الأحد ٣ كانون الثاني (يناير) ٢٠١٠
بقلم لطفي زغلول

الكفاءات العربية المهاجرة

حري بنا في مستهل حديثنا أن نثمن عاليا وغاليا كل إنجاز لعربي خارج إطار وطنه العربي. هذا الإنجاز الذي يولد في كل مواطن عربي مشاعر الاعتزاز والفخار القومية، والتي انطلقت من حقيقة ان العقلية العربية ليست قاصرة ان تصل إلى أعلى مراتب التطور العلمي والأبداع في ما لو أتيحت لها الظروف المتاحة لغيرها.

واذا كانت هناك من شائبة ما أثارت الشجون والاشجان في النفوس، فهي بلا شك أمنية كل عربي لو ان هذا الانجاز العلمي قد تحقق داخل الوطن العربي ونال التكريم العربي المفترض ان يستحقه.

والحديث لا يقف عند هذه الحدود من الشجون والأشجان. فالوطن العربي ما يزال يرزح تحت إفرازات الثقافة الإستهلاكية، ويشكل ما ينتجه نسبة متدنية للغاية إذا ما قيست بما تنتجه البلدان المتقدمة التي يفترض لو صدقت نوايا الأنظمة العربية أن تكون في مصاف هذه البلدان، لا أن تظل عالة علي ما تنتجه من سلع أساسية وكمالية.

ان هذا الكم الهائل من المنتجات الإستهلاكية يشكل فيما يشكل غزوا اقتصاديا، بإمكان الوطن العربي بما أفاض الله عليه من خيرات عميمة، وقدرات في إنسانه أن يستبدلها بأخري من نتاج ابنائه دون أدني شك.

وتأتي أولي الملاحظات وهي تخص التوجه الذي ابدته قبل سنوات جامعة الدول العربية بضرورة "اقتحام ملف الكفاءات العربية المهاجرة للاستفادة منها في تطوير الوطن العربي وهو علي أعتاب الألفية الثالثة". - وقد قدرت الجامعة هذه الكفاءات في آخر أحصاء لها بمليون عالم عربي في شتي اصناف العلوم.

انه توجه- وان كان متأخرا- الا انه في اعتقادنا، واذا ما تم تفعيله في اطار استراتيجية مدروسة بعناية ومعدة ومبرمجة لاستدعاء هذه الكفاءات واستثمارها في بيئتها الأصلية التي يفترض ان تعيش في كنفها، فما من شك انها سوف تسهم في احداث تغيير نوعي في الوطن العربي. وفي حقيقة الأمر ان هذا التوجه لا ينبغي له ان يكون فقط هو الأساس الذي تعقد عليه الآمال وتشد اليه الرحال.

اذ لا يخفي علي أحد أن هناك صعوبات عديدة لاسترداد هذه الكفاءات سواء كان ذلك علي صعيد عربي أو علي صعيد الاقطار المتواجدة فيها فعلا. ولعل أولاها عربيا علي سبيل المثال لا الحصر ان هذا التوجه علي ما يبدو كان لزوم الاحتفاء الارتجالي بالمناسبة، وانه لم يلق الصدي المرجو له، ومر علي وسائل الاعلام العربي مرور الكرام، شأنه شأن كثير من الشؤون العربية.

وبالرغم من كل ذلك فثمة التزامات كثيرة يفترض ان تسبق مثل هذا التوجه الذي ابدته الجامعة العربية يتصدرها التزام تفعيل سياسة عربية تهدف إلي الحد من استمرارية هجرة الكفاءات العربية إلي الخارج.

وهذا الكم السنوي من الخريجين الذين يؤثرون البقاء بعيدا عن أوطانهم الأمر الذي كانت محصلته افراغ المنطقة العربية منهم وحرمان الجماهير العربية من جني ثمرات ابداعات ابنائها الذين انفقت عليها "ما فوقها وما تحتها" من مدخراتها، وكانت النتيجة هدرا اقتصاديا لمقدرات الوطن، وضخا مجانيا غير مبرر يصب في غير مكانه ليزيد الآخرين قوة وغني ومناعة، واما الوطن فيظل علي حاله متسربلا عباءة الجمود والتقوقع.

وغني عن القول ان الكفاءات العربية المهاجرة قد حققت علي مدي عشرات السنين الماضية انجازات مدهشة لغير الأمة العربية التي هي بحاجة إلي كل واحدة منها، في حين ان الأمة العربية ما زالت تعاني تخلفا علميا وتقنيا.

ذلك لأن مناهجها وبرامجها وأساليبها التعليمية علي كل المستويات لم تستطع ان تحدث الثورة العلمية والانطلاقة المرجوة التي داعبت وما زالت مخيلات الكتاب والمفكرين والمثقفين القوميين المتعاطفين مع قضايا وطنهم وامتهم التي ما زالت غارقة في لجج ثقافات الاستهلاك والتلقي من الآخرين واعتماد عندياتهم مرجعية اولي واخيرة، وكونها ما زالت اسيرة عقدة الاجنبي في كثير من شؤونها الحياتية والفكرية والثقافية والابداعية.

وهنا لا بد لنا ان نشير ايضا إلي فشل التعليم في الوطن العربي في احداث التغييرات المفترض ان يحدثها في السلوكات والنفسيات، فظلت الثقة بالذات عرضة للاهتزاز والتزعزع وفي احيان كان ينظر اليها نظرة دونية وفي احيان اخري كانت مفقودة.

ونحن هنا نود ان نشير إلي ملاحظات قد تسهم في ما لو ان حلولا أوجدت لها- في تغيير الواقع العلمي والتعليمي التعلمي برمته، وتتصدرها حقيقة ان التعليم في غالبية اقطار الوطن العربي ما زال محكوما لمناهج واساليب تقليدية تعتمد التلقين وحشو المعلومات من ناحية، وتغليب الكم علي النوع من ناحية اخري.

وهذا ينطبق علي المؤسسات التعليمية بدءا بالمراحل الاساسية وانتهاء بالمراحل التعليمية العليا. وفي هذا الصدد نشير إلي ان سياسة الكم هذه لم تستطع حتي ان تحدث تغييرا ملموسا في عدد المتعلمين، وظلت الأمية احدي اخطر المشكلات وبخاصة في قطاع الأناث.

وثمة عوامل أخري علي جانب كبير من الأهمية تتعلق بما تخصصه الأنظمة العربية من ميزانيات للبحث العلمي وتطويره، أسوة بالبلدان المتقدمة. ان هذه الميزانيات متدنية إلي درجة مذهلة، في حين ان ما يصرف علي المكياج والتدخين والعطور ومستهلكات اخري يفوق حد الخيال.

وثمة ملاحظة اخري إلي جانب ما يصرف علي البحث العلمي في الوطن العربي الأمر الذي ظل معه شبه مشلول في هذا الصدد ومعتمدا علي غيره، وهذا بالتالي يعود إلي انعدام سياسة خاصة في البحث العلمي لها كوادرها ومؤسساتها وميزانياتها وآليات تفريغ ووسائل تكريم حقيقي للباحثين والمبدعين، وبالتالي قلة المؤسسات التي يمكن ان تتبني هذه الابداعات بهدف تطبيقها والاستفادة منها.

وثمة ملاحظة قد تكون هنا الأخيرة لكنها لن تكون آخر الملاحظات لضيق المجال وهي تخص مباشرة الكفاءات العربية التي لا تلقي في اوطانها ما تلقاه لدي الآخرين من وسائل حياتية مرفهة وحوافز وتكريم واهتمام واحلال في المكان المناسب الأمر الذي يجعلها تفكر علي الدوام في الهجرة- والألم يعتصر مشاعرها واحاسيسها- وترك اوطانها للعمل في بيئات تلبي متطلبات قدراتها وطموحاتها واستعداداتها، او انها لا تفكر في العودة عند استكمال الدراسة.

انه لا يعقل ان يكون لدي الأمة العربية هذا الرصيد الهائل من الكفاءات والخبرات العلمية المتطورة وهي ترزح تحت نير التخلف العلمي والتقني في كثير من قطاعات حياتها وتعيش عالة علي الآخرين الذين تشكل انجازات الكفاءات العربية المهاجرة مساحة مرموقة من حضارتهم الزاهرة.

والسؤال الذي يطرح نفسه: لو ان هذه الانجازات تحققت تحت ظلال الوطن العربي ولصالح المواطن العربي، فماذا يمكن ان تكون النتائج سوي رسم صورة اخري مشرقة للوطن يزهو من خلالها بسيادته واستقلاله وتحرره ورفعة شأنه.

واما المواطن فليس ما يمكن ان يجنيه اقل من قفزة نوعية تترجم إلي تجسيد ما يصبو اليه من حريات عامة وديمقراطية وتكريس لمنظومة حقوقه الانسانية، وقبل كل هذا وذاك إلي مستوي لائق من الحياة الكريمة والرفاه.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى