلك فكل هذه التجارب تُظهر بوضوح أن كل الأفعال الإرادية تتوقف على النصفين الكرويين، وفضلاً عن هذا فبالرغم من أن الأفعال المنعكسة القديمة تبقى في الحيوانات التي نُزِع منها النصفان الكرويان إلا أنها لا تستطيع أن تتعلم أفعالاً منعكسة جديدة، ولا بد أن ندرك أن الأفعال المنعكسة قد تحدث في مستويات مختلفة من الجهاز العصبي المركزي ويقع المستوى الأسفل في النخاع الشوكي، ويقع المستوى الأعلى في النصفين الكرويين، فعندما نتعلم سلسلة جديدة من الحركات كتلك التي تستلزمها السباحة فنحن نستعين على ذلك بنصفينا الكرويين وخلال هذه المرحلة الابتدائية من التعليم لا بد أن نعطي الحركات قدراً وافياً من انتباهنا وتفكيرنا، فإذا لم نركز انتباهنا وتفكيرنا فإننا لن نتحرك حركات صحيحة فنبدأ في الترنح والغرق، وعندما نكون قد تعلمنا العوم تماماً فإن نفس حركات العوم تنعكس من النخاع الشوكي، وتكاد تصبح آلية بحيث نستطيع أن نفكر في حل مسألة رياضية في الوقت الذي نستمر فيه في السباحة..

التيـاران:

ولم نذكر حتى الآن شيئاً عن ملكاتنا العاطفية، فمن المحتمل أن القاعدة الطبيعية لهذه الملكات هي: (الأنوية السمراء) التي تقع عند قاعدة المخ، فمن هذه الأنوية تمر الليفات باتجاه (المنطقة الصامتة) في المخ الأمامي، والمعتقد أن النشاط العاطفي يجري خلال هذه الليفات ليصل إلى أفكارنا، ويتقابل في هذه المنطقة تياران من اليقظة: تيار من (المعرفة) وتيار من (العاطفة)، وامتزاج هذين التيارين من الأفكار والشعور ضروري للحياة النفسية إذ يتفاعل أحدهما مع الآخر، وقد دلت تجارب الإستئصال على أن زوال (التنبيهات) من القشرة يؤدي إلى إفراط في التعبير عن العواطف والإنفعالات، وعلى ذلك فيظهر أن (التفكير) يؤدي إلى الحد من نشاط وأفعال المراكز التي تتعلق بالعواطف والانفعالات، وكما هو الحال في جميع أعضاء الجسم فإن المخ عرضة للتعب والإجهاد، وهذا التعب يصحبه تغيرات محددة في خلايا قشرة النصفين الكرويين، فلا يقتصر الأمر على اختفاء حُبيبات (نسلْ) فحسب، بل يُلاحظ أيضاً انكماش في حجم النواة، ثم ظهور فراغات صغيرة في سبتوبلازم الخلايا العصبية..

الكحول:

.. وفي هذه المناسبة فإنه من المهم أن نتحدث عن تأثير الكحول على المخ، فقد قيل غالباً أن الكحول تنشط الذهن وتبعث على نشاطه، ولكن التجارب الدقيقة أثبتت أنه قد يكون للخمر تأثير مختلف كبير على كفاءة النصفين الكرويين، فقد أُجريت عدة اختبارات مختلفة وضح منها أنه بالرغم من أن الذين تناولوا الكحول اعتقدوا أنهم قاموا بتأدية أعمالهم على النحو الأكمل إلاّ أن فحص هذا العمل أثبت أنه تعوزه الدقـة والاتقان..)0

بل – قيل-: أنه من الغريب حقاً أن تكون المساحة اليسرى من هذه الكرة المخية هي التي تحرك أعضاء نصف الجسم الأيمن، والمساحة اليمنى هي التي تحرك أعضاء الجسم الأيسر، وأن مراكز الإحساس موزعة على المساحتين بالتساوي..

وذكروا- أيضاً- بأن في المخ مائة ألف مليون خط عصبي قادمة إليه من مختلف أماكن الجسد والعصب البصري وحده فيه مليون خط عصبي قادمة إليه من العين، وكل هذه الخطوط تلتقي في الدماغ حيث يقوم المخ بتحليل رسائلها والرد عليها بأجوبة وأفعال فورية.. أما التفكير والخيال والتصور والذاكرة، وإدراك المستقبل والعواقب والشعور بالكيان والتدبر والعزم والتخطيط، فلها فص أمامي هائل (خلف الجبهة) خاص بها ولا مثيل له في الحيوان.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى