السبت ٢٦ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٠٩
بقلم نوزاد جعدان جعدان

بين البحر والمحيط

حين تنأى المسافات وعندما يبخل عرق السنين في ريّ باقات القلوب الذابلة..أصبح للحزن عنواناً، وأنتَ أيها البعيد الهائم للضباب جعلتَ من قلبي مدينة للضباب فسرقتُ الاسم من لندن، أين ذهبتَ؟!..

لم تعدْ رسائلك، عشرون موتاً من العمر وأنا انتظر رسائلك ولم يحضر ردّك، هل قتل الصيادون الحمام الزاجل في الطريق أم تعطلتْ مصلحة البريد في أوربا أم ضاعتْ الرسائل في الضباب كما ضعتَ أنت.

تضيعُ الأزمنة في النوى، لا طعم للسماء ولا حرارة الشمس تدفئ القلوب، طريقي متعبة وغامضة أين كريستوف كولومبس ليستكشفها، لقد كبر ابنكَ يا يوسف أمسى شاباً في العشرين من العمر .

نعم ابنك سرفانتس يسألني أين أبي فأقول له :إنه يقبع وراء البحار كتلك النوارس البعيدة ..

تكتب الساعة التاسعة موتها في الرابع من شباط.. مساءٌ متعبٌ في [1]مليلة.. زوجتك المشتاقة عائشة..

انتهتْ عائشة من كتابة رسالتها إلى زوجها يوسف الذي هاجر إلى أوربا مذ عشرين عاما بعد ولادة ابنهما سرفانتس بأيامٍ، تكتبُ عائشة رسائلها ثم تضعها في الخزانة كونها لا تعرف عنوان زوجها، فقط تكتب وتضع الرسالة في الخزانة حتى تكوّن لديها كمية كبيرة من الرسائل فكأنّها تحرر رسائلاً إلى السماء .

فعائشة امرأة بلغت عمر الشمس في أوجها، طويلة القامة, سمراء البشرة، عيناها عميقتا الغور، تركها يوسف بُعيد سنة من زواجهما ليسافر بحثاً عن المال وليناطح طواحين دون كيشوت الهوائية، في ليلة كانت ْ فيها السماء حبلى غادر إلى أوربا على اتساعها دون أن يحدد الوجهة إيماناً منه في تجريب حظه ولم تصل رسائله مدة عامٍ كاملٍ إلى عائشة وابنها المسكين سرفانتس الذي أسماه يوسف حباً بالكاتب سرفانتس وتيمناً بأنه سيشرق ذات يوم، بعد قضاء عام على سفر يوسف.. طرد صاحب البيت عائشة وابنها من المنزل لعدم دفعها الأجرة وباع البيت إلى صاحب محل وجبات سريعة مما دفع عائشة إلى استئجار منزل في حي شعبي وبدأتُ تعمل بالخياطة لتكسب لقمة عيشها.

أما يوسف فبعد مرور عام بدأ بإرسال الرسائل لعائشة، فكان صاحب الوجبات السريعة يتلقاها ويلفّ بها الصندويش، كم سال اللعاب والطحين على رسائل يوسف المرهقة كما سالتْ الأحزان على القلوب!.

عجيبة ٌ شوارع (مليلة)، عجيبة الليلة، الشوارع خالية لا ترنو منها حتى القطط، ربما لم تعد القطط تجد ما يؤكل في أكياس القمامة، تعجب سرفاتس من شوارع (مليلة) تلك الليلة وهو عائد إلى المنزل يحمل كتبه بين يديه ومصيبةً في فؤاده لأمه المسكينة عائشة المشغولة بحياكة الصوف وكار الخياطة.

 مرحباً أمي..قال سرفانتس لأمه.

 أهلا بني، قد تأخرتَ يا سرفانتس وانشغل بالي عليك!.. أين كنت؟..

 كنت عند أحد أصدقائي أدرس هناك، أسرعي يا أمي وضعي لي ّ العشاء، أكاد أموت جوعاً.

 حسناً لم أطبخ اللليلة فظهري منذ يومين يؤلمني من الجلوس الطويل خلف ماكينة الخياطة ولكني سأضع لك علبة سردين مع ليمونة .
وضعت الأم العشاء وبدأ سرفانتس بالأكل وباغتها بسؤال وبنبرة تصيح إصراراً:

 أمي أريد السفر إلى البرتغال لأتمم دراستي هناك .

كان السؤال الصاعق يدق مضجع عائشة، فمن جروح الزمان لم يبقَ مكانٌ لهذا الجرح ولو سافر سرفانتس فمن سبيقى لها في الحياة ، هل سيضيع سرفانتس كما ضاع والده فأجابته وهي تنظر إليه كما ينظر المظلوم لجلاده :

 هل ستذهب وتتركني وتخطو خطوات والدك وتضيع كما المطر الضائع على النوافذ.

 لا يا أمي لست كذاك الخائن، أبي يا أمي مثل هذه الفليفلة في علبة السردين هذه التي رميتها ولا يأكلها أحد كما رميت والدي من قلبي منذ لعنتني الحياة مبشرة بالحزن .

 كيف ستدبر مصروفك وماذا ستعمل، ومن أين لك المال للسفر وتأشيرة الخروج ، ومن لنا هناك؟!..
 سأتدبر نفسي فقد غدوت رجلاً سأعمل هناك، سأصطاد السمك بكثرة فأنا صياد ماهر وسأدرس أيضاً لا تخافي عليّ، أما بشأن السفر فسنذهب بالسفينة عن طريق البحر وقد اتفقنا مع مهرّبٍ محترف.
 تتكلم كما تكلم والدك، كان يقول لي من لا يصعد الجبال لايسمع دوي صوته في الوديان، كان يردد ذاك المبدأ السخيف ونسي إنه متزوج، فمن سيفتح نافذة غرفتي إن غرقت يوماً في النوم يا بني، أخاف أنك مسافر للبحث عن أبيك.
 لا يا أمي، لا أخفيك أني أفكر بالذي يفعله والدي، ترى في أي بلد يقطن؟..هل يسمع خوليو إيجليزياس ويعزف الجيتار ويرقص التانغو وهل تزوج إسبانية ذات شعر مسترسل طويل ؟!..من يشبه أبي الآن أيشبه أنطونيو بانديراس ؟!.. ماذا يعمل أكان رحالة كابن بطوطة أم كان شاعرا كروخاس هيرارو أم تراه يناطح طواحين دون كيشوت أم أصبح سانشو بانزا وصدق أكاذيب أوربا حتى حولها ليقين.
انتهى سرفانتس من عشائه ولم تجبه عائشة عن أسئلته، بل كانت الدموع تغسل وجنتيها من تعب السنين ولتكون طابعاً لرسائل الحزن .

ثمّ اخرج سرفانتس سيجارة وبدأ ينفث فيها غضبه مما أزعج عائشة فصرخت .

 بني ما زلت غضاً وتدخن كالعجائز لقد شاخ قلبك وأنت شابٌ .

 أمي ألذ ما في الدنيا سيجارة بعد الطعام- إني أمازحك-ولكن انظري إلى الغرابة قد بدأت السيجارة بيد المتسولين الإسبان ثم صارت بيد النبلاء والآن رجعت دواءً للفقراء والضعفاء، نعم للضعفاء يا أمي فالضعيف لا يستطيع صرع أحد فيصرع السيجارة ويضعها تحت قدميه ، فلا تحزني عليّ أنها تجعلنا لا نشيخ ولا نهرم فنموت مبكراً .

 اصمتْ ودعك من هذا الكلام الفارغ ، أنت أملي الذي أحيا في سبيله وها أنت يا أملي تخونني كقوس قزح تسخر مني..

 سأذهب فقد اتخذت قراري لعليّ في أوربا أصدف أبي وأقول له :كم كنتَ غبياً!.. قالها سرفانتس وغادر الغرفة كما غادر الأمل عيني عائشة .

أما يوسف الضائع في ظلال أوربا الباحث عن ضآلته، كان يحضر رسالة إلى زوجته وولد ه و بدأ يسطر فيها من دواة الغربة :
زوجتي العزيزة ابني سرفانتس، إني في شوق لقياكم، السماء عميقة الليلة والأمل مختفٍ وأنا طائرة ورقية بدون خيط لحظة غادرت إفريقيا من رحم ضيق دفعني إلى الطرف الآخر، في الوحدة لا طعم للأكل ولا طعم السيجارة الوحيدة التي يتضور لها المدحنون تجدي، كم كان حساؤك شهيا يا عائشة !.

أخبري سرفانتس بأنه ليس وقتاً للحزن فالربيع قد حان ولندع ْ الحزن لأيام الشتاء فالزهر على الأغصان قد بان ، أحلم ُ يا عزيزتي بالجلوس تحت ظل شجرة ثم تأتيني بالطعام وأنا مرهق من عملي في الأرض ونأكل سوية دون نحدق في أخطاء بعضنا البعض والطعام ينسكب على لباسنا ونحن نضحك دون ارتباك، بعدها استلقي وآخذ غفوةً وابننا سرفانتس يلعب وكلما احلم يأتيني ضباب ضائع مثلي يصحيني ويقول لي :

أيها الضائع بين البحر والمحيط قم ْ يا صديقي، آه يا عزيزتي جفتْ الدموع من عيون شباط على الرغم من تلبد السماء بالغيوم فقد تاهت مراكبنا بين البحر والمحيط، انتظروا قدومي أنا قادم قريبا آمل أن تتعرفوا علي إن جئت لا كرسائلي التي أرسلها منذ زمن ولا تصل إليّ أية ردود .

جهز سرفانتس نفسه للسفر ووضب حقيبته وأمه عائشة تبكي وتندب حظها كعويل الأرامل، لم ينجح ذلك في تثبيط عزيمة سرفانتس بل قبّل يديها وودعها فأمسكت عائشة ذراعه وقالت له:

 انتظر يا بني إنْ رأيتَ والدك قل له أن خطاياه تعدت الخطيئة الأولى لمورافيا ولم يكن هجره دعابة من دعابات الطقس الحار، وقل له أني اشتقتُ له ما أنا بناكرة ..وقد جربتُ كل أنواع السحر واستحضار الجان ليعودَ وما من فائدة، ولا تريه صورتي كي يحتفظ بصورتي الجميلة في ذكراه وقدي المياس في محياه فالصور حرام يا بني ترينا تغيرات في أشكالنا نحن نهرب منها .

قبّل سرفانتس يد أمه واتجه إلى أحد السمسارة ليغادر بالسفينة إلى البرتغال عن طريق البحر كونه لا يملك تأشيرة سفر نظامية، ركبَ القاصدون البرتغال السفينة التي لا تتحمل أكثر من عشرين راكباً وكان عددهم يفوق الأربعين شخصاً .

شقت السفينة طريقها في عرض البحر والتيار قوي، يقطع المركب العباب، وسرفانتس وضعه كوضع المد والجزر متردد بين منزله وحلمه، يفكر تارة بحسناوات البرتغال وجمال لشبونة وبالبيوت القرميدية وتارة يفكر بأمه عائشة الحنونة التي أفنت شبابها بتربيته وحيناً يفكر بعمره الذي قضاه كزبد البحر دون فائدة تذكر، ولحظة غرقه بالتفكير سمع صوت ربان السفينة يصيح بأن الضباب كثيف والخطر جريء وما هي إلا لحظات حتى اصطدمت السفينة بمركب قادم من أوربا وانقلبت السفينتان وتحطمتا فسقط طاقم السفنتين في البحر وسرفانتس يتلاشى في الماء حتى شعر بيدٍ تمسكه وترفعه إلى الأعلى وهو يلهث ثم سأله الرجل :

 ألا تجيد السباحة يا ولد.

 لا ..لا ..لم يعلمني والدي السباحة .

 كم كان والدك غبياً لأنه لم يعلمك السباحة!.

 لم أرَ والدي حتى أحاسبه، فقد غرق والدي كما غرق المركب الآن، على كل شكرا لك يا سيدي! .

 ليس وقتا للشكر، الضباب كثيف الآن ونحن ضائعون بين البحر والمحيط لا نعرف أين وجهتنا وربما نموت هنا .

 يبدو أن ساعتنا الأخيرة قد حانت ومسح اسمنا المكتوب بالطباشور على لوح السماء فأخبرني يا سيدي عن اسمك وليكن وداعي للدنيا بوجه خير وخاتمة جميلة.

 اسمي يوسف وأنا قادم لأرى زوجتي وابني الذين لم أراهما منذ عشرين عاماً، كم اشتاق إلى أفراح وأحزان (مليلة)!.

كانت صاعقة لسرفانتس حتى لم يفكر بوضعه الخطر في البحر ونسي كل شيئ وأيقن أن هذا الرجل ليس إلا والده فإن أخبره عن اسمه فسيتحقق حلم والده برؤية ابنه ولكن فليحترق قلبه، ولم يفصح عن اسمه عقوبة له هكذا فكر سرفانتس حتى سأله يوسف مرة أخرى عن اسمه .

فكر سرفانتس وقال له: اسمي عمر اسمي عمر .

كان يقولها سرفانتس وهو يردد بينه وبين نفسه :

دعنا نشرب الملح يا أبي دعنا نشرب الملح فالملح يقوي الروابط يقويها .


[1مدينة في المغرب


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى