الثلاثاء ٢٢ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٠٩
بقلم تيسير الناشف

العقل الغربي لا يتفوق على العقل غير الغربي

النظريات المزعومة، التي تنسب إلى نفسها خطأ وتحيزا الموضوعية والنزاهة والمعرفة، في أن عقول بعض البشر أرقى من عقول غيرهم نظريات لا تقوم على أساس سليم. ثمة تعريفات كثيرة للعقل. ومن هذه التعريفات ما يلي: يشير العقل إلى جوانب الفكر والوعي التي تتجلى بوصفها مجموعة من الفكر والإدراك الحسي والذاكرة والعاطفة والإرادة والتخيل، بما في ذلك عمليات الدماغ الإدراكية الواعية وغير الواعية. ويُستعمل "العقل" في أغلب الأحيان للإشارة على نحو خاص إلى العمليات الفكرية.

ومن التعاريف الأخرى للعقل ما يلي: «الوعي البشري الذي ينشأ عن الدماغ ويتجلى على نحو خاص في الفكر والإدراك والعاطفة والإرادة والذاكرة والتخيل»؛ والعمليات الواعية وغير الواعية الجماعية في نظام ذي حسّ يوجه السلوك العقلي والجسدي ويؤثر فيه؛ وملكة التفكير وتطبيق المعرفة؛ والعمليات الفكرية التي تسم شخصا أو جماعة. [1]

تبين هذه التعاريف وغيرها أن للظروف السياسية والاجتماعية والنفسية والتاريخية والاقتصادية والمناخية المتفاعلة أثرا في تشكيل العقل.

ولأن الفكر البشري يتكون من المكونين الذاتي والموضوعي فإنه لا يمكنه أن يفسر تفسيرا دقيقا كل العوامل المكونة لنشاط العقل في المحيطين الاجتماعي والطبيعي. ونظرا إلى نقص الفكر البشري لا يمكن أن يكون تفسير واقع أي مجتمع من المجتمعات صحيحا مئة بالمئة.

ومن الأكيد أنه ينبغي ألا يشرع المرء، في محاولة فهم فكر وعقول البشر الآخرين، في تفسير واقعهم إذا كان ذلك المرء ينطلق في تلك المحاولة من اعتقاده بتفوقه العقلي وبتدني عقول الآخرين وذلك لأن اعتقاد ذلك المرء بذلك يجرده من الحق في القيام بتلك المحاولة ويجعله عاجزا عقليا وفكريا عن القيام بها.

ومن الخطأ الفكري الجسيم الاعتقاد بأن تجربة البشر في مجال التطوير العلمي والحضاري مدة بضعة آلاف من السنين تشكل مقياسا أو معيارا صحيحا يوصلنا إلى الاستنتاج بأن عقول بشر أكثر نضجا ورقيا من عقول آخرين، ناسين أو متناسين أن البشر كلهم متساوون، على الرغم من اختلاف تربيتهم ومسيرتهم الحضاريتين خلال بضعة آلاف من السنين، في تجربة التطور العقلي الذي استغرق مليارات من السنين.

ما هي منابع الحضارة اليونانية؟ هل يريد الكتاب المتحيزون أن ينفوا تأثر الفلسفة اليونانية بالفلسفة والحضارة المصريتين-الإفريقيتين اللتين نشأ بينهما وبين حضارة أرض الرافدين العظيمين والحضارة السريانية والآرامية والحضارة الهندوسية والحضارة الصينية تفاعل نشيط دام وقتا طويلا؟

وفي تحمّس الكتاب المتحيزين المغرضين هل يجوز لهم أن يغفلوا الأثر الكبير للحضارة العربية-الإسلامية المشرقة في الفلسفة والفكر الأوروبيين من القرن السابع حتى أواخر القرن الخامس عشر؟ إن الغلو في النزعة المركزية الأوروبية لا يبعث على الطمأنينة على توخي المغالين للموضوعية والنزعة العلمية في التأريخ وتحري الحقيقة وتواضع العلماء والنظرة الواقعية والنأي عن التعسف في إصدار الأحكام خدمة لخطتهم الاستراتيجية الغربية فيما يتعلق بالعالم غير الغربي.

مما يتمثل النهج العلمي الصحيح فيه هو الاستقامة أو الثبات في كيفية إصدار الحكم. ليس من السليم علميا أن تعزى إلى عقل شعب جميع وجوه التقصيرالتي يعاني ذلك الشعب منها، بينما لا تعزى إلى عقل شعب آخر أو عقول شعوب أخرى، أوروبية مثلا، وجوه التقصير التي تعاني تلك الشعوب منها. التناول الموضوعي لظاهرة من الظواهر – مثلا التخلف في بعض المجالات في العالم النامي – يتطلب دراسة تاريخية الحالة وتاريخية مختلف الظروف التي أوجدت تلك الحالة. مرت الشعوب النامية، ومنها الشعوب العربية، بظروف أوجدتها وأملتها عوامل سياسية واستراتيجية واقتصادية خلال مئات السنين الماضية التي شهدت نشوء واستفحال قوى أجنبية معينة، منها الصهيونية والاستعمار والتوسع الرأسمالي، وتحالف تلك القوى مع قوى محلية من قبيل الإقطاع ومصالح تولي ومواصلة تولي السلطة الحكومية والجهات المستفيدة من الحالة القائمة. وأسهمت تلك القوى إسهاما خطيرا في تشكيل البنية الطبقية وتحديد توزيع الثروات لتلك المجتمعات وفي تحديد رؤاها ومواقفها القِيَمية تجاه الشعب والمجتمع.

وليس من قبيل الإنصاف أو التحليل الرصين أو التناول العلمي الموضوعي أن يقول قائلون بالسببية وبالتأثير المتبادل وبالعملية الاجتماعية ثم يغفلون تأثير العوامل المذكورة أعلاه وغيرها في البنى الطبقية والثقافة الفكرية.

وعلى نفس المنوال نقول إن للتقدم التكنولوجي الغربي وللتفوق العسكري الغربي وللسيطرة السياسية الغربية على أقسام واسعة من الأرض تاريخيتها. فقبل عصر النهضة الأوروبية ما بين القرن الرابع عشر والسابع عشر شهدت بلدان من أوروبا مثل إيطاليا وفرنسا معركة قوية بين الكنيسة والقوى العلمانية انتصرت فيها تلك القوى وشهدت طرد المسلمين من إسبانيا (الأندلس) في 1492 الذي أعقبه تزايد النشاط العسكري والتوسعي والاستيطاني الأوروبي خارج القارة، وشهدت المنافسة التجارية والمنافسة على المستعمرات وثرواتها الطبيعية بين دول أوروبية خارج أوروبا، بينما كانت أراض عربية وإسلامية تحت حكم السلطنة العثمانية التي دامت حتى إلغاء السلطنة في العقد الثالث من القرن العشرين. تلك الظروف أوجدت بدورها الظروف التي حددت الثقافة الفكرية والبنية الطبقية لشعوب جنوب غربي آسيا وشمال أفريقيا.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى