الاثنين ١٤ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٠٩
بقلم نعمان إسماعيل عبد القادر

همسةٌ في الأُذن

ثمةَ إحساسٌ غريبٌ خانقٌ تنحّى بها جانِبًا، كانتْ كلّما تذكّرتْ منظرهُ، نُبشتْ معهُ هواجس الماضي المدفونة في قبرِ الذكريات، وكلّما تراءتْ لها ابتسامتهُ، اضطربتْ نفسها وشعرتْ بالسخريةِ الكبيرةِ التي خبَّأَها لها القدرُ وألقى بها في بحرِ الآلامٍ فكاد أنْ يتلطّخَ وجهُها في ذلكَ الحينِ في ترابِ العارِ والجريمةِ التي لا تُغتفرُ عند بعضِ الناسِ. هذا هو الذي لا يمكنُ أن تُغتفرَ له ذنوبُه حتّى لو تابَ وآمنَ وعمل صالحًا وتابَ عنهُ أهلُ الأرضِ جميعًا. ببدلتِهِ الأنيقةِ السوداءِ، وقميصِهِ الأبيضِ، وربطةِ العنقِ المخطّطةِ الحمراءِ، وغليونِهِ الطويلِ، التقى فيها في ذلكَ المجمّعِ على حينِ غرّةٍ حينَ جلستْ في المطعمِ الْمُواجِهِ للمكان الذي يدخل منه الناس إلى بطنِ المجمع التجاريّ، مع ابنها لتُناولَهُ شيئًا يُطْفئ بهِ جوعَ بطنهِ. مظهرُهُ حقًّا يدلُّ على تبدّلِ حالهِ. كانَ فقيرًا قبلَ سفرهِ لا يجدُ ما يقي جسدهُ من بردِ الشتاء، وصار الآن أشبه بإمبراطورٍ كبيرٍ. ألقى عليها نظرة تحيةٍ من على بُعد أمتارٍ قليلةٍ وهو يحتسي القهوة مع أحد معارفه، كتلك النظرة التي كان يلقيها عليها كلّما التقيا ثم انقطعتْ فجأةً عنها قبل عشرِ سنواتٍ إلا أنّها لم تعر له أي اهتمام. حين ابتسّم لها توهّجَ وجهُها حنقًا وتسارعتْ نبضاتُ قلبها.. فيما انتابتْها دوافع عاطفيّةٌ كادت تخلق له منها ضجَّةً مع فضيحةٍ ليس لها مثيلٌ لولا تداركها الموقف وإدراكها أن الأمر قد ينعكس عليها سلبًا، لانتصبت قائمة متجرئةً تتقدم نحوه بخطوات سريعة فتصفعه على مرأى الناس جميعًا صفعةً قويةً لا يجرؤ بعدها للنظر إليها مرّةً أخرى ولتذكره بجريمته..

تذكرت نظرته الأخيرة..ما أشبهها بنظرة اليوم! كانت نظرة استهتارٍ وتحايل على الضمير.
هذا هو الرجل الذي أساء إليها.. ووعدها بإصلاح ما أفسده الدّهرُ،كما قال حينها، في النفس والروح والجسد، ولكنّه لم يف بوعده.. كانت دائمًا تحاسب نفسها وتقول إنه هو الذي لولاه لكانت تتربع اليوم على عرشِ قصرِ رجلٍ يضاهي قصر الإيليزيه، لكنّها رفضته في ذلك الوقتِ.. هذا الذي وثقتْ فيه وفرّ هاربًا إلى بلادٍ لا تعرف غير المال والخمر والنساء..

هذا شخص لم يكن يؤمن بالوطنيّة ولا بالدين ولا بالمجتمع. فكره الوجودي هو الذي حمله إلى حيث لا وجودَ للروحِ والضميرِ والعقيدةِ. وتذكّرتْ ما سمعتْهُ منْ جارتِها عنْ أنباءِ عودتِهِ بصحبةِ زوجتِهِ الأجنبيةِ منْ فرنسا قبلَ أسبوعينِ ونيّفٍ فأقيمتْ على شرفهِ في بيتِ سامرٍ الحلبيّ مأدبةُ غداءٍ، وأنه صارَ يملك ثروة كبيرةً وينوي بناء مشاريع كثيرة يهدف من ورائها خدمة المواطنين ويساهم في بناء المجتمع.. ثمّ همستْ في أُذنها قائلةً: يقولون إن مصدر هذه الأموال غير شرعيٍّ...

حملت أشياءها.. وعلى يسارِ ولدِها أَحكمتْ قبضتَها واندفعتْ نحو ذلك المخرجِ مسرعةً وهي تشعر أنها تحتاج إلى أن تتقيّأ لتتخلص من كلّ ما تناولته منذ الصباح.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى