الأحد ٣ كانون الثاني (يناير) ٢٠١٠
بقلم محمد سعيد الريحاني

القراءة كرافعة للتنمية المستدامة

مقدمة: عن ضرورة البحث في القراءة:

أهمية البحث في جدوى القراءة تكمن في عدة أسباب يمكن إيجازها في خمسة:

 أولا، مسعي الانتقال من مجتمع شفهي إلي مجتمع قارئ. فالمجتمع العربي لا زال مجتمعا شفهيا غير قارئ ونسبة الأمية المرتفعة 67% دليل صارخ علي دلك. 

ثانيا، تعزيز مطلب الحق في المعلومة والمعرفة من خلال مساعدة الجماهير علي ولوج مصادر المعرفة دون وساطة من الوساطات ودون رهبانية معرفية.

ثالثا، إعادة التقارب بين الجماهير والمعرفة والثقافة، بعد حرمان دام قرونا من الزمن طغت عليه ظروف سياسية متباينة وحسابات سياسية متضاربة واختيارات سياسية متناقضة.

ورابعا، إرادة تنمية المعارف وتطوير القدرة علي التصحيح الذاتي لطرق التفكير والتعبير والتصرف بعيدا عن كل أشكال العنف العلائقي السائدة مادامت القراءة شكلا من أشكال الأنشطة الذاتية الهادفة إلي تكامل الشخصية وتهذيب النفس في أفق الانشغال بأنشطة سليمة. 

وخامسا، مطلب الإسهام في قيم مواطنة جديدة قوامها: الكرامة والحرية والعقلانية والتحليل والنقد من خلال مساعدة الإنسان علي الاستقلالية والتخلص من التبعية والقطيعية. فحرية الفكر من القدرة علي التحليل، والقدرة علي التحليل من عادة القراءة. فالحرية، حجر الزاوية في مجهودات البحث في القراءة، تبقي هي القدرة علي الإسهام في موضوعات مطروحة إما بالتعديل أو بالإضافة أو بالنقض.

وهذا يقتضي معرفة كاملة بالموضوعات أي تحليلا مستفيضا لها. وإدا كانت الحرية هدفا من أهداف القراءة، فإن أول مراحلها يبقي "التحرير": تحرير الإنسان من محدودية الفكر وضيق الأفق وضعف الخيال. فما دام الفرد هو نواة المجتمع، فإن بناء شخصيته هو في الآن ذاته بناء للمجتمع ولحضارة هدا المجتمع كما أن الاستثمار في هدا الفرد هو في الآن ذاته استثمار في المجتمع وفي حضارة هدا المجتمع
 
آفاق النهض بالقراءة مغربياً علي خطي النهضة الأوروبية:

إن كل مشروع نهضوي يتضمن بالضرورة تصورا معينا لما ينبغي النهوض به فبل أي محاولة إقلاع تحمل صفة "نهضوية". ف"التصور" هو ما يضمن الوعي لكل مسيرة نهضوية ويؤمن الالتزام بكافة مراحلها ويرسم الإطار والأدوات والأهداف والشركاء والحدود والآفاق...

ولأن القراءة هي أهم ركائز كل نهوض حضاري محتمل إد بواسطتها تستشرف الآفاق وتتحقق المشاريع وتصل إلي مخاطبيها، وبدونها ينشط الوسطاء والمفسرون والمُبَرّرونَ والشرّاح وأغنياء الأمية، فقد قام المغرب واليابان معا، عند نهاية القرن التاسع عشر، بإرسال أول بعثة طلابية إلي أوروبا للاستفادة من التقدم العلمي عبر المرور من مؤسساته الأكاديمية. وبينما ثابر اليابانيون وواصلوا سنويا إرسال البعثة تلو البعثة إلي أوروبا، حدث انقلاب في القرار المغربي اتجاه المَضي قدما في المشروع. فكانت النتيجة "يابان عصرية حداثية جديدة" مقابل "مغرب يبحث بعد قرن من فوات الفرصة سُبُلَ إعادة تجريبها".

فإذا كان الحضارات في تداولها عبر التاريخ تخضع لمنطق الدورة المتنقلة من شرق الكوكب الأضي إلي غربه ومن شماله إلي جنوبه، فإنها تخضع أيضا لمنطق ثان مواز هو منطق نقطة الارتكاز الحضارية. فالحضارة الفينيقية قامت علي أساس نقطة ارتكاز معروفة تاريخيا وهي التجارةوالتبادل التجاري، والحضارة العربية-الإسلامية قامت علي أساس الدين ونشر الرسالة المحمدية، والحضارة الأوروبية قامت علي أساس الكتب بصيغة المتعدد، والحضارة الأمريكية قامت علي أساس التقنية...

وإذا كان ثمة إغراء جذب مغرب القرن التاسع إلي أوروبا فلازال ذات الإغراء قائما إلي اليوم: إغراء سلوك طريق الحضارة الناهضة علي أساس الكتب بصيغة المتعدد. فقد مرت أوروبا خلال الخمسمائة سنة الماضية بست مراحل أساسية شكلت العمود الفقري لقوتها وعظمتها كما شكلته لليابان التي قررت المضي في نفس الطريق الدي تخلف عنه المغرب مبكرا. وهدهالمراحل الست هي: مرحلة الإحياء Revivalism التي اهتمت بجمع نفائس الكتب المتدفقة من بيزنطة، عاصمة الكتب في القرون الوسطي، ومن الأندلس المنهارة وعملت علي تحقيقها وترجمتها، ومرحلة اختراع الطباعة وإخراج نفائس الكتب إلي جمهور القراء بأثمان رخيصة وبلغات شعبية، ثم مرحلة الإصلاح التي عرفت أكبر عملية إصلاح لغوي وفكري و ديني في تاريخ أوروبا، ثم كانت مرحلة التنوير التي سميت مع عصرها بعصر الأنوار وقد اختصت بتثوير الفكر وتجديده، وبعدها كانت مرحلة التصنيع مرحلة صياغة دساتير الحكم والبرامج السياسية والخطط الاقتصادية مع الثورة الصناعية في منتصف القرن التاسع عشر، والآن مرحلة التقنية والرقمية وهو المفهوم الفكري الدي صادف صعود فلسفة "ما بعد الحداثة" أو "سلطة المؤسسية" في مقابل فلسفات "الحداثة" أو "سلطة العقل" التي وسمت القرون الخمسة الماضية الممتدة من فترة "الإحياء" الأوروبي في القرنين الرابع عشر والخامس عشر ميلاديين إلي العشرية الثانية من القرن العشرين.

وإذا كانت اليابان، قبل مائة سنة، قد اختطت لنفسها نفس الطريق عبر سلوك نفس المحطات الست من باب اختصار التاريخ وسلوك الطريق الأكثر أمانا والأكثر مردودية، فلسوء حظ عرب اليوم ومغرب الساعة أن يجدوا أنفسهم، بعد مرور عقود من الزمن، في وضعية صعبة تتطلب منهم شجاعتين: أولا شجاعة التصريح بقرار الإقلاع وثانيا شجاعة عدم الرجوع في قرار دخول التاريخ مهما كلف الأمر. إنه لمن باب احترام السابقين في التقدم والازدهار والنمو، وجوب الإصغاء لتجربتهم والاستفادة من أخطائهم واختصار الطريق للّحَاق بهم. فمن لا يستلهم التاريخ محكوم عليه بتكراره. ولدلك، نقترح الوقوف المحطات الكبري التي ساعدت الغرب علي النمو والرقي وعلو الشأن. 
 
المراحل الست لانطلاق النهضة المغربية:
 
ما بين خيار "اختصار التاريخ" وخيار "حرق المراحل"، يبدو أن العرب عموما والمغاربة خصوصا انتصروا للخيار الثاني، خيار "حرق المراحل". ولدلك، بشكل عجيب، ابتدؤوا من مؤخرة المسار النهضوي الذي سلكه جيرانهم الأوروبيين. فقد بدؤوا من المراحل الثلاث الأواخر وأجلوا العمل بالمراحل الثلاثة الأوائل.

فقد بدؤوا بمرحلة التنوير ومرحلة البرامج والمخططات ومرحلة المؤسسية والمؤسسات لكن العمل في هده المراحل المتقدمة لم يكتب له الوصول إلي الجماهير وعامة الشعب وظل محصورا بين الاوساط المثقفة. وهدا ما يتجلي في بقاء المبادرات الإحيائية من ترجمات وتحقيق وتوثيق وبيبليوغرافيا والنفس الطباعي من طبع ونشر وتوزيع والجرأة علي فتح ملف الإصلاح الشامل دائما في عداد ما دون عتبة الخروج إلي عالم الفعل والتفعيل.
لدلك، فالتفكير في تنمية حقيقية علي أسس صلبة يقتضي إعادة القطار المغربي إلي سكته الأصلية، سكة التنمية التي سلكتها أوروبا، سكة التنمية عبر الكتاب والقراءة وسكة التأريخ لأوروبا وعبرها للعالم من خلال التاريخ لمراحل تطور القراءة والكتاب (عصر الإحياء، عصر الطباعة، عصر الإصلاح، عصر التنوير، عصر البرامج...)
 
1/- مرحلة الإحياء:
 
الحضارة الغربية المعاصرة حضارة انبنت علي القراءة وعلي الكتب بصيغة الجمع وليس علي كتاب واحد أو إيديولوجيا واحدة. كما أن تطور تاريخ هده الحضارة رافقه علي الدوام تطور الكتاب سالكاً طريقا يمتد من الإحياء إلي الطباعة إلي الإصلاح إلي التنوير إلي البرامج...

ولعل أهم قيم الإحياء هي تشجيع القراءة وتعظيمُ قيمة الكتاب وإرساء دعائم المصالحة مع الذات والانفتاح علي ماضيها المشرق واستشراف مستقبلها. وقد انشغل الإحياء بتحقيق الكتب وترجمتها وأرشفتها وإنشاء المكتبات العامة وفتح المكتبات الخاصة في وجه العموم...

كان هدا هو جوهر فلسفة الإحياء الأوروبية، أولي الحلقات الست، وقد ركز بشكل خاص علي الجانب العقلي والفكري من الثقافة الغربية خاصة الفلسفة والنقد الأدبي والفني. بينما جوهر المحاولات الخجولة لنواة فلسفة الإحياء العربية الأولي كان في الحقيقة جوهرين يتجاذبهما تياران فكريان: تيار ديني يتقصد تشكيل مسار إسلامي خالص هو "العودة إلي السلف الصالح" الدي يجعل من فلسفة الإحياء فلسفة دينية بامتياز، وتيار ثان قومي يتقصد تشكيل مسار عربي عقلاني. ومع دخول هذين التيارين حلبة السياسة ضاع "الإحياء" في نسخته العربية ودخلت حسابات أخري ساهمت من بعيد او قريب في "قتل" الإحياء العربي في مرحلته الجنينية.

وإذا كان لا بد لأي إقلاع حضاري أن "يشرك الجماهير" في نهوضه الحضاري فإن حلقة "الإحياء" تبقي بوابة رئيسية لا يمكن القفز عنها للمرور نحو الحلقات الخمس الأخري تحت أي مسمي. وإذا كان الغرب قد مر من فترة الإحياء في نسختها "الورقية" التقليدية قبل خمسمائة سنة مضت، فإن العرب اليوم يجدون أنفسهم مُلْزَمين بالمرور عبر نسختين من الإحياء: الإحياء الورقي والإحياء الإلكتروني معاً وفي آن واحد.

فعلي الواجهة الورقية، نقترح إدخال المكتبة إلي كل المرافق العمومية من مستشفيات وسجون ومدارس ومساجد وفنادق وغيرها، تخفيض سعر الكتاب عبر إصدار نسخ رخيصة للعموم ونسخ راقية للباقين، تشجيع ثقافة الجوائز في المسابقات المدرسية وحفلات توزيع النتائج في المؤسسات التعليمية، إقامة معارض الكتب في المؤسسات التعليمية ودور الشباب، دعم تجربة أسواق الكتاب المستعمل، دعم تجربة تبادل الكتب وكراء الكتب والمقايضة بالكتب، ترجمة الروايات الناجحة سينمائيا، طبع البحوث الجامعية المتميزة ونشرها بأسعار مدعومة، إنشاء دور نشر خاصة بتتبع جودة البحوث الجامعية لإخراجها للعموم، دعم تحويل الروايات المكتوبة إلي أفلام سينمائية وتحويل الدواوين الشعرية إلي أغان، دعم ثقافة تقديم الإصدارات الجديدة علي شاشات التلفزة، قناة خاصة بالإلقاء الشعري والرواية الشفهية والنقاش الثقافي والاحتفال بالإصدارات ومتابعتها إعلاميا ونقديا...
 
وعلي الواجهة الإلكترونية، نقترح إقامة مكتبة وطنية رقمية علي غرار مكتبة الإسكندرية توفر كل المخطوطات والكتب التي ألفها مغاربة بكل اللغات في صيغتها الرقمية بحيث تكون في متناول في كل القراء والباحثين، وفرض إنشاء موقع علي الإنترنت لكل مؤسسة تعليمية بحيث يكون الجانب الخاص بالمكتبة الافتراضية مفتوحا في وجه كل من توفر لديه كتاب الكتروني وأحب إيداعه علي رفوفه الإلكترونية حتي يتسني لعموم المبحرين من الطلبة وغيرهم التحميل المجاني للقراءة والاستفادة، دعم تجربة بيع الكتاب الإلكتروني بأسعار مقبولة كحل امام صعوبة الحصول علي كتب ورقية من أقطار أخري... 
 
2/- مرحلة الطباعة:
كان اختراع غوتنبرغ لآلة الطباعة الحديثة محطة بارزة في سياق تطور التاريخ برمته. فقد سرعت آلة الطباعة حركة النسخ وأصبحت تساير الطلب المتزايد علي الكتاب. لكن حسن استثمار دور الطباعة كان له كبير الأثر علي الوصول إلي أكبر عدد من القراء وإيصال الرسالة المراد تثبيتها وأفضل من جسد هدا الدور هو مارتن لوثر كينغ الدي كان يملك ما يقارب العشرين مطبعة موزعة علي أوروبا بأكملها وهدا ما يفسر فعالية ثورته وانتشار رسالته بسرعة كبيرة.

حسن استثمار المطابع هدا بدأ قبل خمسمئة سنة أما اليوم في الولايات المتحدة الامريكية فثمة تجربة مثيرة للاهتمام. فالكاتب او الناشر عند إقدامه علي تسويق منتوجه في أرجاء القارة الامريكية الشمالية، يكفيه التعامل مع وكيل يتكفل بإداعة خبر صدور العمل كل نصف ساعة وعلي مدار اليوم علي ازيد من مائة محطة إداعية. وبهده الطريقة يصل الخبر للأطفال والمسنين ولربات البيوت والبحارة في أعالي المحيطات في كل اوقات اليوم ولمدة يتم الاتفاق عليها بين الناشر ووكيل التسويق..

إزاء التجربتين السابقتين، يمكن اقتراح تجربة صالحة للتربة العربية في مرحلتها الثانية، مرحلة طباعة الكتب ونشرها. ففي الوقت الدي تحتكر فيه دور النشر حقوق الطبع والنشر داخل الوطن ولا تطبع غير ألف نسخة ولا تبيع اكثر من نصفها علي مدي سنوات، يمكن اقتراح باب ثان أكثر رحابة وفعالية ومقروئية: باب التبادل مع دور النشر العربية الأخري.

فبدل طباعة ألف نسخة لقراء من بلد واحد، يمكن الانتقال إلي طبع اثنين وعشرين ألف نسخة لتبادلها مع اثنين وعشرين دار نشر من اثنين وعشرين دولة عربية. وبهده الطريقة تربح دار النشر اثنين وعشرين مرة أكثر وتساهم في خروج الكتاب الوطني إلي الأسواق العربية كما تساهم في تحريك رواج المنتوج الثقافي علي مدي واسع من الخريطة العربية...

كما يمكن لدور النشر الورقية دخول تجربة الانفتاح علي القراء الآخرين. فالكتاب ليس بالصرورة كتابا ورقيا والقارئ ليس بالضرورة قارئا تقليديا. فثمة مساحات اخري للقراءة لازالت عدراء بفعل إحجام الناشرين عن اقتحامها. ومن هده المساحات: "الكتاب المسموع" الدي يسميه الفرنسيون ب"القراءة في الظلام" وهو عبارة عن قرص سمعي يصدر بموازاة مع الكتاب الورقي ويتضمن تسجيلات صوتية وإلقاءات شعرية وقصص وروايات مسموعة وهي موجهة للاميين ولربات البيوت. أما النوع الثالث من الكتب فهو "الكتاب الملموس" الخاص بالمكفوفين. وأما النوع الرابع والأخير من الكتب فيبقي "الكتاب الإلكتروني".

فبالتحام الناشرين لهده المجالات العذراء، يساهمون في "تنمية" مفهوم القراءة ذاته وفي "تنمية" الرأسمال القرائي...
 
3/- مرحلة الإصلاح:

بعد مرحلة الطباعة أواخر القرن الخامس عشر، كان موعد أوروبا الكبير مع الإصلاح بكافة أنواعه: الإصلاح الديني الدي زعزع هيبة المؤسسة الكاتوليكية وهيمنتها ثم الإصلاح اللغوي والدي انبثقت عنه لغات شعبية جديدة كالإسبانية والفرنسية والبرتغالية وغيرها التي لم يكن مسموحا لها بالحضور في المناسبات الراقية والتعبدية التي ظلت حكرا علي اللغة اللاتينية القديمة وبالخصوص الإصلاح الفكري الذي جعل القراءة حجر الأساس في العبادة وفي الحياة.

وعليه، نجد علي الواجهة العربية عموما نداءات تتصاعد من هنا وهناك بالتعجيل ب "الإصلاح الديني قبل الإصلاح السياسي" كنداءات محمد شحرور الدي يصرح بأننا " لسنا بحاجة إلي إصلاح سياسي، ولا إلي مؤسسات مجتمع مدني، فمجالس الشعب ودور الإفتاء والنقابات والاتحادات والمنتديات والصحف موجودة. نحن بحاجة، أولا، إلي إصلاح فكري وديني وثقافي، وإلي خلق الإبداع الفقهي المتجدد، لتفعيل ما عندنا من مؤسسات موجودة".

فبعد مراحل جمع الكتب وتحقيقها وطبعها ونشرها، المرحلة الثالثة علي درب الإقلاع الحضاري تبقي هي مرحلة "الإصلاح الديني" من أجل تحديد المصير الحقيقي. فالإصلاح الديني ضروري قبل كل إصلاح سياسي. ومن هنا أهمية تجديد الخطاب العام وملاءمته مع ثقافة العصر: ثقافة العدل والمساواة والتنمية والحرية والديموقراطية واحترام الآخر....

إن معيار نهضتنا المقبلة يجب أن يكون مبنيا علي "حاجتنا للتطور ومقاومة الجمود" وهو نفس معيار فلاسفة الإحياء الأوروبيين قبل خمسمائة سنة خلت: تجديد الفكر، تجديد اللغة، تجديد المجتمع والرقي به لقيم عليا جديدة
وبعد هده المراحل الثلاث المحروقة، يمكن الانتقال إلي المراحل الثلاث المتبقية: مراحل التنوير والبرامج والمأسسة...
 
4/- مرحلة التنوير:

مرحلة التنوير في الثقافة العربية الحديثة لم تنقطع مند القرن التاسع عشر ولكن مشكلتها تكمن في كونها ظلت حبيسة النخبة ومجالس النخبة ومنتديات النخبة ولا تربطها خيوط بالجماهير لأنها لم تبن في يوم من الأيام علاقة بهده الجماهير التي لا زالت تري في القراءة نوعا من "المطالعة" ولا زالت تري في الكتاب شكلا من "أشكال الترف"... إن القفز علي المراحل الثلاثة لبناء الثقة والتواصل مع الجماهير (مرحلةالإحياء والطباعة والإصلاح) هدم كل المشاريع التنويرية التي ظلت حبيسة منتديات النخب ولم تصل إلي قلوب الجماهير ولا حتي إلي آذانهم.
 
5/- مرحلة البرامج والمخططات:

بعد حلقة الإحياء الدي يتفرغ لأمر تشجيع القراءة، وبعد حلقة الطباعة التي تتكفل بتوفير المادة القرائية علي الورق، وبعد حلقة الإصلاحالدي يتكفل بتكييف الدهنيات مع متطلبات العصر، وبعد حلقة التنوير التي تضع علي عاتقها مهمة تثوير الفكر... تاتي مرحلة التدبير العقلاني للرساميل المادية والرمزية: مرحلة البرامج والمخططات. ومن بين المخططات الممكن اقتراحها سعيا للنهوض بالقراءة وإشراكها في العملية التنموية الشاملة، يمكن تسطير بعض المقترحات:

أولا، التفكير في اقتصاد ثقافي، اقتصاد قائم علي حركة الكتاب وعلي إنتاج الكلمة وعلي رواج المنتوج الثقافي وعلي القراءة كفعل محرك للاقتصاد الثقافي برمته. وهدا يتطلب العمل علي رفع عدد سحب الكتب في المطابع من خلال إشراك الوزارات الوصية والجمعيات والمنظمات المعنية بأمر القراءة والكتابة والجماعات المحلية في المساهمة في التمويل والترويج والتوزيع وتسهيل خيار تبادل الكتب بين دور النشر والتوزيع العربية...

ثانيا، التفكير في الانتقال إلي طور السياحة الثقافية من خلال تقسيم الخريطة الجغرافية إلي مناطق ثقافية (منطقة البحث التاريخي، منطقة النقد الفني) وعواصم إبداعية (شفشاون عاصمة الشعر، الصويرة عاصمة المسرح، فاس عاصمة الرواية)...

ثالثا، توأمة المهرجانات الثقافية مع المهرجانات الفنية الأخري (الموسيقية منها والسينمائية والتشكيلية) لرفع العزلة عن المقروء الذي يبقي في المتمثل العامي رمزا نقيضا للفرح والمتعة...

رابعا، إقامة مسابقات في القراءة السريعة، في القراءة والتدبر، في قراءة أكبر عدد ممكن من الكتب، في غرائب القراءات...

خامسا، الحملات الثقافية الهادفة من جهة إلي التعريف بالذات من خلال ترجمة الأعمال المغربية إلي لغات أخري ومن جهة أخريتقديم الآخر للقراء من أبناء البلد من خلال ترجمة أعمال الأجانب إلي اللغة الأم.

سادسا، الاهتمام بالدور الهام للإعلام الثقافي المرئي والمسموع والمكتوب الدي يمكنه ان يجعل من المادة الثقافية جزءً من طعام الإفطار ووصلة من وصلات استقبال أو توديع للأحبة...
 
6/- مرحلة المأسسة:

وهي آخر المراحل وخاتمتها وتهدف إلي الدفاع عن مكسب القراءة وتنزيهه عن كل التقلبات المزاجية والشخصية بحيث يصبح هدا المكسب "مؤسسة" قائمة الدات ومعترفا بها لها حقوق وعليها واجبات.
 
خاتمة:

إن الثورات الإنسانية الكبري لم تقم في يوم من الأيام علي الجوع فحسب بل قامت أيضا تحت تأثير القراءة التي أطرت الحركات الاحتجاجية وأمدت جحافل القراء بطاقة لا يمكن التكهن بمصدرها. وهدا ما حصل مع المسلمين الاوائل في ثورتهم الأولي علي الظلم وعلي الوثنية، وهو أيضا ما حدث مع الثورة الفرنسية المشبع أهلها بأفكار فلاسفة التنوير وهو داته ما حدث مع الثورة البولشفية...

إن القراءة تغييرية بالطبيعة: إما تغييرا تنمويا سلميا إدا انتفي الصراع الاجتماعي أو تغييرا ثوريا عنيفا إدا حضر الصراع والعنف الاجتماعيين. أما ألا تكون هناك قراءة أو أن يتدني المستوي القرائي لشعب من الشعوب فالأمر، آنداك، لا يعدو كونه قرار تسلطي يخفي وراءه خوفا سياسيا دفينا من مغبة خروج الأمور من اليد وانفلاتها انفلاتا لا ينفع معه لجام. فتدني نسبة القراءة لشعب بكامله وبشكل ثابت أو انحداري لا يَدُلّ علي مستوي انحطاط دلك المجتمع فحسب بل تشير أيضا وبالأصبع الطويل إلي خصوصية الأنظمة الاستبدادية في كل مكان من هدا العالم وفي أي زمان.
 
مداخلة الباحث والقاص والمترجم المغربي محمد سعيد الريحاني في المائدة الأولي علي هامش أشغال "المهرجان الوطني للقراءة" الذي نظمته بالعاصمة المغربية الرباط سلسلة "المعرفة للجميع" الشهرية بتعاون مع اليونسكو والإيسسكو ووزارة الثقافة يوم السبت 26 دجنبر 2009
 

مداخلة الباحث والقاص والمترجم المغربي محمد سعيد الريحاني في المائدة الأولى على هامش أشغال المهرجان الوطني للقراءة الذي نظمته بالعاصمة المغربية الرباط سلسلة «المعرفة للجميع» الشهرية بتعاون مع اليونسكو والإيسسكو ووزارة الثقافة يوم السبت 26 كانون أول 2009


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى