الاثنين ٤ كانون الثاني (يناير) ٢٠١٠
قرأت لكم
بقلم عبد القادر محمد الأحمر

المعرفة والعلم

المعرفة– كما يقول الفلاسفة: (عبارة عن إدراكات عقلية كلية تتكون في مجموعها من المعرفة الصحيحة بكنه النواميس وماهيات الأنواع، يستخلصها هذا العقل من الجزئيات لا الحواس، فطالما أن هذا العقل أمر مشترك لزم أن تكون الحقيقة عند شخص معين هي نفسها الحقيقة عند شخص آخر، وأن هذه المفاهيم الكلية ذات وجود فطري في العقل أصلاً، وبهذه المفاهيم يهتدي العقل لاستخراج الحقائق من الظواهر الطبيعية، وهي الفكرة الجامعة للخصائص المشتركة بين أفراد النوع الواحد من الموجودات، كـ(النباتية)، و(الحيوانية)، و(الإنسانية)، ونحن نضيف: و(الملائكية)ـ وكل هذه الإدراكات الكلية التي يصل إليها العقل هي (أسماء) لها مسميات في الواقع تطابقها تمام المطابقة وإلا كانت وهماً باطلاً من صنع الخيال، وما دامت هذه الإدراكات العقلية هي وحدها العلم الصحيح، إذن فكل ما نحصله بواسطة هذه الحواس هو أمر باطل، أو شبه باطل، فنحن ندرك عدداً عظيماً من الجياد بواسطة الحواس، ولكن العقل يقدم لنا صورة واحدة للحصان هي الإدراك الكلي للنوع بصفة عامة، فإذا كانت هذه الصورة الواحدة التي يُكوِّنها العقل هي وحدها الحق، كانت كل الجياد التي رأيناها في الحياة العملية ظلاً للحقيقة لا الحقيقة نفسها، وليس الأمر قاصراً علي الأشياء المجسدة، بل يتناول كل ضروب المعرفة، خذ الجمال مثلاً: فإن سألتك عن الجمال، ما هو؟! فقد تشير إلي وردة قائلاً: إنّ في هذه لجمالاً، كما تقول ذلك في حسناء، وكما تقول في الليلة المقمرة، هذا فضلاً عن أن التشابه بين الأشياء لا يُعلم إلا بالمقارنة، والمقارنة لا تكون بالحواس، إذن لا بد أن يكون في ذهنك فكرة عن الجمال تقيس بها الأشياء الخارجية فتعلم مقدار ما لها من الجمال، وبهذه الفكرة استطعت أن تري وجه الشبه بين الوردة والمرأة والليلة المقمرة، لأن كلاً منها فيه شبه بالصورة التي لديك.. وهذه الفكرة عن الجمال هي فكرة عن شيء واحد، فإمّا أن يكون لها وجود في الخارج تطابقه أو لا يكون، فإن لم يكن فهي إذن من انتحال الخيال وتلفيق الذهن وبناء علي ذلك تكون أحكامك كلها عن جمال الأشياء مقيسة بمقياس شخصي محض، ونكون قد عدنا إلي الوراء حيث فلسفة السوفسطائييين: بأن الإنسان هو مقياس كل شيء، فما يراه جميلاً فهو جميل، وما يراه قبيحاً فهو قبيح، فلم يبق إلا أن نسلم أن فكرة الجمال الموجودة في العقل إنما تطابق شيئاً واحداً في الخارج تمام المطابقة هو الجمال، ومعني ذلك أن ثمت في العالم الخارجي جمالاً في ذاته مستقلاً عن عقل الإنسان)..

ولعل هنالك فرقاً بعيداً بين أن يفهم الإنسان الحقائق وبين أن يدركها، فالأولي– كما يقول سيد قطب في كتابه (أشواق الروح):- (.. هي (العلم)، والثانية هي (المعرفة)، في الأولي: نحن نتعامل مع ألفاظ ومعانٍ مجردة، أو مع تجارب ونتائج جزئية، وفي الثانية: نحن نتعامل مع استجابات حية ومدركات كلية..

في الأولى: ترد إلينا المعلومات من خارج ذواتنا ثم تبقي في عقولنا متحيزة متميزة، وفي الثانية: تنبثق الحقائق من أعماقنا، يجري فيـها الدم الذي يجري في عروقنا وأوشاجنا، ويتسق إشعاعها مع نبضنا الذاتي..

في الأولي: توجد الخانات والعناوين، خانة العلم وتحتها عنواناته، وهي شتي.. وخانة الدين وتحتها عنوانات فصوله وأبوابه.. وخانة الغني وتحتها عنوانات منهاجه واتجاهاته.. وفي الثانية: توجد الطاقة الواحدة المتصلة بالطاقة الكونية الكبري، يوجد الجدول السارب الواصل إلي النبع الأصيل!!)..

ومن ناحية أخري نجد الإمام الغزالي قد خطا خطوة أخري أبعد من هذه ومن تلك وهو يتحدث عن عجز الحواس عن اقتناص العلم المعرفي الصحيح القائم علي الإدراكات الكلية بقوله: (.. من أين لنا الثقة بالمحسوسات وأقواها حاسة البصر، فهي تنظر إلي الظل فتراه واقفاً غير متحرك، ثم بالتجربة والمشاهدة تعرف أنه متحرك، وأنه لم يتحرك دفعةً بغتةً، بل علي التدريج ذرةً ذرة، حتي لم تكن له حالة وقوف، هذا وأمثاله من المحسوسات يحكم فيها حاكم الحس بأحكامه ويكذبه حاكم العقل، وقد بطلت عنده الثقة بالمحسوسات، فلعله لا ثقة إلا بالعقليات التي هي من الأوليات، فقالت له المحسوسات: بمّ تأمن أن تكون ثقتك بالعقليات كثقتك بالمحسوسات وقد كنت واثقاً بي فجاء حاكم العقل فكذبني، ولولا حاكم العقل لكنت تستمر علي تصديقي؟! فلعل وراء إدراك العقل حاكماً آخر، إذا تجلي كذب العقل في حكمه، كما تجلي حاكم العقل فكذب الحس في حكمه، وعدم تجلي ذلك الإدراك لا يدل علي استحالته.

فقال: فتوقفت النفس في جواب ذلك قليلا وأيدت إشكالها بالمنام، وقالت: أما تراك تعتقد في النوم أموراً، وتتخيل أحوالاً، وتعتقد لها ثباتاً واستقراراً ولا تشك في تلك الحالة فيها، فبم تأمن أن يكون جميع ما تعتقده في يقظتك بحسٍ أو عقلٍ هو حق بالإضافة إلي حالتك التي أنت فيها؟! لكن يمكن أن تطرأ عليك حالة تكون نسبتها إلي يقظتك، كنسبة يقظتك إلي منامك، وتكون يقظتك نوماً بالإضافة إليها!! فإذا وردت تلك الحالة تيقنت أن جميع ما توهمت بعقلك خيالات لا حاصل لها!! ولقد نجا هذا الإنسان من هذه السفسطة- كما قال-: بـ(نـور) قذفه الله في الصدر غدا به العلم الموروث علماً معرفياً يقينياً، وأن هذا النور هو مفتاح أكثر المعارف)..

بهذا يتضح لنا أن المعرفة المرجوّة لا تتعلق بالأشياء أو الظواهر في حد ذاتها، إنما تتعلق بتلك العلاقات المتداخلة والمنسقة بينها، أي هي- كما قالوا-: (دراسة تتعلق بجسد مترابط من الحقائق الثابتة والمنظِّمة والتي تحكمها قوانين عامة تأتي نتاجاً لطرق ومناهج موثوق بها لاكتشاف الحقائق الجديدة في نطاقها).


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى