الأربعاء ٦ كانون الثاني (يناير) ٢٠١٠

رحلة الموت

فتحي العابد

يمكن أن أقول ولله الحمد أنا الوحيد الذي يستطيع التعبير عن شعوره بعد تلك الرحلة التي كادت أن تكون ثمنها حياتي..

كنت أعمل صيادا للسمك، وعادة ما تكون رحلاتنا البحرية خارج المياه الإقليمية.. ومن الطبيعي أنه كلما بعدت مناطق الصيد وطالت أيام الرحلة، كلما ازداد الخطر علينا من قبل الأحوال الجوية من تقلبات وأمواج عارمة.. رغم أننا في البحر الأبيض المتوسط ولسنا في قلب المحيطات الواسعة التي يكثر فيها التيارات البحرية الهائجة والإعصارات..
وفي أحد الأيام من شهر ديسمبر خرجنا في رحلة الصيد، وبعدنا كثير عن المياه الإقليمية لبلدنا، والتي لم يسبق لنا أن ابتعدنا مثل تلك المسافة.. كنا جمعنا كثيرا من السمك بمختلف أنواعه وكنا عشر صيادين في السفينة بما في ذلك القبطان فرحين بما آتانا الله. ولا أخفيكم رغم أنني أعمل في مجال صيد السمك منذ عشر سنوات ولكني وجدت في تلك الرحلة في نفسي شيئا من الخوف والقلق، مالم أجده في الرحلات السابقة.. وكنت معتادا علي أدعية السفر التي أدعوا بها في كل رحلة، وأن يرجعنا الله بالسلامة إلي أهلنا اللذين ينتظرون عودتنا وأيديهم علي قلوبهم.. قضينا في قلب البحر سبعة أيام بلياليها هي الأكثر في سفرات عملنا، كنت ليلة الثامن بينما شباكنا في قاع البحر أقرأ كتيب كنت قد اشتريته قبل إبحاري عن قصة مثلث برمودا.. وكيف أنه لغز من ألغاز الطبيعة التي احتار الناس في حله منذ مئات السنين.. ولا يزال حتي الآن رغم الإفتراضات الكثيرة هو أحد غرائب الطبيعة الذي يتحدث عنه البحارة والصيادون.. وتحيط به هالة من الدهشة والغموض.

ذاك المثلث الممتد بين الأطلنتي والأطلسي، حيث ابتلع بداخله مئات السفن، بل وحتي الطائرات دون أن يترك أي أثر، ولم يستطع أحد حتي الآن أن يفسر بشكل مؤكد سر هذا الإختفاء الغريب. وكأنه حديث عن الحكايات الخرافية والأساطير الأولية وقصص العهود الغابرة.. وكنت أقرأ أن الفارق يبقي هو أن مثلث برمودا حقيقة واقعية لمسناها في عصرنا هذا.. ويفسر الكاتب كيف أن مثلث برمودا يعتبر التحدي الأعظم الذي يواجه جيل هذا العصر والجيل القادم، باعتبار الموقع الجغرافي لهذا المثلث، أي غرب المحيط الأطلنطي تجاه الجنوب الشرقي لولاية فلوريدا بالولايات المتحدة الأمريكية، وكيف تأخذ شكل مثلث يمتد من خليج المكسيك غربا، إلي جزيرة ليورد من الجنوب ثم برمودا، تلكم الثلاثمائة جزيرة صغيرة، ثم من خليج المكسيك وجزر باهاما.

وقد عرف مثلث برمودا بهذا الإسم في سنة 1954 خلال حادثة اختفاء خمس طائرات انطلقت من قاعدة «لوديرديل» بولاية فلوريدا الأمريكية في مهمة تدريبية علي بعد 160 ميلا شرق القاعدة و40 ميلا شمالا وكانت تأخذ شكل المثلث قبل اختفاءها وهي تحلق في السماء.. ومن وقتها أصبحت هذه المنطقة تعرف بهذا الإسم، وقبل ذلك سميت هذه المنطقة بعدة أسماء منها: «جزر الشيطان، مثلث الشيطان». ونقطة الإختفـاء في هذا المثلث تكون في «بحر سارجاسو» حيث اشتهر بغرابته، وهي منطقة كبيرة تتميز مياهها بوجود ما يسمي بـ"سارجاسام" (نوع من الحامل)، يطفوا علي السطح علي هيئة كتل كبيرة تعوق حركة الملاحة، وقد اعتقد «كريستوفر كولومبو» عندما مر بهذه المنطقة في أولي رحلاته أن الشاطئ أصبح قريبا إليه.. وقد أطلق عليه الملاحون أسماء عديدة منها «بحر الرعب»، وذلك لما شاهدوا فيه من رعب وأهوال أثناء رحلاتهم.

وقد بدأت ظاهرة الإختفاء في برمودا لأول مرة سنة 1850م حيث اختفت في تلك السنة أكثر من خمسين سفينة لم يستطع طاقمها إلا بعث رسائل لا يفهم منها شيء، وأولها السفينة الأمريكية «انسرجنت» التي كان علي متنها 340 راكبا، بل حتي الغواصة «إسكوربيون» 1868م اختفت وعلي متنها 99 عسكريا، ثم تلت بعد ذلك السفينة العملاقة والمشهورة «تيتانيك» 1912م وعدد أفرادها الذين فقدوا حوالي 1525 فردا حسب مايذكره الكاتب.. رغم أن الأغلبية تعرف أنها اصطدمت بجبل ثلج، وكيف أن هذه الإختفاءات كانت تقع مابين شهر نوفمبر وفيفري من السنة الميلادية الجديدة.. وكيف أن أجهزة القياس في الطائرات أثناء مرورها فوق المثلث تضطرب وتتحرك بشكل عشوائي.. وكذلك بوصلة السفينة، مما يدل علي وجود قوة مغناطيسية أو قوة جذب شديدة وغريبة..

انتهت صفحات الكتاب ولكن رياح وعواصف مثلث برمودا لم تبارح خيالي، بل أطلقت العنان للخيال الفكري وكأنني داخل تلك العواصف والأمواج، أصارع وأفكر في حل للنجاة ولساني لم يكف عن الدعاء أن ينقذنا الله وأن يبعدنا عن تلك المياه التي لم يدخلها أحد وخرج حيا..
كانت ليلتها قارصة البرودة لكن بحرها هادئ هدوء غير مألوف في البحر، حتي أن السفينة وكأنها واقفة علي رصيف الميناء.. استغربنا ذلك الهدوء.. وإذا بذلك الهدوء بعد ساعات قليلة يصبح إعصارا بحريا.. لم نري له مثيل في حياتنا.. وبدأت السفينة تهتز من قوة الأمواج والرياح.. ونحن لا ندري ماذا نفعل.. حاولنا الإتصال بأقرب السفن إلينا لنجدتنا ومحاولة مساعدتنا في التعرف علي طريق الحياة والإبتعاد عن ذلك المكان، وكيفية الخروج من تلك العاصفة.

بعد حوالي ساعة ونصف وقعت الواقعة.. حيث مزقت السفينه تمزيقا، وصارت قطعا في قاع البحر.. بدأت أتضرع إلي الله بالدعاء المشهور: يا من يجيب المظطر إذا دعاه ويكشف السوء.. يا من يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء.. فدعوت بها الله كثيرا، وتذكرت قول الله عز وجل: «هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي البَرِّ وَالبَحْرِ حَتَّي إِذَا كُنْتُمْ فِي الفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ المَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ» صدق الله العظيم.
وبدأت أراجع نفسي وأسترجع سنوات عمري وأسأل: أغاضب أنت علي يا ربي؟ لا تأخذني بعملي وعاملني بفضلك ولطفك وكرمك، إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي العيش أو الموت.. أقولها بصوت خافت أحيانا، وأصرخ بأعلي صوتي أحيانا أخري، وأصبحت في سباق مع الزمن، كل دقيقه لها وزنها وقدرها، فلا أدري أتكون الدقيقة ألأخيرة في عمري أستغفر بها ربي وأشتري بها رضاه والحياة الخالدة..
سبحت لمدة ليلة كاملة وثلثي اليوم التالي متتالية.. وأنا بين الدعاء والرحمة واللطف.. مرتديا سترة النجاة.

أخذ مني الإرهاق كل مأخذ ووصلت إلي نقطة الإستسلام.. اشتدت علي القشعريرة فدعوت الله أن يخلصني من هذا الكابوس وناجيت ربي أسأله يارب لم يعد لي من قوة فقد يكون من الأفضل أن تأخذني إليك برحمتك. تذكرت أهلي وزوجتي وأولادي، فدعوت لهم.. وأحسست براحة عميقة عندما استحضرت معني أن الغريق في الجنة.. فأصبحت أري نعيم الجنة في الموت وأعيش جحيم الماء في الحياة.. وحمدت الله علي هذه الموتة وأنني لم أمت موت الفجاءة حيث لا وقت للمراجعة والإستغفار..

وفي هذه الآونة سمعت صوت محرك سفينة.. أخذت أصرخ وأستجمع كل قواي.. وإذا بها زورق حرس الحدود أخبرتهم عن مكان وجودي طائرة مراقبة المياه.. اقتربوا مني وأخبروني بأني ناج بإذن الله..

حالما صعدت الزورق سجدت لله طويلا رغم عدم استطاعتي التحرك.. فقال أحدهم: أتركوه يسجد لله.. وباغتني النوم وأنا ساجد لله..

وتسألني اليوم: كيف نجوت؟
أقول لك: إن الله أراد بي لطفا وخيرا عظيما يوم كتب الأرزاق والآجال واختار لي أسمي بسابق علمه.. وكيف أبي الله إلا أن يكون أرحم من قلوب الرحماء، وأن يكتب لي النجاة.. تذكرت قول الله تعالي: «وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَي فِي الظُّلُمَاتِ أَن لاّ إِلَهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ» الآية 88 من سورة الأنبياء.
اليوم فقدت جميع رفاقي في العمل ومالها من تبعات.. لكني أحس براحة داخلية وصرت أكثر رضا بقضاء الله وقدره..

فتحي العابد

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى